إلى روضة الرسول
إلى روضة الرسول([1])
الأستاذ الدكتور
محمد عبد الله دراز
الرَّائد:
هيا بنا أيها الرفاق.. هيا!
هَيَّا إِلىَ مَشْرقِ النُّورِ وَالْهُدَى! |
|
هَيَّا إِلىَ سَاحَةِ الجُودِ! |
القافلة:
أَيُّهَا الرَّائِدُ، فَلْتُوُسِعْ مِنَ الْخُطَا |
|
وَلنَسِرْ خَلْفَ خُطَاكَ! |
أَيُّهَا الحَادِي، وَزِدْنَا |
|
مِن هِيَامٍ وَاشْتِيَاقٍ بِحِدَاكَ! |
الرَّائد:
واحر شوقاه!
النَّفْسُ طَمْآى فَمَا تُرْوي! |
|
والْرُّوحُ جَوْعَى، فَمَا تَغْتَذِي؟ |
والأَرْضُ مُدَّتْ فَمَا تَنْطَوِي؟ |
|
وَالْلَيْلُ طَالَ مَتَى يَنْجَلِي؟ |
القافلة:
أَيُّهَا الرَّائِدُ، فَلْتُوُسِعْ مِنَ الْخُطَا |
|
وَلنَسِرْ خَلْفَ خُطَاكَ! |
أَيُّهَا الحَادِي، وَزِدْنَا |
|
مِن هِيَامٍ وَاشْتِيَاقٍ بِحِدَاكَ! |
الرَّائد:
يَا لَيْتَ شِعْرِي! مَتَى الْمُلْتَقَى؟ |
|
وَبَعْدُكُم سَيَسْتَقِرُّ الْنَوَى! |
فَالْرَّكْبُ أَضْنَاهُ طُوُلُ السَّرَى! |
|
وَالشَّوْقُ أَضْرَاهُ بُعْدُ المَدّى! |
القافلة:
مَهْ يَا حَادِي، لَقَدْ بَرَحَ الشَّوْقُ بِنَا! |
|
فَمَا نُطِيقُ مَزِيدًا فِي الانْتِظَارِ |
الرَّائد:
لَقَدْ هَانَ يَا نَفْسُ مَا تَشْتَكِي! |
|
وَوَافَاكِ يَا قَلْبُ مَا تَرْتَجي |
أَمَا تَرَى طِيبَةً؟ هَا قَدْ نُورُهَا |
|
وَأَرْضُ الحِمَى قَدْ بَانَ مَزَارُهَا؟ |
أَحَقًّا سَاّدْخُل فِي رِحَابِ الرَّسُولِ؟ |
|
أَحَقًّا سَاُعْطِي جَوَازَ الدُّخُولِ؟ |
أَفِي يَقَظَةٍ أَنَا أَمْ فِ حُلْمٍ؟ |
|
وَأَنَّى لِمِثْلِي بِهَذَا الحَرَم؟ |
أَيُّهَا النَّفْسُ لَا تَيْئَسِي |
|
كَلَّا وَلَا تَبْئِسِي! |
دُونَكِ بَاتُ الْحِمَى فَاعْتَصِمِي |
|
وَجَاءَت الْفُرْصَةُ فَلْتَغْتَنِمِي! |
هَأَنْتَذِي فِي جِوَارِ الرَّسُولِ |
|
هَأَنْتَذِي فِي مَقَامِ المثُولِ! |
أَلَا فَاجْتَلِي مِشْهَدَ الْجَلَالِ الْوَقُورِ |
|
أَلَا وانْهَلِي مِنْ شَذَا الْعَبِيرِ الطَّهُورِ! |
يَا لَهَا لَحْظَةً تَنْطَوِي فِيْهَا دُهُور! |
|
أيُّها الطُّهر المسجَّى في ثيابه!..
أيُّها النُّور المحجَّب في مِشكاته!..
كم قدَّمت في حياتك من عمل؟!
وكم خلَّفت وراءك من أَثر؟!
وكم لك في أعناقنا من مِنَن؟!
مِنَنٌ ليس فوقها إلا مِنَّةُ الله علينا، حين بعثك بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا.
ها هنا رَفعت للإسلام منارته.. ها هنا رسمت للعالم دستوره وشريعته من فوق هذا المنبر.
كم أقمت من حُجَّةٍ!، وأَوضَحت من مَحَجَّةٍ! وكم استمعت إلى سائل! وكم حللت من مشاكل!.
وفي هذا المحراب.. كم تلوت آيات من الوحي بينات، خَشِعَت لها النُّفوس، وَوَجِلَت منها القلوب، وذَرفت منها العيون.
