القيم الإنسانية في الإسلام (قيمة الوسطية والاعتدال)
قيم الوسطية هي "أُم القيَم" الإسلامية على الإطلاق؛ لأن إجراءها واعتمادها في التعامل مع كليات الشريعة الخمس، يحقق إنسانية الإنسان على أكمل وأبهى مظاهرها، ويثبت بالتالي إنسانية الإسلام وشموليته وعالميته.
يقول الحق تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة: 143]، فلا إفراط ولا تفريط في الإسلام، ولا غلو ولا تقصير؛ وإنما وسط أمثل، واعتدال أقوم، نظرًا وممارسة، فكرًا وعملًا.
الوسطية في مجال الدين
-عقيدة وعبادة-
أ- ففي الاعتقاد: جعل الإسلام خطابه لأهل الكتاب قائمًا على الحوار الذي يُعد قيمة أُخرى مهمة للتقريب بين الأديان والحضارات، الذي لا يتم بالتهديد والترهيب، لا عن طريق حجة القوة؛ وإنما باللقاء والتحاور؛ بحثًا عن قاسم مشترك بين الجميع، أساسه الكلمة الحسنة، وقوة الحجة؛ ذلك أن الحوار فضيلة بين رذيلتي الانغلاق والذوبان، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله} [آل عمران: 63].
ب- وفي العبادات: حذَّر الإسلام من المغالاة في صلاة النوافل، وصيام التطوع، وتكرار الحج والعمرة، رياءً وتفاخرًا، فقد تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم من أولئك الرَّهط الثلاثة الذين شغلوا أوقاتهم بالعبادة، منشغلين بذلك عن واجباتهم اليومية الدنيوية، فقال لهم ناصحًا ومنبهًا صلى الله عليه وسلم: «... أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». [صحيح البخاري].
إنَّ الإفراط في العبادة يؤدي إلى الملل، والانقطاع عنها، مصدَاقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذا الدِّين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك العبادة، فإنَّ المنبَت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقَى». [مسند أحمد: الحديث عدد: 12579].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدِّين يُسر، ولن يُشاد الدين أحد إلَّا غلبه». [صحيح البخاري].
الوسطية في الحفاظ على النفس
دعا الله تعالى إلى رعاية حقوق البدن: الروحية، والجسدية. فلا يغلب جانب على جانب؛ وإنما اعتدال في الجانبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص الذي أنهك بدنه بصيام الدهر، وقيام الليل، وهو ينهاه عن ذلك: «صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإنَّ لعينك عليك حقًا، وإنَّ لزوجك عليك حقًا، وإنَّ لزورك (أي: ضيفك) عليك حقًا». [صحيح البخاري].
الوسطية في اعتماد العقل
فكما أنه لا إفراط ولا تفريط في التعامل مع الجسم، كذلك الشأن مع العقل؛ لأن الاعتماد عليه كليًا، قد يؤدي إلى الكفر والإلحاد -والعياذ بالله- إذ إن المعرفة المطلقة ليست حكرًا على العقل؛ إنما هي عند خالق هذا العقل؛ لذلك نهانا الله تعالى عن الإغراق في الاحتكام في كل شيء إلى العقل، فقال عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101].
جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم، فقال: «ما جمعكم؟»، فقالوا: اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته. فقال صلى الله عليه وسلم: «تَفَكَّروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله؛ فإنكم لن تقدروا قدره».
الوسطية والاعتدال في العناية بالنسل
إنها عناية تأخذ من كل شيء بطرف، لتشمل الجوانب العاطفية، والبدنية، والنفسية، والعقلية؛ ولكن باعتدال، ومن غير تغليب جانب على آخر؛ بحيث يشب الأبناء متكاملين ومتوازنين بدنيًا، وعقليًا، وروحيًا، وبذلك نحميهم من الانحرافات الفكرية المتطرفة، ومن الانزلاقات الخطيرة التي لا تُلحق الضرر بهم وحسب؛ إنما بأفراد المجتمع كافة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسَن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، كانت له سترًا من النار». [الطبراني].
الاعتدال في التعامل المالي
لقد حذر الحق تعالى من المبالغة في الاهتمام بالمال كسبًا وإنفاقًا.
أ- كسبًا: حذَّر الإسلام من الكسب الحرام، ودعا إلى الحلال منه، فالربا مثلًا منهي عنه؛ لأنه كسب لم يتأت من جهد مبذول، في حين دعا إلى الكسب عن طريق البيع والشراء؛ لأن ربحهما متأت بعد بذل الجهد والعمل في جلب البضائع وعرضها لمحتاجيها، قال عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275].
ب- وإنفاقًا: نهت الشريعة السمحة عن الإسراف والتبذير، ولو في أوجه الحلال، داعية إلى انتهاج سبيل الوسطية في ذلك. قال عز من قائل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67]، وقال أيضًا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا، إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الإسراء: 29، 30].
فالتوسُّط في التعامل مع المال، يكون بانتهاج سبيل الاقتصاد في كل شيء؛ ذلك أن الاقتصاد هو فضيلة بين رذيلتي الإسراف والتقتير.
الخاتمة
هذا هو الإسلام، وهذه هي مجالات ومظاهر إنسانيته:
فلنعمل على تبنِّيها، وتطبيقها في تفكيرنا وسلوكنا، ولنسعى إلى نشرها: محليًا، ووطنيًا، وعالميًا، علَّنا بذلك نقدم صورة ناصعة جليَّة عن هذا الدين للآخر حيثما كان هذا الآخر الذي نراه يتوجس خيفة من هذا الدين السمح، وعلَّ ذلك يساعد على خلق المحبة والأخوة بين الجميع، ويسهم في نشر السلام في شتَّى ربوع العالم.
وقد يكون في مقولة الفيلسوف والكاتب الفرنسي المسلم روجيه جارودي: الإسلام هو منظومة قيَم متكاملة لها اعتبارها، "ما يحفزنا على نشر هذه المنظومة" المعتبرة من القيم الإسلامية عالميًا، بمختلف الوسائل السمعية والبصرية وعن طريق الإنترنت؛ حتى يعي الجميع أن الإسلام دين يُشيِّد ولا يهدم، ويحرص على نشر الأمن والسلام في ربوع العالم وأنحائه.
-----------
(*) نُشر هذا المقال بمجلة منار الإسلام- عدد يونيو 2008م.
التعليقات