الاستقرار وآثاره على المسلمين
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة العيد بعنوان: "الاستقرار وآثاره على المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن الاستقرار وما ينتجُ عنه من آثار إيجابية تعمُّ المُجتمع المسلم بأسرِه، مُبيِّنًا أثر العدل في قوام الحياة واستقرار المُجتمعات، كما ذكر في خطبته الثانية أعمال الحجِّ الباقية على الحُجَّاج، مُشيرًا إلى أحكام الأضحية.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الأولُ فليس قبلَه شيء، والآخر فليس بعدَه شيء، والظاهر فليس فوقَه شيء، والباطِن فليس دونَه شيء، يُطاعُ فيشكُر، ويُعصَى فيغفِر، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه تُرجَعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخيرتُه من خلقِه، خيرُ من صلَّى لله وقام، وسيِّدُ من حجَّ البيتَ الحرام، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آلِه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابِه والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر عدد ما كبَّروا في المساجِد والطُّرقات، الله أكبر عدد ما لبَّوا بالنُّسُك ورفعُوا بالتلبية الأصوات، الله أكبر عدد ما هلَّلوا ودعَوا في عرفات، الله أكبر عدد ما وقَفوا بالمُزدلِفة والتقَطوا الجمَرات، الله أكبر عدد خلقِه، ورِضا نفسِه، وزِنَة عرشِه، ومِدادَ كلماتِه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسُبحان الله بُكرةً وأصيلاً.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاستِمساكُ بالعُروة الوُثقَى قبل المصرَع؛ إذ بها النجاةُ - بفضل الله - يوم المفزَع.
بالتقوى يُحقِّقُ المرءُ العبادة على نورٍ من الله، يرجُو ثوابَ الله ويخشَى عقابَه .. بها يستجلِبُ الصبر، وتحسُنُ العاقبة، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد أكرمكم الله في حجِّكم هذا بعيدَين عظيمَين: عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، الذي وافقَ الوقوفَ بعرفة، وعيد الأضحَى الذي هو الحجُّ الأكبر، يوم رمي جمرة العقَبة، ونحر الهدي والأضاحي، وقضاء التَّفَث .. يوم الفرح بتمام الوقوف والمَبيت والرمي والنحر .. يوم إعلان التوحيد والبراءة مما يُعبَد من دون الله، (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة: 3].
نعم، إنه يوم إعلان التوحيد الذي يصحُّ إيمانُ أحدٍ إلا به .. إنه التوحيدُ الذي خلقَ اللهُ الخلقَ لأجلِه .. إنه التوحيد الذي لا يقبلُ الله من عبدٍ عملاً إلا بتحقيقه، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
إنه الاستِسلامُ لله بالطاعة، والخُلوص من الشرك، وعبادتِه بما شرعَه الله وشرعَه رسولُه - صلى الله عليه وسلم - .. إنه التوحيدُ الذي لم يُبنَ البيتُ الحرامُ إلا لأجلِه، ولم يُدعَ الناس في فِجاج الأرض إلى حجِّه وبلوغ رِحابِه إلا لأجلِه، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
اعلموا أن الله جعل الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهرَ الحرام والهديَ والقلائِد، (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة: 97].
إنها الكعبة .. البناءُ الشامِخ .. قبلةُ المُسلمين في مشارِق الأرض ومغارِبِها .. تتعاقبُ عليها الأجيال زمنًا بعد زمن، وجِيلاً بعد جِيل، وفوجًا إثرَ فوجٍ .. إنها الكعبة التي كانت دوحةً عند الزمزم، لا يراها إلا أمٌّ رَؤومٌ هاجَرَت بطفلِها الرضيع إلى وادٍ غير ذي زَرع؛ ليجعلَ الله من هذه الهِجرة مأوَى أفئِدةِ الناس، مُشرئِبَّةً إلى عرَصَاته ومناسِكِه، فتبدأُ من امرأةٍ وطفلِها، وتنتهي بالملايين المُمليَنة.
بدأَت من عناء السفر ولأْوائِه وكآبة منظره ووَعَثائِه، يقطعُ الوافِدون إليه المفاوِزَ إثرَ المفاوِز، يجوزُون الفَيافِي والبِحار، يسلُكون طُرقًا غيرَ آمنة، لا يضمَنون العودةَ بعدها، إنه سفرٌ غامضٌ يغلبُ على ظنِّ الكثيرين آنَذَاك عدمُ السلامة فيه، سهولٌ وهِضابٌ سلَكَها أنبياءُ الله ورُسُله، يرفَعون أصواتَهم بالتلبية لخالقِهم: لبيكَ اللهم لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك.
