فقه الحج (4/2)

الفصل الثاني

الترغيب في الحج والترهيب من تركه

وفيه  بابان:

الباب الأول

الترغيب في الحج، والترهيب من تركه

 

أولًا: فضل الحج والترغيب فيه:

1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ". قيل: ثم ماذا؟ قال: "جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حَجٌّ مَبْرُورٌ" (البخاري، رقم 1519).

قال النووي: "الأصح الأشهر: أن المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة. وقيل: هو المقبول. ومن علامة القبول: أن يرجع خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا رياء فيه. وقيل: الذي لا يعقبه معصية. وهما داخلان فيما قبلهما" شرح صحيح مسلم: النووي (9/126، 127).

وقال الحافظ ابن حجر: "قال ابن خالويه: المبرور: المقبول. وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم. ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، والله أعلم" فتح الباري: ابن حجر (3/487).

2- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل. قال: "لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ" . (البخاري ، رقم 1520).

قولها: "نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ" -بفتح النون-: أي نعتقد ونعلم؛ وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة.

قوله: "لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ": قال ابن حجر: "اختلف في ضبط "لكُن"، فالأكثر بضمّ الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي: "لكِن" بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهادًا لما فيه من مجاهدة النفس" فتح الباري (3/487).

3- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". (البخاري ، رقم 1521، واللفظ له، ومسلم ، رقم 1350).

قال النووي: "قال القاضي: هذا من قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197]. والرفث: اسم للفحش من القول. وقيل: هو الجماع. وهذا قول الجمهور في الآية، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. وقيل: الرفث: التصريح بذكر الجماع. قال الأزهري: هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وكأن ابن عباس يخصصه بما خوطب به النساء" شرح صحيح مسلم (9/127).

قوله: "وَلَمْ يَفْسُقْ"، أي: لم يأت بسيئة ولا معصية.

وقوله: "رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، أي: بغير ذنب. وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات.

4- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ" (البخاري، رقم 1773، ومسلم، رقم 1349).

5- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَديدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّةِ" أحمد (1/25)، والترمذي (رقم 810)، والنسائي (رقم 2631).،

قال المباركفوري: "قوله: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ"، أي: قاربوا بينهما، إما بالقران أو بفعل أحدهما بالآخر... "فَإِنَّهُمَا"، أي: الحج والاعتمار، "ينفيان الفقر"، أي: يزيلانه، وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب، "وَالذُّنُوبَ"، أي: يمحوانها. وقيل: المراد بهما الصغائر؛ ولكن يأباه قوله: "كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ" وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال النار للتصفية، "خَبَثَ الْحَديدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، أي: وسخها" تحفة الأحوذي: المباركفوري (3/454).

6- عن ماعز - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إِيمَانٌ بِاللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْأَعْمَال كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا" (أحمد، 4/342، والطبراني ، 20/344).

7- عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقه الموت، فبكى طويلًا... وفيه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو! أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهَدَّمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" (مسلم ، رقم 121).

8- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّر بِالْجَنَّةِ" (الطبراني ، رقم 7779).

9- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثَةٌ فِي ضَمَانِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجُلٌ خَرَجَ حَاجًّا" (الحميدي، 2/466، وأبو نعيم ، 9/251).

10- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كلمات أسأل عنهن. قال: "اجْلِسْ"، وذكر الحديث. وفيه قال صلى الله عليه وسلم عن الحاج: "فَإِنَّ لَهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ أَنَّ رَاحِلَتَهُ لَا تَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (عبد الرزاق ، رقم 8830، والطبراني، رقم 13566، والبيهقي ، 6/294).

11- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَرَجَ حَاجًّا، فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (أبو يعلى، 1/105، والطبراني ، 5/282).

12- عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟" (رواه مسلم رقم 1348).

ثانيًا: الترهيب من ترك الحج:

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا" (رواه الترمذي، والبيهقي)؛ وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كانت له جدة الجدة: الحظ، والغنى. ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".

وعن أبي أُمامة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا" رواه البيهقي (4/334).

وعن أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ –عزَّ وجلَّ-: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ، يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ" رواه ابن حبان (9/16) (رقـم 3703)، وأبو يعلى (2/304) (رقم 1031)، والبيهقي (5/262) (رقم 10171)، (3/283) (رقم 4133)، والهيثمي (3/206).

فهذه الأحاديث، وتلك الآثار، تدل على مدى ذنب المتهاون بأداء هذه الفريضة، وأنه بتهاونه وتسويفه قد وقف على شفا هاوية من الجحيم؛ لأنه لا يؤمن عليه أن ينقلب ذلك التهاون والتسويف إلى استباحة ترك هذه الفريضة، أو احتقارها، وعدم المبالاة بها -والله يحول بين المرء وقلبه- فيصبح -والعياذ بالله تعالى- من الكافرين، ولا غرابة؛ فإن هذا ظاهر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول صاحبه المتقدم: "فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا".

 

الباب الثاني

                             منافع الحج

 

قال الله تعالى: {لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} [الحج: 28، 29].

قال الطبري -رحمه الله-: "وأولى الأقوال بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضى الله والتجارة؛ وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت" جامع البيان (10/147).

وقال الشوكاني -رحمه الله-: "المنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة" فتح القدير: الشوكاني (3/642).

وقال السعدي -رحمه الله-: "أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد، كُلٌّ يعرفه" تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي (3/317).

ومن منافع الحج وفوائده العظيمة ما يلي:

 

أولًا: تعظيم شعائر اللَّه وحرماته:

فهذه من أعظم منافع الحج والعبادات، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

قال ابن الأثير -رحمه اللَّه-: "وشعائر الحج: آثاره، وعلاماته، جمع شعيرة. وقيل: هو كل ما كان من أعماله؛ كالوقوف، والطواف، والسعي، والرمي، والذبح، وغير ذلك.

