الوسواس -المشكلة، والعلاج-
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
مشكلتي -وباختصارٍ- هي وسوسة الشيطان في وقت العبادة والتعبُّد، أنا التزمت بالحجاب منذ فترةٍ تقلُّ عن السنة، والحمد لله كثيراً أنْ هداني له، وإن شاء الله سوف أكمل تعليمي العالي في تخصُّص الدراسات الإسلاميَّة، وعاهدتُّ ربِّي إن شاء الله أن تكون حياتي كلُّها في خدمة دين الله الذي ارتضاه للعالَمين، اللهمَّ إنِّي أسألك التوفيق.. اللهمَّ آمين.
مشكلتي هي أنَّني أصاب بنوعٍ خطيرٍ من الوسواس في الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند أيِّ عبادةٍ أقوم بها لدرجة أنَّ الوسواس يصل إلى حدِّ الكفر بوجود الله، والكفر بالقرآن، وبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أنا طبعاً لا أقبل هذا مطلقا، وأذكِّر نفسي دائماً بأدلَّة وجود الله في الكون، وأحبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كثيراً جدًّا والحمد لله، لكن للأسف الشيطان ينغِّص عليَّ عيشتي، وينكِّد عليَّ وأنا في الصلاة، حيث إنَّك تجدني مشتاقةً للصلاة ولقراءة القرآن، وعندما أبدأ تأتي أفكارٌ عجيبةٌ لي. والله العظيم إنِّي متعبةٌ نفسيًّا من ذلك، وأسأل الله دائماً أن يثبِّتني على دينه، ويثبِّتني على إيماني، وأنا والحمد لله مؤمنة، ولا يمكن أن يقنعني أحدٌ بعدم وجود الله، أو بالشكِّ بالقرآن أو بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو حتى بالشكِّ بيوم البعث، فالحمد لله لديَّ الدلائل على صدق كلِّ شيءٍ يخصُّ الإسلام، لكن هذه الأفكار الإلحاديَّة تنغِّص عليَّ حياتي. فأرجو الإفادة. والسلام عليكم ورحمة الله.
يجيب عن هذه المشكلة.. الدكتور محمد منصور، فيقول:
أختي الفاضلة... إنَّ قوَّة الوساوس وكثرتها تدلُّ على قوَّة الإيمان وشدَّته وليس ضعفه وقلَّته، فقد سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الوساوس التي تصيبك، وتصيب كلَّ مؤمنٍ أيضاً، فقال: "ذاك صريح الإيمان"رواه مسلم، بمعنى أنَّ الشيطان يوسوس للمؤمن بوساوس تزداد تدريجيًّا كلَّما ازدادت قوَّة إيمانه؛ لأنَّه يريد أن يهزمه ويجعله عاصياً لربِّه غير متَّبعٍ لإسلامه الذي جعله لسعادته فيكون رفيقه في النار يوم القيامة، فإن رآه مؤمناً ضعيفاً مفرِّطاً في إسلامه هزمه بأقلِّ وسوسةٍ ككذبةٍ أو نظرةٍ محرَّمة أو نحو ذلك، وإن رآه مؤمناً قويًّا متمسِّكاً بإسلامه، علم أنَّه لن يهزمه إلا بوسوسةٍ قويَّةٍ مناسبة، كالكفر بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
إنَّ هذه الخواطر لا إثم عليها ما لم تتحوَّل إلى قولٍ أو عمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تجاوز عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلَّم"رواه البخاريُّ ومسلم، بل لها ثوابها في الآخرة، ثواب مقاومتها والصبر عليها، كما قال تعالى: "إنَّما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب"؛ إذ هي من الابتلاءات التي تكفِّر الذنوب، والتي يختبر بها الله تعالى صدق من ادَّعى الإيمان، وهل سيستمرُّ فيه أم لا، والتي غالباً ما يخرج منها المسلم مستفيداً بعد اتِّخاذه لوسائل التغلُّب عليها –إضافةً إلى ثواب الآخرة – زيادةً في إيمانه، وصبرا، وجَلَدا، وتدريباً على تحمُّل أعباء الدنيا، فيربح فيها ويتمكَّن من أداء ما أوجبه الله تعالى عليه من حُسن إعمارها وخلافته فيها.