إن هذا المنسَك العظيم ليُذكِّرُنا بكليمِ الله موسى - عليه السلام - وهو ينحدِرُ من الوادِي، حاجًّا يُلبِّي لخالِقِه بهذه التلبية التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مُلبٍّ يُلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه وشِمالِه من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَرٍ، حتى تنقطِعَ الأرضُ من ها هنا وها هنا»؛ رواه ابن ماجه.
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما موسَى كأنِّي أنظرُ إليه، إذا انحدرَ في الوادِي يُلبِّي»؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، "أنه صلَّى في مسجِد الخيف سبعون نبيًّا"؛ رواه البيهقي.
وعند البيهقي أيضًا عن عُروة - رضي الله عنه -: "ما من نبيٍّ إلا وقد حجَّ البيتَ".
إنه فضلُ الله وكرمُه في تذكُّر تلكُم الأطياف؛ لتربِطَ حاضِرَنا بماضِينا، وتُذكِيَ مشاعِرَ الفخر والاعتِزاز بهذا الدين العظيم، وقَصدِ بيتِه المُبارَك إلى أن تقوم الساعة؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيدِه؛ ليُهِلَّنَّ ابنُ مريم بفَجِّ الرَّوحاء حاجًّا أو مُعتمِرًا .. الحديث»؛ رواه مسلم.
وحجُّ عيسى - عليه السلام - سيكونُ بعد نزولِه آخر الزمان.
فلا إله إلا الله، ما أعظمَ هذا البيت المعمور الذي قال عنه البارِي - جلَّ شأنُه -: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل: 7]... قال المُفسِّرون: "هي مكة".
فلا إله إلا الله، كيف توالَت النِّعَمُ عليه بعد أن كان بوادٍ غير ذي زرعٍ، إلى أن ذلَّل الله لهم بلوغَه بالمركَب الرخِيّ، والمسكَن السلِيّ .. يُكرِمُ رُوَّادَه بلدٌ حمَّلَها الله أمانةَ خدمةِ حُجَّاجه؛ ليُضفُوا عليه مما أفاءَ الله عليهم عِمارةً في صُورةٍ فريدةٍ، لو ذُكِرَت لأسلافٍ مضَت لعدُّوا ذلك ضربًا من الخيال. ولقد صدقَ الله: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 8].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن هذا النُّسُك العظيم ليُذكِّرُنا بما أودعَ الله فيه من أحكامٍ وحِكَم قيمة الأمن والاستِقرار؛ حيث أمَّن الله فيه الإنسانَ والطيرَ والوحشَ وسائرَ الحيوان؛ ليُدرِك الناسُ حاجتَهم المُلِحَّة إلى الأمن والاستِقرار في حياتهم؛ إذ لا سياسةَ بلا استِقرار، ولا اقتِصادَ بلا استِقرار، ولا تعليمَ بلا استِقرار.
فبالاستِقرار يسُودُ الأمن، وبالأمن يؤدِّي المرءُ أمرَ دينه ودُنياه، وقد بيَّن قيمةَ الاستِقرار من أُوتِيَ جوامِعَ الكلِم في كلماتٍ يسيراتٍ؛ حيث قال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنِه، عنده قُوتُ يومِه؛ فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرِها»؛ رواه الترمذي.
إن استِقرار المُجتمعات سببٌ في النجاح الذي يُشبِعُ احتِياجَ كل أفرادِه دون تنغيص، وفُقدانُ الاستِقرار فشلٌ ذريعٌ في السَّير الآمِن في مهامِه الحياة ودُروبِها، واختِلالٌ لكل مشروعٍ إيجابيٍّ.
فالاستِقرارُ هو العُود، وثمرتُه هي الظلُّ. ومن المُحال أن يكون الظلُّ مُستقيمًا في حين أن العُودَ أعوَج، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
في نُسُكِ الحجِّ المُبارَك يستلهِمُ كلُّ مسلمٍ أثرَ العدل في قوام الحياة واستِقرار المُجتمعات. نعم، يستلهِمُ المسلمُ ذلك في كون الحُجَّاج سواسيَةً لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ في نُسُكٍ أو لباسٍ أو وقوفٍ أو رميٍ أو مَبيت، كلُّهم قد وُلِدوا عُراةً، ثم هم يحُجُّون بلباسٍ يُذكِّرُهم بالعُراة.
