المؤتمر الذي شرعه الله
المؤتمر الذي شرعه الله([1])
أذن هلال ذي الحجة في المسلمين بالحج، فأتوا بيت الله من كل فج عميق، ومن كل قطر سحيق، رجالًا وعلى كل ضامر، وفوق كل عائم وطائر؛ ليشهدوا المؤتمر الإسلامي الإلهي الذي فرض الله شهوده على كل مسلم مرة في العمر؛ ليؤلف القلوب في ذات الله، ويؤاخي الشعوب في نسب الحق، ويستعرض علائق الناس في كل عام فيوشجها بالإحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوى المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاءً واحدًا، تجأر به النفوس المظلومة جؤارًا، تردده الصحراء والسماء!.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر!، لطالما حصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة، ثم قطعوا بينهم الأسباب، وحرموا عليهم التواصل، وفصلوهم عن الماضي الملهم، والمستقبل الواعد، بطمس التاريخ، وقتل اللغة، وإطفاء الدين، فلم يبق لهم جُمعة إلا في موسم الحج لو خلوا بينهم وبينه، ويسروا لهم اللقاء فيه؛ ولكن الحوائل كانت تحول في العلن، والحبائل كانت تنصب في السر، فلم يكن للحج تلك الحكمة التي أرادها الله من شرعه، ولا للمسلمين تلك الرادة التي يردها عليهم من نفعه.
كان ذلك والشمل شتيت، والرأي مختلف، والقوة مبعثرة، والوطن محتل، والإرادة أجنبية، فلما خشع الاستعمار، وخضع البغاة، وجلا الدخيل، وأصبح الحكم خالصًا للإسلام في الدول العربية الأربع عشرة، والجاهليات الإسلامية الخمس، لم يعد يفصل بين المسلم وأخيه من المغرب إلى المشرق إلا تخوم جغرافية، ورسوم سياسية، لا تقطع قلبًا عن قلب، ولا تمنع يدًا عن يد، ولا تحبس لسانًا عن لسان، ولا تحول بين أخوة النسب وإخوان العقيدة أن يتلاقوا في ميقات الله على أم القرى؛ ليذكروا اسمه -جلَّ وعزَّ- في أيام معلومات، على ما أفضل عليهم من نعمة الإسلام، ووحدة الإيمان، وإجابة إبراهيم، وتفدية إسماعيل، وبعثه المصطفى خاتم الرسل وفاتح العالم الجديد.
إن الحج والزكاة هما الركنان الاجتماعيان من أركان الدين، يقوم عليهما الأمر بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، كما يقوم على الثلاثة الأُخَر الأمر بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه.
فالزكاة تقيم نظام المجتمع على التعاطف والرحمة، والحج يقيمها على التعارف والألفة، فيحقق الأول بنفي العقوق معنى الإخاء، ويحقق الثاني بمحو الفروق معنى المساواة، والإخاء والمساواة شعار الإسلام، وقاعدة السلام، ومِلاك الحرية، ومعنى المدنية الحق، وروح الديمقراطية الصحيحة.
كان الحج -وما زال- مَطْهَر الدنيا، ترحض فيه النفوس عن جوهرها أوزار الشهوات، وأوضار المادة..
وكان الحج -وما زال- ينبوع السلامة، تَبْرد عليه الأكباد الصادية، وترفُه لديه الأعصاب الوانية..
وكان الحج -وما زال- مثابة الأمن، تأنس فيه الروح إلى موضع الإمام، ويسكن الوجدان إلى منشأ العقيدة، وينبسط الشعور بلك الإشراق الإلهي في هذه الأرض السماوية.
وكان الحج -وما زال- موعد المسلمين في أقطار الأرض على (عرفات): يتصافون على الوداد، ويتآلفون على البعاد، ويقفون سواسية أمام الله، حاسري الرؤوس، خاشعي النفوس، يرفعون إليه دعوات واحدة، في كلمات واحدة، تَصعدُ بها الأنفاس المضطرمة المؤمنة، تصعد البخور من مجامر الطيب، أو العطور من نوافح الروض! هنالك يقف المسلمون في هذا الحشر الدنيوي؛ حيث وقف صاحب الرسالة، وحواريو النبوة، وخلفاء الدعوة، وأمراء العرب، وملوك الإسلام، وملايين الحجيج من مختلف الألوان والألسن، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصلون النظر بالفكر، ويذكرون في هذه البقعة المحدودة، وفي تلك الساعة الموعودة، كيف اتصلت هنا السماء بالأرض، ونزل الدين على الدنيا، وتجلى الله للإنسان، ونبتت من هذه الصحراء الجديبة جنات الشرق والغرب، وثمرات العقل والقلب، وبينات الهدى والسكينة.
إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثرًا للفداء، ورمزًا للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر، وتذكير بالوحدة.
هنا.. غار (حراء) مهبط الوحي. وهنا.. (دار الأرقم) رمز التضحية. وهنا.. (جبل ثور) منشأ المجد. وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا الشعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني أمية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة!!.
قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا}، أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم، وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يَسوغ في تركها معذرة، فأنت تستطيع بالمال اليسير، وفي الزمن القصير، أن تحج على الباخرة، أو السيارة، أو الطائرة؛ دون أن تعرض حياتك للموت، وثروتك للنهب، وصحتك للمرض!.
لقد كان الحج لرهقه الشديد، وجهده الجاهد، يكاد يكون مقصورًا على الطبقات الخشنة من الزراع والصناع والعمال، أما الناعمون المترفون من ذوي الرأي، وأصحاب الزعامة؛ فما كانوا يقدمون عليه، ولا يفكرون فيه، فظل جَدواه على المسلمين ضئيلًا، لا يتعدى الحدود الخاصة من قضاء المناسك، وأداء الزيارة.
فماذا يمنع رؤساء العرب، وزعماء المسلمين أن يتوافوا على ميعاد الله في أرض رسوله ليحققوا حكمة الحج بالتشاور في أمور دينهم، وشؤون دنياهم، على النية الصادقة، والرأي الجامع، والغرض المشترك؟!
إن في حجهم البيت زمنًا بعد زمن إعلاء لشأن الملة، وإغراء بأداء الفريضة، وسعيًا لجمع الكلمة، وسبيلًا إلى عموم الوحدة.
وإن البيت العتيق الذي انبثق منه النور، ونزل من سمائه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، لا يزال منارًا للأمة، ومثارًا للهمة، ومشرق الأمل الباسم، بالعصر الجديد، والمستقبل السعيد.
***
التعليقات