ويمكنك –أختي الكريمة- التغلُّب على هذه الوساوس بالاعتقاد وبالفعل:
والاعتقاد هو:
1- أن نتدبَّر مخلوقات الله تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" من إنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجماد، فإنَّ ذلك ولا شكَّ يزيد الإيمان ويجدِّده ويقوِّيه، ويؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشكِّ وجود خالقٍ لهذه المخلوقات؛ لأنَّ الأثر يدلُّ على المسير، أي لو رأيت أثراً لأقدامٍ في الصحراء، فذلك يؤكِّد سير إنسانٍ حتى ولو لم تكن تراه، فكذلك وجود الله تعالى يظهر أثره في مخلوقاته حتى ولو لم تكن تراه، وهذه المخلوقات يثبت العلم كلَّ يومٍ عظمتها وإعجازها، وأنَّها لا يمكن أن تكون من صنع أيِّ بشر.
2- أن تعلمي أنَّ هذه الوساوس أمرٌ طبيعيّ، لأنَّ الشيطان وراءنا وراءنا، كما قال تعالى: "إنَّ الشيطان لكم عدوٌّ فاتَّخذوه عدوّا"، وأنَّها ستتكرَّر بين الحين والحين، وبدرجاتٍ مختلفة، ومع الوقت ستكون عندك مناعةٌ ضدَّها فتكون موجودة، لكنَّها قليلة الأثر فيك.
فإذا علمت ما سبق فلن تؤرِّقك هذه الوساوس، إنَّما هي تقلقك لخوفك من ضررها، ولإحساسك أنَّها تبعدك عن تذوُّق حلاوة الإيمان، ولشعورك أنَّك الوحيد في هذا العالم الذي يحدث له ذلك، فالكثيرون مثلك أخي الكريم، ولتثق أنَّها موجودةٌ لمحاولتك الاقتراب من ربِّك سبحانه، وكلَّما قاومتها ازددتَّ قرباً من ربِّك، وازداد ثوابك في الدنيا وفي الآخرة.
والفعل هو:
1- إذا خطرت لك هذه الوساوس فعليك التوقُّف وعدم الاستمرار في التفكير فيها، كما أوصانا صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلَق الله الخلْق، فمن خلَق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً، فليقل: آمنت بالله"رواه مسلم، فالإسلام رغم احترامه الشديد للعقل؛ لأنَّه أساس معرفة الله تعالى، وأساس العمل، والإنتاج، والإعمار للكون، فإنَّه يطلب منَّا في أحوالٍ نادرةٍ أن نوقف عقولنا عن الخوض في التفكير في أمورٍ ليس عندنا معطياتٍ لها، وإلا أتت بضررٍ أكثر من النفع، ولو كان في تفصيلها خيرٌ لنا في دنيانا أو آخرتنا لفصَّلها الله تعالى لنا، فللعقل مدى ونهايةٌ لا يتعدَّاها، كما أنَّ للبصر مدى ونهايةٌ لا يتعدَّاها.
2- الاستعانة بالله تعالى ودعاؤه، كما قال سبحانه: "وقال ربُّكم ادعونِي أستجب لكم"، ودوام ذكره، والاستعاذة به من الشيطان الذي من صفاته أنَّه خنَّاس، أي يخنس –يبتعد ويتراجع وينهزم- عن الإنسان بمجرَّد ذكره لربِّه، كما قال تعالى: "قل أعوذ بربِّ الناس، ملِك الناس، إله الناس، من شرِّ الوسواس الخنَّاس"، وأنَّ القلوب تطمئنُّ بالذكر، كما قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب".
3- الانشغال بالأعمال الصالحة بما لا يدع وقتاً للتفكير في هذه الوساوس والاستجابة لها، وبما يحقِّق الثواب العظيم إذا استُحضرت النوايا الصالحة، كالرياضة، والقراءة، والعمل، والإنتاج، والدراسة، والعلم، والهوايات، وصلة الرحم، وزيارات الجيران، والأقارب، والزملاء، والأصحاب، وخدمتهم، ودعوتهم للخير ما استطعت، وما شابه ذلك.
4- التواجد في وسطٍ صالحٍ يعين على مزيدٍ من الإيمان والعمل الصالح، كما قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"رواه أبو داود والترمذيُّ والحاكم، وصحَّحه.