وقال الأزهري: الشعائر: المعالم التي ندب اللَّه إليها، وأمر بالقيام عليها، ومنه سُمِّي المشعر الحرام؛ لأنه معلم للعبادة وموضع، ومنه حديث زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أتَاني جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ" (ابن ماجه ، (رقم 2923). وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه، 3/16).

والمشاعر: مواضع المناسك. والمشعر الحرام: جبل بآخر مزدلفة، واسمه قُزَح  

وأما حرمات اللَّه تعالى في قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، فقال ابن كثير -رحمه اللَّه-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}، أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، أي: فله على ذلك خير كثير، وثواب جزيل، فكما [أن] على فعل الطاعات ثواب كثير، وأجر جزيل؛ كذلك على ترك المحرمات والمحظورات" تفسير القرآن العظيم (10/51).

ثانيًا: مغفرة ذنوب الحاج:

فيرجع إلى وطنه كيوم ولدته أمه لا ذنب عليه، إذا كان متَّقيًا ربه في حجِّه: بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".

ثالثًا: مضاعفة الصلوات في الحرم:

فإن الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "... وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ" (ابن ماجه، رقم 1406، وأحمد 3/343.

رابعًا: الفوز بالجنة، والنجاة من النار:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ" (البخاري، رقم 1773، ومسلم رقم: 1349). وهذا أعظم المنافع التي تحصل لمن حج حجًا مبرورًا؛ لأن من زُحزح عن النار، وأُدخل الجنة؛ فقد فاز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْـجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

خامسًا: يذكر الآخرة، ووقوف بين يدي الله يوم القيامة:

لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه، ويلبون دعواته. وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد، حفاةً، عراةً، غرلًا، خائفين، وجلين، مشفقين؛ وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في القول والعمل...

سادسًا: إعلاء شعار التوحيد، والبراءة من الشرك:

قال ابن باز -رحمه الله-: "فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله -عز وجل-، وكله دعوة إلى توحيد، والاستقامة على دينه، والثبات على ما بعث به رسوله محمدًا -عليه الصلاة والسلام-.

فأعظم أهدافه: توجيه الناس إلى توحيد الله، والإخلاص له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره. فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر، يقول: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.."، يعلن توحيده، وإخلاصه لله، وأن الله سبحانه لا شريك له" انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (29)، (ص13، 14).

سابعًا: ميدان خصب للدعوة إلى الله:

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه.

قال ابن باز -رحمه الله-: "فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة، والتوجيه إلى الخير، والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا، وتذكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم، كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم، واستقامتهم على دين الله، وتعارفهم، وتعاونهم على البر والتقوى.

فالحج فيه منافع عظيمة، فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله، وتعليم، وإرشاد، وتعارف، وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي" انظر:

وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه والإرشاد، فالواجب أن تكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق، وترك الباطل، قال الله -جل وعلا-: {ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]" انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: جمع الشويعر (16/325).

ثامنًا: التجارة والتربح بها، من منافع الحج الدنيوية:

فقد أباح اللَّه ذلك للحاج إذا لم تشغله عن حجه، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 98].

وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "كانت عكاظُ، ومَجنَّةُ، وذو المجازِ، أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج".

وعنه رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} قال: "كانوا لا يتَّجرون بمنى، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات" (أبو داود ، رقم: 1731).

وروى الإمام الطبري عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: "لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده" جامع البيان (4/162).

وقال الشنقيطي -رحمه اللَّه-: "وقوله: {منافع}: جمع منفعة. ولم يبيِّن هنا هذه المنافع ما هي، وقد جاء بيان بعضها في الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي.

وأما الدنيوي فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارته معه؛ فإنه يحصل له الربح غالبًا، وذلك نفع دنيوي.

وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج إذ ابتغى ربحًا بتجارة في أيام الحج؛ إن كان ذلك لا يشغله عن شيء من أداء مناسكه...

ومن المنافع الدنيوية: ما يصيبونه من البدن، والذبائح ...؛ كقوله تعالى: {فكلوا منها} في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي. وفي ذلك بيان أيضًا لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه" أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: أمين الشنقيطي (5/489، 490) بتصرف.

تاسعًا: أنه مؤتمر عالمي للمسلمين:

قال ابن باز -رحمه الله-: "إن الله -عزَّ وجلَّ- جعل موسم الحج مؤتمرًا لعباده، يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله، وسؤاله، والضراعة إليه، ويطلبون حطَّ ذنوبهم، وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم، ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون، ويأتمرون بالمعروف، ويتناهون عن المنكر. وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله: {وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ} [الحج: 27، 28]"

فالحج بلا شك يؤدي إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم؛ مما يُشعر الحجّ بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ويحسّ الناس أنهم حقًا متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.

هذه بعض الفوائد التي يجنيها الحاج من حجه؛ وإن كان هناك فوائد أخرى كثيرة يكتسبها الحاج من حجه؛ كالتوبة الخالصة الصدوق، وتهذيب النفس، ورقة المشاعر، وسمو العواطف. وتأدية شكر النعمة لربه؛ سواء نعمة المال، أو نعمة العافية؛ لأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال؛ ولهذا لا يجب إلاّ عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين.

كما أن الحج يعود على صاحبه أيضًا بفوائد الشخصية أخرى؛ كتعوده على الصبر، وتحمّل المتاعب، وتعلّم الانضباط، والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويقبل على التضحية والإيثار.

 

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.