من أساليب الإلقاء
المقصود بالأسلوب: نَصُّ كلام الخطبة الذي يتفوه به الخطيب من عبارات وجُمل وتراكيب لفظية، فهذا الأسلوب ينبغي أن يكون بليغًا مؤثِّرا، ومصوِّرًا للمعاني التي يقصدها الخطيب أصدق تصوير، ومعبرًا عنها أجمل تعبير.
وقد مر بنا عند تعريف الخَطابة أن من أهم أسسها الإقناعَ والاستمالةَ؛ فهما جناحان ترقى بهما الخطبة إلى منزلة القبول، وتلِج بهما القلوبَ والعقول، وبهما يُقبِل على الخطيب المستمعون، ويتفاعل معه المخاطَبون، ومن هنا كان على الخطيب أن يصوغ أسلوبه صياغة تحقق الإقناع والاستمالة، ليكون القبول والتأثير.
والأسلوب الذي يتحقق به هذان العنصران ينبغي أن يتسم بالبلاغة والقوة؛ فالبلاغة تمنح الوضوح والإقناع.
والقوة تمنح التأثير والاستمالة؛ فليحرص الخطيب على أن يكون أسلوبه بليغاً وقوياً ومؤثراً.
قال الجاحظ: وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة وغشّاه من نور الحكمة على حسب نية صاجه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا من الاستكراه، ومنزّهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف؛ صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصَلت الكلمة على هذه الشريطة ونفذت من قائلها على هذه الصفة؛ أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدورُ الجبابرة، ولا يَذهَل عن فهمها معه عقول الجهلة (البيان والتبيين:1-83).
وكلما كان الخطيب قادراً على إفهام الناس والإبانة عن مقصده فقد حاز البلاغة مع الفصاحة، قال إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: "يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع"(البيان والتبيين:1-87).
وإذا كان كلامُ الخطيب يَخرج من قلبه؛ كان أسلوبه قوياً، ووصل إلى قلوب الناس وأثّر فيهم.
"وقد قال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان، وقال الحسن رحمه الله - وسمع رجلا يعِظُ فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرِقّ عندها - فقال: يا هذا إن بقلبك شرا أو بقلبي"(البيان والتبيين:1/83-84).
ويضاف إلى هذا:
* أن يكون الأسلوب خالياً من التعقيد.
* وأن يختار الخطيبُ المقاطعَ التي سيقف عليها بعناية.
* وأن تكون الجمل قصيرة بقدر الإمكان.
* وأن يكون الكلام خالياً من الأخطاء النحوية، واللغوية.
* وأن يستعمل الخطيب الخيال والاستعارة والمجاز والكناية فيثير بهذا المشاعر والعواطف.
* وينبغي أن ينوِّع في الأسلوب ويتفنن فيه، فتارة يأتي بأسلوب الاستفهام، وأخرى بأسلوب التعجب، وثالثة يعمد إلى تقرير الحقائق وسوقها في أسلوب خَبريٍّ، ورابعة يأتي بأسلوب ضرب المثل... وهكذا.
* وأن يكون الأسلوب متينًا، أي يفرغ المعنى في لفظ يناسبه، فالمعاني الجزلة تحملها ألفاظ فخمة قوية، والرقيقة تحملها ألفاظ لينة لطيفة.
ولنا عوْدٌ مرةً أخرى نفصّل فيها هذا الإجمال ونوضح المقصود، فيما يتعلق بالأسلوب، وذلك عند الحديث عن المرحلة النهائية من مراحل تكوين الخطبة، وهي مرحلة التعبير، وصياغة الخطبة، وهو مكمِّل لما هنا.
التعليقات