تجديد الخطاب الأخلاقي
لسنا في حاجة أن نعدِّد أهمية الأخلاق والقيم للأفراد والمجتمعات، وكفانا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد اختصر فيها الهدف من بعثته قائلًا: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"([1])، وفي لفظ للبزار: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومرة أخرى يحصر -صلى الله عليه وسلم- البر كله في الأخلاق قائلًا: "البر حسن الخلق"([2]).
لكن المراقب للمجتمعات الإسلامية اليوم لا يجد تأثيرًا كبيرًا لهذين الحديثين كما كان متوقعًا؛ فأصحاب الخلق الحسن نادرون، وهم بين الناس مظلومون معذَّبون، وما ترك أبناء عصرنا خلقًا سيئًا قد حذَّر الإسلام منه -فيما أعلم- إلا قارفوه!
وإنك لتبصر القيم والـمُثل والأخلاق وهي تنهار وتتزيف مدلولاتها؛ فالحياء عجز ونقص، والعفو قهر وقلة حيلة، والصدق هو ما كان في مصلحة المتكلم ولو خالف الواقع... وعلى النقيض تجد الخديعة ذكاء ونباهة، والخيانة "شطارة" وتيسيرًا للمصالح، وظلم الآخرين ضرورة للأمن من مكرهم...
حتى لقد صارت بعض الألفاظ الأخلاقية غريبة على أسماع أبناء مجتمعاتنا، كالزهد والمروءة والشهامة والوفاء والأمانة والصدق والغيرة... وإن سمع البعض ألفاظها مرة فإنهم لا يعلمون منها إلا معان سطحية مزيفة.
واختلفت الهموم والأمنيات لأفراد المجتمع فصارت المال والشهرة والجاه والمنصب والزوجة الجميلة... بعد أن كانت أمنيات الأولين وهمومهم المواظبة على قيام الليل وعلى صيام التطوع والنجاة من عذاب القبر والأمن من فزع يوم القيامة...
ونتساءل: هل اختفت الأخلاق من حياتنا كليةً؟ ونجيب: لقد بقيت بيننا جسومها وغادرتنا أرواحها، فهي الآن جسد بلا روح ولفظ بلا معنى؛ فلقد وُجِّهت الأخلاق لغير وجهتها الصحيحة، فسيقت في مسارات خاطئة حادت بها عن حقيقتها.
فالرحمة -مثلًا- وهي قيمة أخلاقية عليا، قد تغيَّر معناها وحادت عما وُضعت له؛ فهي اليوم تعني عند أغلب الناس شفقة الإنسان بكلبه أو بقطته في حين يظلم البشر ويوقعهم في الحرج... أو تعني شفقته الفطرية بولده أو بزوجه، ولا تتعداهم إلى غيرهم، حتى إنك لو ذكَّرته -وقد أغلظ لمدين معسر مثلًا- فقلت: ارحم حاله وارحم ضعفه، أجابك متعجبًا: أكان من بقية أهلي؟!
في حين قد وُضعت الرحمة في الإسلام لجميع المخلوقات التي خلقها الله -تعالى-، ففي حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فوالذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا" قالوا: يا رسول الله، كلنا رحم، قال: "إنه ليس برحمة أحدكم خاصته، ولكن رحمة العامة"([3]).
وواجب الدعاة والخطباء الآن أن يعيدوا أخلاقيات المجتمع إلى وجهتها الإسلامية الأولى، تمامًا كما فعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- حين انحرفت العرب بالأخلاق السماوية السابقة عن مسارها، يقول الباجي: "كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها، فبُعث -صلى الله عليه وسلم- ليتمم محاسن الأخلاق؛ ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه"([4]).
معالم في تجديد الخطاب الأخلاقي:
هناك طريق لا بد من سلوكه لمحاولة تجديد الخطاب الأخلاقي، وخطوات متدرجة لا بد أن تُتبع، وعقبات لا بد أن تذلَّل، وهناك أيضًا معالم وبصائر تحكم جميع ذلك، والتي تساهم جميعها في تحقيق الغاية المنشودة، ومنها ما يلي:
أولًا: تجديد الوعي قبل تجديد الأخلاق: فمصدر التلقي الرئيس هو القرآن ويليه السنة النبوية، فهما المنوط بهما تحديد مدلولات الأخلاق وحدودها والدخيل عليها، وليس المرجع في ذلك إلى كتابات الغربيين والمستغربين الأخلاقية...
وأخلاقنا قائمة ونابعة من ديننا لا من الأخوة الإنسانية والضمير "الحي" وحسب. ومرادنا من تحسين أخلاقنا هو مرضاة ربنا في المقام الأول وليس مجرد العيش في وئام وسلام...
وأخلاقنا ثمرة لعبادتنا لربنا -عز وجل-، ولا ثمرة بلا شجرة، فكذلك لا أخلاق حسنة بدون عبادة خالصة لله -تعالى-... إلى آخر ذلك من مفاهيم إدراكية ينبغي إرساؤها قبل محاولة تجديد الخطاب الأخلاقي.