إنه العدلُ الذي قامَت عليه السماوات والأرض. نعم، العدلُ الذي أمرَ الله به نبيَّه بآيةٍ نزلَت بخصوص الكعبة المُشرَّفة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
العدلُ - عباد الله - ميزانُ الأرض، والظلمُ والجَورُ ما هما إلى مِعولَ هدمٍ وخرابٍ لكل دابَّةٍ تدُبُّ عليها، وإن من أعظم مظاهر الظُّلم القاضِيَةِ على العدل: العُدوانَ والقهرَ من المُسلم على أخيه المُسلم، يَستبيحُ من خلالِهما عِرضَ أخيه ودمَه ومالَه وعِرضَه، حتى يطغَى العلوُّ في الأرض والإفسادُ فيها، وجعل أهلها شِيَعًا ضعيفَهم نهبًا لقويِّهم.
لذلك كلِّه حسَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَه في حجَّة الوداع قائلاً: «إن دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا».
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن الله شرَّف أمةَ الإسلام بالعدلِ؛ حيث جعلَه قيمةً مُطلقةً لا مجالَ فيه للنِّسبيَّة، له ميزانٌ واحد، يُعدُّ هو أدنَى ما يمكنُ فعلُه في تعامُل المُسلم مع غيرِه؛ حبيبًا كان أو بغيضًا، صديقًا أو عدوًّا، مُسالِمًا أو مُحارِبًا، كلُّ ذلك إعمالاً لقول الله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
إن هذه التربية بدَت ظاهرةً على أمةِ الإسلام في سالِفِ القرون، حتى ضرَبُوا أروعَ الأمثلة في العدل مع أنفُسِهم ومع عدوِّهم، في سِلمِهم وحربِهم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إننا نعيشُ في زمنٍ بلغَ شأوًا رفيعًا في الحياة المادية، والنظريات الفلسفية، والثورة التقنيَّة، والترسانة العسكرية المُتشبِّعة برُوح الأنانية والعُدوانيَّة، وإرادة العلوِّ في الأرض، وإهلاك الحرثِ والنَّسْل، (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].
غيرَ أن هذه الحضارة عجَزَت عن إشباع الرُّوح بالرحمة والطُّمأنينة، والحكمة والعدل والإيثار. ولا أدلَّ على تلكُم النَّزعة من إفراز هذه الحضارة المادية السِّباقَ المحمومَ إلى التسلُّح على حِسابِ الاحتِياجات البشريَّة للدين، والأخلاق، والصحة، والأسرة، والمعيشة، بأضعافٍ مُضاعفَة حتى جثَا على سياسة العالَم الثالُوثُ الخانِق، وهو: الخَواءُ الروحيُّ، والتزييفُ التاريخيُّ، والقهرُ العسكريُّ.
ومن ثَمَّ خُلِقَت أسلِحةُ الدمار الشامِل، فدُعَّت إلى شعوب العالَم دعًّا، حتى صوَّرَت السلامَ حُمقًا، والرحمةَ عجزًا، والعدلَ استِكانةً، وجعلَت مفهومَ الغِبطة في الضعيف الجاثِي على رُكبتَيه، يسبِقُ مدمَعُه مِدفعَه، حتى تشرَّب العالَمُ اليوم ألوانًا من الحروب المُدمِّرة قلَّ أن يسلَمَ منها بلدٌ أو قطرٌ، إلى أن أصبحَ الأمانُ لدى كثيرٍ من المُجتمعات كسرابٍ بقيعةٍ يحسبُهُ الظَّمآنُ ماءً.
ولا أدلَّ على مثل تلكُم النَّزعة ما قامَت به دولةٌ كُبرى قبل عقودٍ من الزمن، من تشييع مواكِبَ من التوابِيت لتُلقَى في قاعِ المُحيط؛ حيث تضمُّ وسطَها شحَنَاتٍ مُروِّعةً من الغازَات السامَّة، بعد أن رأَت أن لدَيها فائِضًا من هذا السلاح يكفِي لإفناء العالَم ستَّ مرات.
عافانا الله وإياكم من كل بلاءٍ ومكروهٍ، وكفَّ عنا الفتن ما ظهر منها وما بطَن، وليس لنا وقايةٌ من ذلِكُم كلِّه إلا أن ندخُلَ جميعًا في السلام الحقيقيِّ الذي يُؤلِّفُ الأرواحَ قبل الأجسَاد، إنه الإسلام السلام الذي قال الله عنه لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63].
السلامُ هو الذي يُقرِّرُ العبودية للحكم العدل الملك القدوس السلام، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجُو الله واليوم الآخر، وذكرَ اللهَ كثيرًا، وإن كل خيرٍ في اتباع ما أمرَ به، واجتِنابِ ما نهَى عنه.
وقد كان - صلواتُ الله وسلامُه عليه - في حجِّه يُردِّدُ قولَه: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم»؛ ليُؤكِّد لأمته وجوبَ طاعته والاهتِداء بهديِه؛ فإن من أحبَّه أطاعَه، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[آل عمران: 31].
ألا إنه ما من خيرٍ إلا دلَّ أمتَه عليه، وما من شرٍّ إلا حذَّرَها منه، وإن أحدًا يغفُلُ عن سُنَّة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لهُو المحروم حقًّا؛ إذ كيف لمن علِمَ أنه رسولٌ من عند الله ختَمَ الله به الرُّسُل وقد رأى سُنَّته ألا يتَّبِعها، بل كيف يُعقَل أن يُؤثِر أحدٌ من الناس النارَ على الجنة.
نعم، ثمَّة أقوامٌ يفعلون ذلك، قد ذكَرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه: «كل أمَّتي يدخُلون الجنةَ إلا من أبَى». قالوا: يا رسول الله! ومن يأبَى؟ قال: «من أطاعَني دخل الجنةَ، ومن عصَاني فقد أبَى»؛ رواه البخاري ومسلم.
فاحرِصُوا - عباد الله، وحُجَّاج بيت الله الحرام - على اقتِفاء سُنَّة الهادي المُصطفى، وكُونوا سبَّاقين إليها، صادِقين مُخلِصين؛ فإن من أحبَّ أحدًا اقتربَ منه واقتَفَى هديَه وأثرَه، وإياكم أن تكون البهائِمُ أجلَّكم الله أدركَ منكم لمكانةِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرَ محبَّةً له منكم؛ إذ تتسابَقُ إليه أيَّتهنَّ تُلامِسُها يدُه الشريفة - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -.
ففي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعظمُ الأيام عند الله: يوم النَّحر، ثم يوم القَرّ»؛ أي: اليوم الثاني.
و"قُرِّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسُ بدَنَاتٍ أو ستٌّ ينحرُهنَّ، فطفِقنَ يزدلِفنَ إليه أيَّتُهنَّ يبدأُ بها .. الحديث"؛ رواه أحمد وأبو داود.
اللهم مُنَّ علينا باتباع هديِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وأورِدنا حوضَه، وأسقِنا منه شربةً لا نظمأُ بعدَها أبدًا، إنك سميعٌ مُجيب.
عيدٌ أطلَّ على الحَجيجِ برحمةٍ
فلتهنِنا الرحماتُ في الأعيادِ
العيدُ أضحَى والجموعُ حثيثةٌ
بالذِّكرِ يجلُونَ الفُؤادَ الصادِي
زُمَرًا أتَوا من كل فجٍّ وامتَطَوا
أهواءَهم فمشَوا بحُسن قِيادِ
لبَّوا لربِّ البيت ليس يضيرَهم
نصَبٌ أتَوا يرجُون نَيلَ مُرادِي
فرُّوا إليه فما يَخيبُ رجاؤُهم
كلا وليس يردُّ عنه مُنادِي
برًّا كريمًا لا يُمَلُّ وَجُودُه
عمَّ الورَى من حادثٍ وتِلادِ
يدعُون مولاهم يُقِلُّ عِثارَهم
ويُزيلُ عنهم لوثَةَ الأحقاد
يا ربُّ جِئنا اليوم شُعثًا فاجزِنا
برجوعِنا كالطفلِ في الميلادِ
يا ربُّ فاقبَل حجَّ كل مُؤمِّلٍ
ولتجزِه بالفوز يوم معادِ
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما أمَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له إرغامًا لمن جحَدَ به وكفَر، والصلاةُ والسلامُ على رسولِه المُصطفى الشافعِ المُشفَّع في المحشَر.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله أكرمَكم بهذا اليوم العظيم يوم الحجِّ الأكبَر، يوم رميِ جمرة العقَبة، ونحر الهديِ، وذَبح الأضاحِي، والطوافِ بالبيت العَتيق.
ألا وإن من أفضل الأعمال في هذا اليوم: ذبحَ الهدي والأضاحِي؛ فقد سُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: «العَجُّ والثَّجُّ»؛ رواه الترمذي وابن ماجه.
والعَجُّ: هو رفعُ الصوت بالتلبية، والثَّجُّ: هو ذبحُ الهديِ.
ثم اعلَموا - يا رعاكم الله - أن ربَّكم شرعَ لكم في هذا اليوم ذبحَ الأضاحِي زُلفَى إلى الله، وتقرُّبًا إليه، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
إنها سُنَّةٌ مُؤكَّدة، فعلَها نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، وأكَّدها على من وجدَ سَعةً من مالِه، وهو سُنَّة أبينا إبراهيم - عليه السلام -، وهي شاةٌ يُضحِّي بها الرجلُ عنه وعن أهلِ بيتِه.
