لفظ الخطبة

ينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة مُبَيِّنَةً مرتَّبةً مرتَّلةً، بعبارةٍ يفهمها السامعون، لا يزدريها العلماء، ولا يجهلها العوامُّ، عذبة الإيراد، سهلةً على الأفهام؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله -تعالى-، ولحسن اللفظ في هذا أثرٌ ظاهر يُكره تكلُّف السجع فيها، وتحرِّي دقائق الإعراب ووحشيِّ اللغة.
وينبغي أن يقتصد فيها ولا يطوِّلها؛ لئلا يُضجر السامعين، وتذهب حلاوة السَّماع وجلالة المسموع من قلوبهم؛ خوفًا من أن يؤدِّي بهم إلى كراهة سماعها فيقعوا في المحذور، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوَّلهم بالموعظة كراهة السآمة عليهم، كما ثبت في "الصحيحين" من رواية ابن مسعود.
وثبت في "صحيح مسلم" عن عمَّار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأَقْصِروا الخُطْبة)"
وقوله: "مَئنَّة"؛ أي: علامة دالة على فقهه.
وقال الزهري -رحمه الله-: "إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه نصيب".
وينبغي أن يحافظ على الإتيان بالشهادتين فيها مع الثناء على الله -تعالى-؛ فقد روى التِّرمذي حديثًا حسنًا من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل خطبةٍ ليس فيها تشهُّدٌ؛ فهي كاليد الجَذْماء"(ورواه أبو داود).
وينبغي أن يحافظ على الإتيان بقوله: "أما بعد" بعد الثناء وقبل الوصية بالتقوى؛ فهي سنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع خطبه في "الصحيحين" وغيرها.
وهي فصل الخطاب الذي أوتِيَه داود عليه السلام في قوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص: 20]، في قول جماعةٍ من المفسِّرين.
وينبغي أن يبيِّن كلامه ويوضِّحه؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه، وإذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا".
وقد خطب رجلٌ بين يَدَي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال في خطبته: "مَنْ يُطِعِ الله ورسوله فقد رَشَد، ومَنْ يَعْصِهِما فقد غَوى"؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بئس الخطيب أنت! قُلْ: ومَنْ يَعْصِ الله ورسوله فقد غَوى"، لمَّا أوْهَم ذلك التَّشريك في اللفظ -بِعَوْدِ الضَّمير إلى الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لغير ذوي الأفهام، مع أنه مَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومَنْ عصى الرسول فقد عصى الله، ولا يلزم في الأدب أنَّ مَنْ أطاع الله فقد أطاع الرسول -قبَّح عليه ذلك من عَوْد الضمير إليهما، للإيهام في الاشتراك عند غير أهل الفهم؛ فقال له: "بئس الخطيب أنت"؛ لأنه كان في مقامٍ عامٍّ، فأرشده بالتَّقبيح إلى الإيضاح الذي لا يوهم اشتراكًا على بُعْدٍ بعيد،، والله أعلم.
وينبغي للخطيب والواعظ والمدرِّس والمعلِّم ألاَّ يراقب مَنْ يسمعه أو يتعلَّم منه في شيءٍ ممَّا يلقيه ويتكلم به؛ بل يكون مراقِبًا لربه -سبحانه وتعالى- فيما أمره في تلك الحال من الإبلاغ والأداء والنَّفع للسَّامعين فيما يحتاجون إلى معرفته من أحكام دنياهم وآخرتهم، مُعْرِضًا عن مراقبة نفسه في هيئتها ومَنْ حَضَرَه من المستمعين وغيرهم،، والله أعلم.
وينبغي أن تكون الموعظة في كل وقت وزمان على حسب حاجة النَّاس إليها مما يجهلونه من الأحكام الشرعية، والتَّنزيهات الربَّانية، وما يَحْمِل على طاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى قِصَر الأمل في الأمور الدنيويَّة دون الأخرويَّة، وما يحمل على الإيمان بالبَعْث والنُّشور، والجنة والنار، وعلى العمل والإخلاص فيه، وعلى التَّناصف والتَّواصل والتَّراحم، وترك التَّقاطع والتَّدابُر والتَّظالُم، وعلى التعاون على البرِّ والتقوى، ونصر المظلوم، ونصر الظالم بمنعه من الظلم، وحثِّ ولاة الأمر على العدل والإنصاف والإحسان، وتَرْك الجَوْر والإثم والعدوان، وحثِّ النَّاس على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي سببٌ لرفع البلاء، والنَّصر على الأعداء، وعدم تعميم العذاب، واستجابة الدعاء من ربِّ الأرباب، وإنزال البركات، وغفر الذنوب والتَّبِعات.
ويذكرُ فضل الأزمنة والشهور والأعوام، ويحثُّ على الصلاة والصيام، والحج وإقامة الشعائر والمناسك والقيام.
وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون، والأئمة والعلماء العارفون، واعتمادهم في خطبهم ووعظهم وتذكيرهم، ومقصودهم بإنذارهم وتبشيرهم. فهذا هو السنَّة، وما عداه هو البدعة.
وليحذر كل الحذر من إيراد الأحاديث الموضوعة والضعيفة لقصد التَّرغيب - خصوصًا في البدع - والتَّرهيب، وذكر الأمور المشتبِهة لقصد ترك الاختلاف والتَّشبِيب، وليكن جُلَّ مقصوده بموعظته الائتلاف على طاعة الله وعدم الخلاف، والاجتماع على البرِّ والتقوى والإنصاف.
وينبغي أن يحافظ على الإتيان بأركان الخطبة التي لا تصحُّ إلا بها، وهي: حمد الله -تعالى-، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظ "الحمد" و "الصلاة" متعيِّنٌ؛ لأنه لم تُنقَل خطبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بلفظ "الحمد".
وأمَّا لفظُ "الصلاة"؛ فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّمهم لفظَهُ كما علَّمهم التشهُّد، كالسورة من القرآن، ومعناه في الصلاة؛ فكذلك لفظ "الصلاة" هنا، مع أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما جلس قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله -تعالى- فيه، ولم يصلُّوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرةً"، وهذا عامٌّ في كل مجلسٍ من الخطبة وغيرها.
والوصية كالتقوى والطاعة؛ ولا يتعيَّن لفظ "التقوى" على الأصحِّ؛ بل يكفي معناها، وينبغي المحافظة على لفظها خروجًا من الخلاف، ولأنه أبلغ في المقصود؛ قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
وهذه الثلاثة لا بدَّ من الإتيان بها في الخطبتَيْن جميعًا.
ويجب قراءةُ شيءٍ من القرآن، وهو ركنٌ في إحداهما لا بعينها على أصحِّ الأوْجُه.
والثاني: تجب فيهما.
والثالث: تختصُّ بالأُولى.
وينبغي أن تكون القراءة مناسبة لمعنى الموعظة.
ويجب الدعاءُ للمؤمنين، وهو ركنٌ، وأقلُّه ما ينطلقُ عليه اسم "الدعاء"؛ قال الله -تعالى- إخبارًا عن المؤمنين الذين جاؤوا بعد المهاجرين والأنصار: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].
فالدعاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالصَّلاة عليه واجبٌ، والدعاء للمؤمنين على العموم واجبٌ، والدعاء لبعضهم على الخصوص، خصوصًا إذا كانوا أخيارًا صالحين عادلين - جائزٌ؛ بل مستحبٌّ، وإن كانوا جائرين مخالفين، استُحِبَّ أن يُدعى لهم بالصَّلاح والتَّوفيق والتَّسديد والإصابة في هذا الموطن، وفي كل موطن يُرجى استجابة الدعاء فيه، وقد قال بعض السَّلف رحمة الله عليه: "لو أعلم أن لي دعوةً مستجابةً؛ لجعلتها لولاة أمور المسلمين".
وينبغي للدَّاعي لهم من الخطباء وغيرهم ألاَّ يفخِّموا المدعوَّ له منهم بألقاب ونعوت التعظيم والكبرياء؛ لأنه موطن ذلٍّ وخضوع، وسؤالٍ بين يدي من العظمة إزاره والكبرياء رداؤه، ولو كانوا صالحين عادلين.
فيا أيها الخطباء: الْحَظوا ما ذكرتُه لكم وبيَّنتُه، واحذروا من مخالفته؛ تُفتَنوا إن لم تَنْتَهوا، ولا تتهاونوا في ذلك وتغفلوا؛ تُقْصَموا، ولا يغرنَّكم الزينة والرِّياسة؛ فإنها ضدُّ السياسة، ولا تُراعوا جانب المربوب على جانب الربِّ، وقولوا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23]، كما: (تَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 37].
ويجب موالاة ألفاظ الخطبتَيْن؛ فلا يقطع ألفاظهما بفصلٍ طويلٍ، فلو قطعهما بذلك استأنف ولم يَبْنِ.
ويجب الترتيب بين الحمد والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والوصيَّة والتقوى، فيبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بالوصية...
وتجب الطهارة لهما عن الأحداث والنَّجاسات كما تجب للصلاة.
ويجب على الخطيب رفع الصوت فيهما؛ بحيث يسمع أربعين من أهل الكمال، ويَحْرُم الكلام على مَنْ يسمع الخطبة منهم، ومن سمعها زائدًا على الأربعين حَرُمَ عليه الكلام أيضًا في الإملاء من "كتاب" الإمام الشافعي -رحمه الله- الجديد والقديم، وهو الظاهر من عموم الأحاديث الصحيحة، ومدلول الكتاب العزيز، والمقصود من حضورها، وقد أجمع العلماء على شرعية ترك الكلام والإنصات فيهما،، والله أعلم.
التعليقات