المسجد في السنة النبوية بين الإعلام والتعليم
إن المساجد من أشرف البقاع وأفضلها، وهي من أحب الأماكن إلى الله سبحانه؛ بل لعلو قدرها وشرفها أضافها الله إليه، قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الجن: 18].
ولما للمسجد من شأن فقد اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فحين قدم المدينة كان أول شيء أمر به هو بناء المسجد، وهذا إظهار وتنبيه لعميق الدور الذي يقوم به المسجد في بناء المجتمع وتوجيهه.
أولًا: منبر المسجد إعلام وتوجيه:
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبر واحد، مصنوع من الخشب، ليس فيه براعة النقش ولا روعة الفن، دعا الأمة منه، فلبت الدنيا واستجاب العالم، وتغير وجه الأرض وأشرقت بعد ظلماتها...
نعم، لقد كان منبر المسجد مكان توجيه ومركز تعليم ومقرًا لأداء الخطبة ومحلًا لتعليم الأمة.
والممارسة الإعلامية على المنبر من أبرز وسائل الإعلام الإسلامي، وليس من المبالغة في شيء إذا اعتبرناها من أهم عوامل نجاح العمل الإعلامي الإسلامي الذي مارس دوره على مرّ العصور والأزمنة، منذ انبثاق فجر الدعوة الإسلامية.
ومما لا شك فيه أن المنبر في المسجد أعظم مؤسسة إعلامية اعتمدها الإسلام للمسلمين ليرسلوا من خلاله التوجيهات والإرشادات والنصائح لمختلف شؤونهم وأحوالهم الدينية والدنيوية ولجميع الناس، والذي زاد من أهميته ارتباط مشروعيته بالصلوات المشروعة لها الخطابة، مثل الجمعة والعيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف ونحو ذلك (المسجد ونشاطه الاجتماعي على مدار التاريخ).
والمعهود من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، أن المنبر أقيم لتوجيه المجتمع في كل شأن من شؤون الناس الدينية والدنيوية، وفي مختلف المناسبات.
ولو تتبعتَ أحداث السيرة النبوية الشريفة، فإنك تجد ما يدّل على ذلك بشكل واضح جليّ، فالنبي عليه الصلاة والسلام، يقوم خطيبًا في صحابته الكرام، ليوجَه إلى الالتزام بالأمانة فيما وكل إليهم من مسؤوليات، وعدم استغلال المسؤولية للمصالح الشخصية وظلم الآخرين، فعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ: ابن اللُّتْبِيَّة عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي. فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: «أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا». [البخاري].
ومن أجل إشعار المجتمع أنهم أمام حكم الله سواء لا فرق بين شريف ووضيع، وأنه لا ينبغي للمجتمع أن يفاضل بين بعضه بعضًا في استيفاء الحدود وعدمها، قام الرسول عليه الصلاة والسلام خطيبًا في المسجد يحذر الأمة من ذلك، تروي السيدة عَائِشَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: "مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!». ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ، فقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا». [البخاري].
وفي مجال توجيه المجتمع للمحافظة على العورات والستر على المسلمين، وللتحذير من الغيبة، ارتقى المنبر وقام خطيبًا، يروى لنا أبو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة أسمع العواتق (جمع عاتق، وهي الأنثى أول ما تبلغ، والتي لم تتزوج بعد) في خدورها، أو قال: في بيوتها: « يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ». [أحمد، وأبو داود].
ومن أجل ظلم يقع على ضعاف المجتمع من قبل أقويائهم، يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد تلك المظلمة، ويحافظ على الأسرة الواحدة من الانفصام، ويحول بينها وبين الفراق، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا. قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ». [ابن ماجه].
ولردّ الشائعة ونصرة المظلوم بانتهاك عرض، وإشهاد المجتمع على الكاذب المفتري حتى يقوم عليه حكم الله وشرعه، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا على المنبر كما في حديث الإفك، فقال: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي». [البخاري].
من تلك الدلائل والشواهد التي كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خطيبًا، متعرضًا فيها لكثير من القضايا الاجتماعية والتربوية نجد أن المنبر في الإسلام ليس محصورًا على القضايا الدينية فحسب؛ بل إنه عام وشامل لكل قضية تهمّ أمر المسلمين في أي مجالٍ من مجالات الحياة.
ولعلي بتلك العجالة أوضحت ما للمنبر من أهمية إعلامية توجيهية عظيمة تؤثر في حياة الناس وتوجههم نحو الهدى والخير، وكيف كانت تنبثق منه كلمات الحق والنور والعدل والتسامح، فتنبعث في أرجاء الكون سعادةَ وخيرًا للعالمين.