أختي الكريمة.. إنَّ حلاوة الإيمان التي تتكوَّن في القلب تتبع قانون الأسباب والنتائج، أي من لم يتَّخذ أسبابها لم تتكوَّن عنده، ومن اتَّخذ أسبابها تكوَّنت، ووفَّقه الله تعالى للمزيد تدريجيّا، مع الوقت، ومع تجمُّع الأسباب، وليس فوريًّا بمجرَّد اتخاذ سببٍ أو اثنين، كما قال تعالى: "إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأَنفسهم"، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار"رواه البخاريُّ ومسلم، وهذه الثلاث لا تأتي في يومٍ وليلة.
لقد اتَّخذت -أختي الكريمة- بعض أسبابها كما ذكرت من حرصك على الصلاة وقراءة القرآن، ونَدلُّك على بعض أسبابٍ أخرى:
1- استحضار النوايا لكلِّ عملٍ صالحٍ تعمليه، فأنت مثلاً تتعلَّمي لتعملي؛ ولتنفعي الإسلام والمسلمين والناس جميعاً بهذا العلم والعمل والإنتاج، وأنت تأكلين لتتقوَّى على الطاعة وإعمار الكون، وهكذا في كلِّ الأعمال.
فاستحضار النوايا يجعلك دائمة الذكر لله تعالى، دائمة العمل له لا للناس، وهذا يدلُّ على أنَّ الله ورسوله هما فعلاً أحبُّ إليك ممَّا سواهما، وعندئذٍ ستشعرين بحلاوة الإيمان كما ذكر الحديث.
2- تدبُّر نِعَم الله تعالى الموجودة في نفسك –والتي لا يمكن حصرها- مع استخدامها كلِّها في طاعة الله لا في معصيته، كالسمع، والبصر، واليدين، والرجلين، إلى غير ذلك من النعم، فاستشعار أنَّ كلَّ النعم هي فضلٌ من الله وحده ولا دخل لأحدٍ فيها، مع استخدامها في طاعته ما هو إلا ترجمةٌ عمليَّةٌ من المسلم على أنَّ الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وفي مقابل اتِّخاذه لهذا السبب سيجد مع الوقت حلاوة الإيمان في قلبه.
فمثلاً استخدام نعمة البصر في العلم والعمل والإنتاج، وزيادة الإيمان، وعدم استخدامها في الحرام يورث حلاوةً في القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فمن تركها خوفاً من الله، آتاه الله عزَّ وجلَّ إيماناً يجد حلاوته في قلبه"رواه الحاكم وصحَّحه، وهكذا كلُّ النِعَم إذا استُخدِمت في طاعة الله لا في معصيته.
3- التمسُّك بنظام الإسلام الشامل الكامل العادل الذي يسعد من يتَّبعه، في كلِّ شؤون حياتك: في بيتك، ومع والديك، وإخوتك، وجيرانك، وأصحابك، وزملائك، وفي أثناء دراستك وتعلُّمك، فذلك يورِّث اطمئناناً في القلب وسعادة، كما قال تعالى: "ومَن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلَنُحْيِيَنَّه حياةً طيِّبةً ولنَجْزِيَنَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
4- دعوة من حولك لهذا الإسلام، وللعمل بنظامه، ليسعد الناس كما سعدتِّ أنتِ، وخلال دعوتك ستشعرين بحلاوة الإيمان مع الوقت، لأنَّ لنجاحك في دعوة الغير حلاوةً لا يستشعرها إلا من مارس ذلك، حلاوةً ليست من الدنيا في شيء.
أوصيك نهاية -أختي الكريمة- بأن تصبري، وتستشعري حلاوة الصبر على هذه الوساوس، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "والصبر ضياء..."جزءٌ من حديث رواه مسلم، فهو ينير القلب والعقل، وينير الطريق ذاته.
وأن تستشعري حلاوة التضرُّع إلى الله والشكوى إليه وطلب عونه، كما كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إيذاء المشركين له في الطائف في بداية دعوتهم إلى الإسلام، والذي امتلأ حزناً، لكنَّه حزنٌ مع إصرارٍ على مواصلة الطريق، وأملٍ في تحقُّق نتائجه، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى من تكلني، إلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنْزل بي غضبَك، أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العُتْبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"رواه الطبرانيّ، وحسَّنه السيوطيّ.
وفَّقك الله وأعانك يا أختي، وجزاكِ عن الإسلام والمسلمين خيرا، وثقي بأنَّ ما بك ما هو إلا عجزٌ من الشيطان، فاصبري ولا تجزعي.
ومرحباً بوصالك وأسئلتك، وآرائك، واقتراحاتك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات