أهمـية الخطابة وآثارها
التمهيد:
اعتمدت الأمم والشعوب الراقية قبل الإسلام الخطابة طريقاً لإقناع الجماهير وإثارتها وجعلها تتبنى ما يرمي إليه الخطيب من أهداف.
وأما العرب قبل الإسلام فكانت صناعة الخطابة لديهم من أرقى ما وصلت إليه الشعوب آنذاك، بل كانت لدى العرب خبزهم اليومي وجوهر حياتهم.
ولما جاء الإسلام وشرف الله بهذه الرسالة المحمدية الخاتمة الدنيا كان للخطابة في الإسلام المكانة الباسقة.
فقد اعتمد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في حياته الشريفة في تبليغ رسالته على الخطابة وسيلة لنشر الدعوة الإسلامية الجديدة، وكان آية في البلاغة والفصاحة واللسان.
وكذلك كان الشأن في الخلافة الراشدة وما بعدها إلى زمن العثمانيين؛ حيث خبت نارها وضعف بريقها.
وكيف لا يعنى الإسلام بالخطابة ورسالته كلها مبناها على وحي يوحى وقرآن يتلى، وكبرى معجزاته الفصاحة والبلاغة، وقد تحدى العرب الفصحاء في عقر دارهم؛ فسجدوا لسحر بيانها؛ قال تعالى: (اللهُ نزّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعرُ منهُ جلودُ الذينَ يخشونَ ربهُم ثمَ تلينُ جلودهُم إلى ذكرِ اللهِ).
وقد نوه القرآن الكريم عن مدى عظم الخطابة والبيان وصلتهما بالرسالات والدعاة في غير ما موطن؛ فعن أصل الرسالة يقول تعالى: (وما أرسَلنَا منْ رسولٍ إلإ بلسانِ قومِهِ ليبينَ لهُم)؛ أي البيان الذي يصحبه الإقناع ويثمر الاستجابة.
ونوه عن مساندتها في قصة موسى وهارون؛ كما قال تعالى عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)؛ فكانت فصاحة أخيه من عوامل ترشيحه للرسالة وشد عضد أخيه.
لقد كان للخطابة في الإسلام أعظم الأثر في الدفاع عن الإسلام وفي الدعوة إليه، وكذلك كان لها الحظ الأوفر في قتال الأعداء؛ كما روى ابن إسحاق في غزوة بدر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرضهم على القتال وقال: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة".
فكانت لكلماته هذه أقوى تأثير على نفوسهم؛ مما حمل عمير بن الحمام على الاستعجال ورمي التمرات التي كان يأكلها وهو يقول: "بخ بخ أفما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد بيان أمر أو جد جديد يحتاج إلى بيان صعد المنبر وخطب الناس؛ فقد كانت خطبته في حجة الوداع عامة شاملة لمهام الدين وأسس التعامل.
والإسلام الآن في أمس الحاجة إلى دعاة خطباء بلغاء يعنون بالخطابة عناية فائقة.
أهمية الخطابة:
مهمة المشاركة شاقة ولا ريب، مشقةً تُحتِّم على أن يستعد الجيد في الفكر الصواب وحسن التعبير وطلاق وجود العدة الإلقاء.
إن الخطيب بلسانه وِرقَّة جنانه وتجرده لسبب وينبع الشر من نفس المجرم في نفسه خشية الله، وحب الحق، وقبول العدالة، ومعونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر، ونشأة العواطف النبيلة في نفوس الأم، وبنية الضمائر الجائزة، وتربية النفوس في العمل خالصة وجهد شجاع، يرجو ثوابت الله ويروم نفع الناس.
ثوابت الكتابة:
لا يكاد ينجح صاحب فكرة، أو ينتصر ذو حق، أو يحتفل بالإصلاح، إلا بكلمة البليغة، والظاهرة، والخطبة الباهرة، وثمة جانب في آخر ما ينبغي مراعاته وهو أن تأثير المشاركة في سامعيه ليس بالإلزامية أو الإفحام، بل مرده إلى إثارة الإثارة وحملهم على الإذعان والتسليم، ولا يكون ذلك بالتأثير على المؤثرات الدقيقة، بل بالبراهين والإبداع تبرز بشكل لافت، ويثير الإثارة ومخاطبة الوجدان.
تعريف الخطابة:
الخطابة في اللغة: الخِطاب والمُخَاطَبَة: مراجعة الجملة، والخُطبة مصدر الخَطيب، وخَطَبَ الخَاطُبُ على المنبر، واختَطَبَ يَخطُبُ خَطَابةً، واسم الكلام: الخُطبَه. وقال جوهري: خَطَبَتُ على المنبر خطبَةً، بالضم. وخطبتُ المرأة خطِبةً بالكسر.
وذهب أبو اسحاق إلى أن الخطبة عند العرب: الكلام المنثور المسجع، ونحوه، والخطبة مثل الرسالة، التي لها أول وأخر. (لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن وجه الأنصاري الرويفعي الأفريقي، (1/ 361)، كتاب الباء، فصل الخاء، دار صادر، بيروت).
الخطابة في الاطلاق: هي مجموع القوانين التي يقتدر بها على الإقناع في أي موضوع يراد، والإقناع حمل السامع على أن يؤكد المقول وصواب التصرف أو الترك.
والخطابة: ”فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته”.(فن الخطابة، د، أحمد الحوفي، ص5، دار الفكر العربي، الطبعة الرابعة، بدون.).
تعريف الخطيب: لغة: "الحسَنٌ الخُطبة، ومن يقوم بالخطابة في المسجد وغيره، والمتحدث عن القوم".
وتعريفها اصطلاحا: هو "القائم بعملية الخطابة"؛ فيكون الخطيب من يقوم بالخطابة لإقناع الناس بفكرة معينة أو رأي واستمالتهم والتأثير فيهم. (المعجم الوسيط، مادة (خطب)، مجمع اللغة العربية، ص243، المكتبة الإسلامية، إستانبول.
في اللغة الخطابة هي: الكلام المنثور يخاطب به متكلم فصيح جمعاً من الناس لإقناعهم، والخطيب هو الوضوح عن القوم أو هو من يقوم بالخطابة، وفي تعريف العلماء هم الكلام المؤلف الذي يشمل وعظاً وإبلاغاً على وصفة مخصوصة.
بمعنى أن الخطابة: فن مشافهة الجمهور للتأثير عليهم أو استمالتهم. هناك ثلاثة أشياء مهمة في الخطاب: من يلقيه؟ وكيف يلقيه؟ وما الذي يقوله؟ والأمور الأقل أهمية من بين هذه الحلول الثلاثة الأخيرة. تعريفها: هي نوع من أنواع المحادثات، وقسم من أقسام النَّثر، ولون من ألوانه الفنية تختّص بالجماهير؛ بقصد الاستمالة والتأثير، فأتَمُّ وأسلَم تعريفٍ لها هي: “فَنُّ مخاطبة الجماهير للتأثير عليهم واستمالتهم”.
وقد يزيد بعض الناس بكلام بليغ، إلاَّ أن هذا القيد شرط كمال يكون حسيب حالة المخاطبين؛ لأن البلاغة في الكلام إنَّما هي الفصل عن الكلام لمقتضيات، وقد يقتضي حقيقة اليمن الحديث أن يتخلَّى الخطيب عن إذن البلاغات الصناعية.
ركنها: ومِن هذا التعريف المجز: “فن مخاطبة الجماهير للتأثير عليهم” نستخلِص عناصر الخطبة وأركانها، فنجد لها هناك قادم:
1- فن، أي: الخبرة، المعرفة، ومرانة، ومكة.
2- مخاطبة، أي: مشافهة، ومواجهة.
3- خطيب، أي: لا مقرئٌ أو ملقَي كتاب إلكترونيًا أو يُلقي موضوعًا.
4- جمهور، أي: جَمْع كثير من المستمعين.
5- التأثير، أي: إثارة العواطف وتنبيه الرضع.
أشهر من كتب في الخطابة ومواصفات الخطيب التمييز في العربية هو:
الجاحظ في كتابه البيان والتبيين؛ إلا إن خطبا بليغة وصلتنا من العصر الجاهلي، وأشهرها خطب قسو بن مساعدة الإيادي "أيها الناس استمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت…".
أهمية الخطابة وآثارها:
تعتبر الخطابة ساهمة من التقدم وتقدم ما ظهر من مظاهر التقدم الاجتماعي، ولهذا عُنِيَ بكل شعبٍ، واهتمت بكل الأمم في كل زمانٍ ومكانٍ، واتخذتها أداةً للبدء في ابتكار، الحديثة للمجتمع.
وقد كان للعرب في ذلك الحظُّ الأوفى، فحفلوا بها في الجاهلية وساعدوها على وجود عدة أسباب اجتماعيةٍ تؤدي إلى ازدهارها وتسع العشرين، فوصلت إلى القمة وتجت بالشرف والاعتزاز من بداية ما يأتي:
1 – مواضيع الخطابة: وهي إما حثٌ على حربٍ، أو حض على سلمٍ، وبطبيعة الحال لا يتعرض لهذه المواضع إلاَّ من كان سيدًا مطاعًا؛ لأنه الذي يُسمَّع ويطاع أمره في مثل تلك النظرة، وهو الذي يمتلك إعلان الحرب وقَبول الصلح.
2 – التهاني أو التعازي، وإذا أردت قبيلة أن تهنئ قبيلةً أخرى بمكرمةٍ، كظهور فارسٍ أو نبوغ شاعرٍ أو ذلك غير ذلك، فلا ستوفد من طرفها من يقودها ذلك، وبطبيعة الحال أيضاً لن تختار إلاَّ من أشرفها ليمثلها ويعبروا عنها.
3 – الماخرات والمنافرات بين قبيلين عظيمين، ترى كل قبيلين منهم وأعظم من إلغاء الآخر، فيرفع من التجارة ويحط من قدر مَن يقابله، ولن يتقدم لعداد المفاخر إلاَّ الفضلاء، كل ذلك مهمةَ الخطابة فاضلة، نبيلة، ويرفعها إلى المكانة.
خصائص الخطابة:
رؤية إلى أنواع النثر من حِكَم وأمثالٍ ووصايا ومفاخراتٍ ونحوها واستثماراتٍ ومحاضراتٍ، نجدها كلها ما عدا الخطابة والمحاضرة يمنع في مجال فردي، ويسمونها بالاختصار والإيجاز، وتؤدِّي بأي أثر، ويؤديها أيُّ إنسان.
أما الخطابة: فهي تخص الجماهير، والطيب قد يواجه جمهورًا مختلف الفئات، متنوع المشارب، مختلف المسالك، وقد يضم على من لا يعرفهم ولا يعرفه.
ثم هو يتعرف بشكل اتجاهي ومرشدًا ويكون آمرًا ناهيًا، فعليه أن يوجههم إلى الجانب ويقنعهم بمذهبه ويقودهم إلى مسلكه. وقد تكون الفكرة جديدة عليهم، أو ثقيلة على نفوسهم، مما يؤدي إلى تردد أو امتناع، ومن ثم فعليه أن يوصي نفوسهم إذا كانت جامحة، ويقنع أذهانهم وإن كانت معاندة، في أصبح قائدًا للجماهير الأبوية، ومحققًا لرغبته من كافة سامعيه، على اختلاف فرقهم، وليس هذا بالأمر الهين، فقد يقدر الإنسان على ترويض الوحوش الكاسرة وتذليل النافرة، ويعجز عن استمالة بعض النفوس؛ الواضحة فوق هذا وذاك كما شبَّهم عمر “الناس كجمَل أنُف”.
وذلك بفضل جميع ما تقدير من تعريف الخطابة، ونشأتها، وخصائصها تكون قد ظهَرَت أهمية الخطابة وآثارها، ووجوب العناية بها.
الفرق بينها وبين غيرها من فنون النثر: لا يخلو الكلام مَع الناس في كونه مع أعضاء أو جماهير، فالكلام مع غير الجماهير إن كان للإفهام والبيان له حديث، وإن كان لحثٍّ على مصلحتهم شفقةً بهم فهو وصيَّةٌ.
والكلام مع الجماهير، إما أن يكون لشرح الحقيقة العلمية، أو لبيان للنظر، فهو محاضرةٌ، وإما أن يكون لإثارة الشعور، وبث الحماسة وحريك العواطف، واستمالة المخاطبين، فهو خطابةٌ.
فرانسيسكو فالخطابة، والمحادثة، والوصية، والمحاضرة، تشترك كلها في فن النثر، وتختَص الخطابة والمحاضرة بالجماهير.
الفرق بين الخطابة والمحاضرة:
أ – المحاضرة هي القصد إلى حقيقةٍ علميةٍ أو نظريةٍ تلم بأطرافها، للتخلي عن غموضها، وتزيل لبسها، وعليه فهي تعتمد لا خيال، وتخاطب العقول لا العواطف، وتستهدف العلم، ولا تثير الإعجاب، وتخص غالباً المثقفين.
ب – أما الخطابة فهي القصد إلى فكرةٍ ورغبةِ تصميم أهدافها وتحسُّنِ أهدافها، وقد تكون معلومةً من قبل فهي تعمد إلى الإثارة والقناعة، وتخاطب المشاعر المرغوبة وتستهدف الاستمالة، وتعم المثقفين وغيرهم.
ويلاحظ أن الخطابة بالنسبة إلى المحاضرة قد يجتمعان وقد يفترقان، وأن المحاضرة تكون موضوعاتها الدائمة وأبدًا علميةً، دينيةً كانت أو دنيويةً، كأن يأتي مهندس زراعي يشرح نظرية وتتابع ح، وعوامل نقل متعددة من النباتات إلى أزهار الإناث عن طريق الخلايا أو، أو، يأتي طبيبٌ يبين مراحل الحمل من حيوانٍ منويٍّ وبويضة إلى علقةٍ وحوافزٍ وتغذيته إلى بروزه طفلاً.
أو يقوم عالم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – فيتناول ركن الزكاة: متى شرعت؟ وعلى مَن؟ ونوع المال الذي يجب فيه، وشروط وجوبه، ومصارفه، وما وراء ذلك من حِكَمٍ ومصالحَ.
أما الخطابة فقد تكون موضوعها معلومةً بالفعل، كما في خطب الجمَع مثلاً إذا تناولت الخطيب موضوع الصدق والواقع يحثهم، أو موضوعا يحذر منه، فإن جميع السام العين يعلمون وجوب الصدق ولزوم الأمانة كما يعلمون تحريم الربا.
إلا أن الخطيب حين يتكلم عن المعلوم فإنما يريد إثارة المشاعر بما فيها بما علمت، ويؤثر على السامعين بما يلقيه عليهم، ويصل بهم إلى العمل بالفعل.
فلا يعدِم من السامعين من يعزم على تحرِّي الصدق، أو من يندم على التعامل بالربا، وقد يوفق في التزام هذا والالتزام، وهذه هي الغاية من الخطابة الناجحة، ومن هذا يتقن خصائصها.
التعليقات