وفي هذه الحجرات.. كم أَحييت ليلك! وكم أَيقظت أَهلك! وكم شددت مِئزَرك في طاعة الله! وكم كنت في هذه الحجرات بأسلوب عشرتك لأهلك وولدك المثل الأعلى للأزواج والآباء!.
وبين هذا المنبر.. وهذه الحجرات.. كم التحمت صفوف المؤمنين من ورائك، وانتظموا تحت لوائك!.
وكم في هذه الرَّوضة وَرَدَت إليك كتب، وصَدَرَت عنك منها كتب! وكم استقبلت فيها من وفود! وكم عقدت فيها من ألوية! وكم وثقت فيها من عهود!.
وفي زوايا هذا المسجد.. كم تكدَّست لديك من أموال الزكوات والصدقات، فلم تلبث أن فرقتها بين مستحقيها؛ حتى لم يبق منها في حَوزتك دينار ولا درهم، ولم يُصَب أهلك منها حبَّة، ولا شِقِّ تمرة! لقد صان الله عنها شرفك وكرامتك؛ إذ حرمها عليك وعلى قرابتك!.
ومن حول هذا المسجد.. وفي خلال هذه المدينة.. كم حَاوَلت شِيعُ النِّفاق والكفر أن تُحَوِّل النَّاس عنك وعن مسجدك! وكم حاكت حولك من دسيسة! وكم دبَّرت لك من مكيدة؛ حتى لقد بنى الخائنون مسجدًا ينافسون به مسجدك، ضِرَرًا وكفرًا، وتفريقًا بين المؤمنين! وكانت فتنة أطفأتها بما أراك الله من حكمة، وأنزل عليك من سكينة، فلم تقرَّ أعين المنافقين بالصلاة في وكرهم الذي أسسوا بنيانه على شفا جُرفٍ هار، ولزمت مسجدك هذا الذي أسسته على تقوى من الله ورضوان. وهكذا بقي كما تراه راسخًا شامخًا على مرِّ العصور والدُّهور: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
وحول هذه المدينة من قريب أو بعيد.. كم تألبت على دعوتك أحزاب! وكم تحالفت عليها أحلاف! وكان الأعداءُ في خارج المدينة قد اتخذوا من أعدائك في داخلها عينًا وعونًا، وظهيرًا ونصيرًا. فأعلنوها عليك بجمعهم حربًا ضروسًا: حرب أعصاب، وحرب صراخ وضراب، فصارعتهم في كل ميدان، وفللت جيوشهم في كل مكان؛ حتى أنه لما فرُّوا عند الصدمة الأولى في موقعة من المواقع، تقدمت لجيوش الأعداء وحدك، وتحديت كتائبهم بعزمك، وكأنك كنت تصيح فيهم بمقالة أخيك نوح –عليه السلام-: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. أو مقالة أخيك هود –عليه السلام-: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 55].
ثمَّ لما التفَّ حولك من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم تُفْدِ نفسك بنفوسهم؛ ولكنك خُضتها معهم كواحد منهم، فعرضت جسمك الشريف لطعانها، ووجهك الكريم لنبالها، وصرعت وُجرحت، وسالت دماؤك الزكية، فما باليتها في سبيل الله، ولما سقط الشهداء صرعى من حولك لم تَهن ولم تَسْتَكِن لما أصابك فيهم، وما زلت تبذل جهدًا إثر جهد، وتقدم تضحية بعد تضحية؛ حتى كان نصر الله والفتح، ورأيت النَّاس يدخلون في دين الله أفواجًا، فلما مكَّن الله لك دينك الذي ارتضى لك، واستخلفك في الأرض كما استخلف النَّبييِّن من قبلك، وتركت لأُمتك ما إن تمسكت به كان لها عزُّ الدُّنيا وسعادة الآخرة؛ هنالك أوحى الله إليك أن قد بلغت رسالتك، وأديت أمانتك، ودعاك إلى لقائه راضيًا مرضيًا، هاديًا مهديًا.
فسلام عليك رسول الله..
سلام عليك أيُّها الصَّادق الأمين..
سلام عليك أيُّها البَرُّ الرءوف الرحيم..
سلام عليك أيُّها الحي السَّخي القوي العفيف الحليم..
سلام عليك خير زوج وأكرمه، وأبرَّ والد وأرحمه..
سلام عليك أفصح مُربٍّ وأحكمه، وأَسْوَس قائد وأحزمه..
سلام عليك يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تُبعث حيًّا..
التعليقات