ثانيًا: الدور الإعلامي لا يمكن إغفاله أبدًا: فإن للإعلام دور أساسي ومحوري وجوهري في تجديد الخطاب الأخلاقي، والإعلام أيضًا أداة هدم خطيرة إذا ما أُسيء استخدامها، وإننا نرى "بطل الفيلم" وقد صار قدوة للشباب يقلدونه، و"بطلته" وقد صارت مثلًا أعلى للفتيات!
ويتلخص الدور الإعلامي هنا فيما يسمى بـ"التدريب الأخلاقي"، فتُستثمر وسائل الإعلام والنوادي الثقافية والمنابر والخُطب والمحاضرات ومقررات المدارس والجامعات والصُحف والنشرات الدورية وغيرها في ترويج القيم الأخلاقية وتزيينها كقيمة العفو ومقابلة السيئة بالحسنة وكفضيلة الإصلاح بين المتخاصمين، وكمساعدة المحتاجين، وكرفع الظلم عن المظلومين...
ولا أبالغ حين أقول أنه بدون إشراك الإعلام في مشروع التجديد الأخلاقي سيظل هذا المشروع في مأزق، محصورًا في حفرة عميقة لا يستطيع الخروج منها للتأثير فيمن يحيون على وجه الأرض، وسيبقى "حبرًا على ورق".
ثالثًا: الأخلاق يُغرى بها ولا تُفرض: فالأسلوب الأمثل في إشاعة الأخلاق الأصيلة هو الترغيب فيها، خاصة عن طريق تقديم القدوة، وقد قيل: "الأرواح تُعدي كما تُعدي الأجسام"، وقيل: "حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقالة ألف رجل لرجل".
وكما أن القرآن الكريم يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة: 256]، فكذلك: لا إكراه في التخلق بالأخلاق الفاضلة، فإن الفضائل يُرغَّب بها ترغيبًا ولا يُلزَم بها إلزامًا؛ فإنك إن حملتهم عليها بقانون يُسن -مثلًا- فإنهم سرعان ما سيتفلتون منها؛ إذ لا رصيد لها في قلوبهم، أما لو دخلتْ قلوبَهم طواعية باقتناع وحب، فقد يبذلون أموالهم وأرواحهم دفاعًا عنها.
ومن المهم في هذا السياق أن نميز ونَفْصل في أذهان الناس بين دعاة الحق وبين من اتخذوا الدعوة سُلَّمًا للشهرة والغنى، فإن المتأمل في سلوكيات بعض الدعاة يدرك أننا في أزمة؛ أزمة فصام بين القول والعمل، ولنَحْذر ونحن نفعل ذلك من خدش ثقة الناس في الدعاة أجمعين فلا يقبلون من داعية نصحًا ولو كان مخلصًا.
رابعًا: العودة بالناس إلى القرآن: فهو منبع الفضائل والأخلاق([5])، وهو المجدد الأعظم لما درس منها وبهت واضمحل، وهو المصحح لما انحرف منها عن مساره، وهو الجامع لجميع الأخلاق الفاضلة في أخصر كلمات، كمثل قوله -تعالى-: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77]، وقوله سبحانه: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[البقرة: 110]...
وإن قواعد الأخلاق وأصولها مبثوثة في جميع جنبات القرآن الكريم داخلة في كل قضاياه، ففي خضم آيات الطلاق بما يحويه عادة من تباغض وشح وتغالب يذكرنا القرآن بجانب أخلاقي فيقول: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة: 237]، وفي معترك الجنايات والقصاص والديات وقد سالت الدماء وقُطِّعت الأعضاء يُبرِز القرآن جانبًا أخلاقيًا ساميًا فيقول: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)[المائدة: 45]... وما من شيء كالقرآن يعيد الحياة إلى الأخلاق ويُخلِّصها مما علق بها من أدران.
خامسًا: البدء بالأخلاقيات الجامعة: كخلق الصدق وخلق الأمانة وخلق الحياء وخلق الشكر وخلق الرحمة... فإنها تدخل أغلب مجالات الأخلاق، والتخلق بها يؤدي إلى التخلق بغيرها، ولعله تكون لنا مع بعض هذه الأخلاق وقفات مستقلة نتأمل في سبل تجديدها.
----------
([1])أحمد (8952)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد).
([2])مسلم (2553).
([3])النسائي في الكبرى (5928)، والحاكم وصححه (7310) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 2253).
([4])شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/404)، ط: مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة. وينظر: المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (7/213)، ط: مطبعة السعادة - مصر.
([5])للاستزادة: كتاب دستور الأخلاق في القرآن، للدكتور: محمد عبد الله دراز، ويقع في أكثر من ثمانمائة صفحة وكاد مؤلفه أن ينقل فيه القرآن كله.
([1])أحمد (8952)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد).
([2])مسلم (2553).
([3])النسائي في الكبرى (5928)، والحاكم وصححه (7310) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 2253).
([4])شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/404)، ط: مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة. وينظر: المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي (7/213)، ط: مطبعة السعادة - مصر.
([5])للاستزادة: كتاب دستور الأخلاق في القرآن، للدكتور: محمد عبد الله دراز، ويقع في أكثر من ثمانمائة صفحة وكاد مؤلفه أن ينقل فيه القرآن كله.
التعليقات