ثانيًا: حِلَق العلم والتربية في المسجد:
لعلَّ حلق العلم ومجالس الوعظ والذكر في المسجد من أبرز أنشطته التوجيهية، التي لا يمكن للمجتمع أن تكون له حياة وارتقاءٌ واستقامة إلا بها، وإن النشاط التعليمي يعتبر من أهم وظائف المسجد الاجتماعية بعد الشعائر التعبدية المحضة، مثل الصلاة والذكر، وإنك ترى اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنشاط التعليمي، ومدى ترغيبه في طلب العلم والمعرفة.
ولو أراد باحثٌ عدّ الأحاديث الواردة في فضل العلم وأهله والترغيب في طلبه، لأعياه البحث وعجز عن بلوغ المراد نظرًا لكثرة النصوص ووفرة الأدلة، وليس هناك دين من الأديان، ولا شريعة من الشرائع رفعت مرتبة طلب العلم إلى درجة الواجبات والفرائض كشريعة الإسلام فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم». [ابن ماجه]، يعني: العلم النافع بمفهومه الواسع الذي يشمل علوم الدين والدنيا.
لقد أقام عليه الصلاة والسلام حلق العلم بنفسه وشجع من يقيمها، ورغب في تعهدها والحضور إليها، وحذر الأمة من التقصير فيها، وما ذلك إلا لأهميتها وضرورتها الملحة لأبناء المجتمع، ولا ننسى كيفية فداء المشركين يوم بدر، فقد روى ابن سعد عن عامر الشعبي قال: "أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سبعين أسيرًا، وكان يُفادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلَّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه». [الطبقات الكبرى لابن سعد].
وإليك بعض الأحاديث الشريفة التي تحثّ على العلم وترغّب فيه، جاء في الصحيح: عن أبي و اقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذا أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فُرْجَة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه». [البخاري].
وعن عبد الله بن عمرو قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرءون القرآن ويدعون الله والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل علي خير، هؤلاء يقرءون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون وإنما بُعثت معلمًا»، فجلس معهم. [ابن ماجه].
وفي رواية الدارمي: «أما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم ويعلمون الجاهل فيهم أفضل».
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه». [مسلم].
لقد عرف الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- أهمية التعليم في المسجد وعقد دروسه وفضل ذلك فكانوا يتنافسون في الحضور إليها ويوصي بعضهم بعضًا بها، وكيف لا؟! وفي المسجد توظف طاقات الشباب المسلم في طريق منتج خير كثير الفوائد، كما يُعطى الحظ الكامل من الثقافة الإسلامية المتوازنة والعلم الراشد.
ثالثًا: النساء وحقهنّ في التعلم:
النساء نصف المجتمع، وصلاحهن صلاح للأجيال، وفسادهن فساد للمجتمع كله: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]، وورد في الحديث: «النساء شقائق الرجال». [أبو داود، وأحمد، والدارمي، وضعفه الترمذي، وحسنه بعضهم].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك. فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن. [البخاري].
وإن الصحابية عمرة بنت عبد الرحمن قالت: أخذت {ق والقرآن المجيد} من في (فم) رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. [مسلم].
وهكذا يظهر دور المسجد الفعَّال في تربية المرأة المسلمة وإصلاحها وتوجيهها، وذلك بوجود الإمام المعلم المخلص والموجه المرشد الصادق، ولها شهود صلاة الجماعة، والاستماع إلى حلق العلم ودروس الوعظ والإرشاد، كيف لا وقد كنّ -رضي الله عنهن- ينافسن الرجال في الاستماع إلى حلق العلم والتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن موقف الإسلام من المرأة كان تقدمًا فكريًا إنسانيًا قبل الحضارة الغربية الحديثة باثنى عشر قرنًا على الأقل في الاعتراف بأهلية المرأة كاملة غير منقوصة، وحسبنا أن نعلم أن أسباب الحجر في التشريع الإسلامي هي: الصغر والجنون، بينما هي في القانون الروماني وفي القانون الفرنسي حتى عام 1938م ثلاثة: الصغر، والجنون، والأنوثة. (حق الزوجة على الزوج وحق الزوج على الزوجة ص27).
إن المرأة إنسان مكلف، ومطلوب منها أن تأخذ دورها المناسب في بناء المجتمع، ولا يمكن لها ذلك ما لم تأخذ حظها الوافر من مجالس العلم والتربية، ولقد ضمنت لها الحياة الرغيدة إن هي أحسنت عملًا والتزمت بشريعة الله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا} [النساء: 124]، وقد أعطاها الإسلام هذه المساواة في العمل والأجر والمساواة في الإنسانية: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} [النساء: 32].
------------------
نشر هذا المقال بمجلة (منار الإسلام) عدد ديسمبر 2009م.
التعليقات