يجبُ عليه أن يُراعِي فيها: بُلوغَ السن المُعتبَرة شرعًا، وهو خمسُ سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنةٌ كاملةٌ في المَعز، وستةُ أشهر في الضَّأن، وأن تكون سليمةً من العيوب التي نصَّ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي: العَرجاء، والمريضة، والعوراء، والعَجْفاء التي لا مُخَّ فيها، وأن تقعَ الأُضحيةُ في وقتِها المشروع، وهو الفراغُ من صلاة العيد إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر، فتصيرُ الأيام أربعةً.
وكذا ينبغي إراحةُ الذبيحة والرفقُ بها، وحدُّ الشفرة قبل ذبحِها؛ فإن هذا من الإحسان الذي أمرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجبُ أن يذكُر اسمَ الله عند الذبح، لقول الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121]. ويُستحبُّ للمُضحِّي أن يأكل منها، ويُهدِي، ويتصدَّق.
فضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 27- 29].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
اعلموا - رحمكم الله - أن أولَ ما يُبدأُ به من الأعمال في هذا اليوم بعد الخروج من المُزدلِفة: أن يتوجَّه الحاجُّ إلى مِنى بسكينةٍ ووقارٍ، فلا يُؤذِي ولا يُزاحِم ولا يُخاصِم، فيرمِي جمرةَ العقبة بسبع حصَيَاتٍ لا يُبالِغُ في كِبرهنَّ ولا صِغَرهنَّ، ولا يرمِي بغير الحصَى، فيُكبِّرُ مع كل حصاةٍ حتى ينتهِيَ منها، ثم ينحرُ هديَه إن كان عليه هديٌ، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّر، والحلقُ أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمُحلِّقين ثلاثًا وللمُقصِّرين واحدةً.
ثم يحلُّ من إحرامه ويُباحُ له كل شيءٍ حرُمَ عليه أثناءَ الإحرام إلا النساء، ويبقَى في حقِّ القارِن والمُفرِد طوافُ الإفاضة وسعي الحجِّ إن لم يكن قد سعَى مع طوافِ القُدوم.
وأما المُتمتِّع فيبقَى عليه طوافٌ وسعيٌ غير طوافِ العُمرة وسعيِها، ثم بعد طوافِ الإفاضة يحلُّ للحاجِّ كل شيءٍ حرُمَ عليه بسبب الإحرام حتى النساء، ولا يضرُّ الحاجَّ ما قدَّم في هذا اليوم أو أخَّر، فما سُئِل أرحمُ الخلق - صلواتُ الله وسلامُه عليه - عن شيءٍ قُدِّم أو أُخِّر في يوم النَّحر، إلا قال: «افعل ولا حرج».
بمبدأ السماحة والتيسير المشروع، لا السماحة العبَثيَّة والتيسير الفوضويّ؛ فإن التيسير تشريعٌ يجبُ فيه الاقتِداءُ بالمُيسِّر - صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
ثم يجبُ على الحاجِّ أن يَبيتَ بمِنى ليالِيَ التشريق، فيرمِي الجمَرات بعد الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي كل جمرةٍ بسبع حصَيَاتٍ، يبدأُ بالجمرة الصُّغرى، ثم الوُسطى، ثم العقَبَة.
فإذا أنهَى الحاجُّ ذلكم كلَّه طافَ بالبيت طوافَ الوداع وجوبًا، ويسقُطُ عن المرأة الحائِض يُسرًا ورحمةً، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 30- 33].
تقبَّل الله من الحُجَّاج حجَّهم، تقبَّل الله من الحُجَّاج حجَّهم، وباركَ في الجهود، وسدَّد الخُطى، وجزَى كل من ساهمَ في خدمةِ الحُجَّاج قيادةً، ورجالَ أمنٍ، ودعوةٍ، وفُتيا، وكل من كان له القِدحُ المُعلَّى ممن لا نعلمُهم لكن الله يعلمُهم، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) [البقرة: 197].
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمُشركين، اللهم انصر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك، واتبعَ رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُسلمين المُضطَهدين في دينهم في سائر الأوطان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فاشغَله بنفسِه، واجعل كيدَه في نحرِه يا سميعَ الدعاء، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل حجَّنا مبرورًا، وسعيَنا مشكورًا، وذنبَنا مغفورًا يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
التعليقات