الواعظة.. والعلم بالدين
حين خلق الله الإنسان وأوجده من عدم، أوجد له كل ما يحتاج إليه من مأكل ومشرب.. وأنزل عليه منهجًا يسير على هديه في كل عصر. وقد تتمايز هذه المناهج من عصر لآخر، انطلاقًا من اتساع مدارك الإنسان وقدراته وحاجاته.. فكلما اتسعت مداركه كبرت قدراته وبالتالي كثرت حاجياته.
غير أن الهدف من هذه المناهج ظل واحدًا على الإطلاق، وهو توحيد الله سبحانه وتحقيق السعادة للإنسان في الدارين: الأولى والآخرة.
وشاءت إرادة الله سبحانه أن يختم رسالاته السماوية جميعها برسالة الإسلام، الرسالة الشاملة، الكافية، الوافية، لكل مناحي الحياة، وأراد سبحانه أن يكون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل وقد أمره الله بتبليغ هذا الدين إلى الناس كافة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [سورة الأعراف: 185].
ثم بين له المنهج فقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: 108].
وأمره بتبليغه للمؤمنين حتى يلتزموا به، فكان العمل الدعوي من أفضل الأعمال وأحسنها عند الله تعالى؛ إذ قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت: 33].
ذلك لما في الدلالة على الله من إرادة الهداية والخير للناس، وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم وبه يتأتى فلاحهم في الدنيا والآخرة، وكذا لما تقتضيه من التجرد من كل صفات الأنانية والبخل والطمع...
والمسلمون عامة مأمورون بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه في سورة آل عمران: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية». أخرجه البخاري.
وبما أن الدلالة على الله رسالة جليلة ومهمة عظيمة.. والهدف من خلالها هو إخراج الناس من ظلمات الغواية إلى نور الهداية، ومن ضيق الباطل إلى سعة الحق، فهي تحتاج إلى العلم والفقه، والصبر والحلم والرفق، وبذل النفس والمال والوقت والجهد... وهذه الصفات والأحوال قد تتوفر في بعض الرجال دون بعض النساء، وقد تتوفر في بعض النساء دون بعض الرجال.
لذلك لم يكن العمل الإرشادي حكرًا على الرجال دون النساء ولا العكس، وإنما هو شراكة بينهما ومسؤولية تقع على عاتق الطرفين معًا.
وقد ذكرنا في البداية أن الله سبحانه خلق الإنسان من عدم... فحين خلق الله أبانا آدم خلق من ضلعه أمنا حواء، كي تكون عونًا له في الأرض وفي كل شيء، ليس فقط في تهيئة جو من المودة والمحبة بينهما على أنهما زوجان، ولا تكثير النسل الآدمي وتعمير الأرض؛ بل في أساس السير إلى الله وتحقيق مراده، والدعوة إليه...
وحين تتحمل المرأة جزءًا من هذه المهمة فإن عليها أن تعمل وتنطلق في عملها من قيم وتعاليم إسلامية سمحة.
وقد صنعت لنا الرسالة المحمدية داعيات إلى الله تعالى منذ انطلاقها.
فهذه أمنا خديجة -رضي الله عنها- يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أبدلني الله خيرًا منها.. آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -عز وجل- ولدها إذ حرمني أولاد النساء». رواه أحمد.
إنها لشهادة عظيمة في حق هذه المرأة التي كانت أول من نصر الإسلام، فآمنت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من ساهم في الدعوة إلى الله فضحت بمالها وجهدها ووقتها في سبيل مرضاة الله ونصرة الحق، ثم أنجبت ذرية صالحة تتبع نهج النبي صلى الله عليه و سلم، وتدعو إلى الله -عز وجل-.
وتلقت أمنا عائشة -رضي الله عنها- العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت عنه علمًا كثيرًا طيبًا. فكانت من المكثرين في رواية الحديث، ولا يوجد في نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم امرأة أعلم منها بدين الإسلام.
روى الحاكم والدارمي عن مسروق، أنه قيل له: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: إي والذي نفسي بيده، لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال الزُّهري: لو جُمعَ علمُ عائشة إلى علم جميع النساء، لكان عِلم عائشة أفضل.
وعن أبي موسى قال: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديثٌ قط فسألنا عائشة؛ إلا وجدنا عندها منه علمًا.
وقال هشام بن عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا طب ولا بشعر من عائشة.
وكانت رضي الله عنها شديدة التمحيص والتنقيب فقد ذكر المزي: أنها كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، كما أنها تعد من رواة الحديث المكثرين.
وبقيت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذجًا رائعًا لبيت النبوة تفتي وتعلم وتنشر دين الله.. حتى كانت عضدًا للخلفاء والأمراء من بعده صلى الله عليه وسلم.
وتعد من أكثر الصحابة فتوى، قال ابن حجر -رحمه الله- في الإصابة (1/12): أكثر الصحابة فتوى مطلقًا سبعة: عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأم المؤمنين عائشة -رضوان الله تعالى عليهم-.
لقد ضربت لنا السيدة عائشة -رضي الله عنها- أروع المثل في إقبال المرأة المسلمة على التعلم؛ حتى امتازت بعلمها الغزير الواسع في مختلف نواحي العلوم؛ كالحديث، والطب، والشعر، والفقه، والفرائض، كما ذكر.
فالمرأة تتحمل مسؤولية كبرى، وعليها أن تشعر بأهمية دورها الدعوي، وتخلص النية لله سبحانه ولا تستصغر أي عمل ولو كان بسيطًا، فعليها أن تكون داعية في بيتها وبين بنات جنسها، بمعاملتها الحسنة وأخلاقها الفاضلة وسلوكها القويم، وعليها أن تشجع أهلها وأولاها على الرقى بهذا الدين.
ومن أروع القصص في التاريخ الإسلامي، أن امرأة صالحة كانت تعاني الفقر والجوع وضيق العيش مع زوجها وأولادها، وكانوا يبيتون ليال بأيامها بلا طعام يسد رمقهم.
وكانت هذه المرأة الصالحة، كلما أراد زوجها الخروج ليبتغي لهم طعامًا، كانت تتبعه مناديه: يا هذا اتق الله فينا فإننا نصبر على ألم الجوع في الدنيا ولا نصبر على حر نار جهنم يوم القيامة!.
هذا هو الوعي المطلوب وهذا هو نموذج المرأة الصالحة التي تدعو إلى الله وتساهم في نصرة دينها.
وأي تقاعس عن هذا الدور الدعوي سواء من الرجال أو النساء سيؤدي إلى البعد عن طريق الله وانتشار الجهل، الذي هو رأس كل مصيبة من المصائب التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم.
----------------
نُشر هذا المقال بمجلة (منار الإسلام)، عدد إبريل 2010م.
التعليقات