للخَطابة أسلوبُها الذي يختلف عن أسلوب المحاضرة والدَّرْس، والمناقشة والجدل[1]، وهي تستلزم إثارةَ المشاعر، وإلْهابَ الحماس، واستعمالَ العبارات العاطفية مِن لَدُن الخطيب، وباتجاه مَن يخاطبهم، وبما أنَّ الخطيب يُكلِّم طبقاتٍ مختلفة، وعقليات متفاوتة، لهم مشاعرُ متباينة، وفي ظروف وأحوال ومناسبات مختلفة، فوَجَب عليه أن تكون انفعالاتُه ومشاعره مِن غضب وتألُّم، وتحسُّر وتأسُّف، وحبٍّ – مبنيةً على أساس قويم، ومنهج سليم، تتناسب مع المقامِ والحال، وظروف مَن يخاطبهم، ولا يجعل الأمرَ كلَّه سواءً.
وممَّا دعاني إلى كتابة هذا المقال:
أني رأيتُ بعضَ الخطباء ليس لهم درايةٌ بأصول وفنِّ الخطابة، وما ينبغي فعلُه، وما لا ينبغي، مع ضعْف التواصُل مع المستمعين في تبليغ الرِّسالة الدعويَّة، خاصَّة إذا علمنا أنَّ الخطيب يرتقي مقامًا له الأثرُ الهام في علاج معظم الانحرافات التي تُصاب بها الأمَّة، سواء ما يتعلَّق منها بالعقيدة أو السلوك؛ لكونِه تُتاح له الفرصةُ لمخاطبة ألوان من المدعوين، وهذا يستوجب منه الإلمامَ بمقوِّمات الخُطبة الناجِحة، وأن تكون أعصابُه ونفسيتُه مقيدةً بهديِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مجال الدَّعوة، وبحسب ما يقتضيه الحال والموقف.
التفاعل سبب التواصل والتأثير:
الخطيب الذي لا يتفاعل ولا يتحمَّس لِمَا يقول لا يؤثِّر في عقول وقلوب مَن يتحدَّث إليهم؛ لأنَّه يصبح آلةً مجرَّدة من المشاعر والأحاسيس، تُلْقي كلماتٍ مجرَّدةً عن المعاني، ثم تنتهي وظيفتُه ومهنته دون أن ينتفعَ منه الحاضرون، فبينه وبين مَن يدعوهم ويعظهم حجابٌ غليظ، وجدار عازل، ولا شكَّ أنَّ الخطابة مقصودها الأعظم هو تحريكُ العواطف والمشاعر نحوَ مرضاة المولى سبحانه، وفِعْلِ الخير، وصَرْفها عن الشَّرِّ بقدر الإمكان، وهذا يتطلَّب من الخطيب أن تكون له مهاراتٌ معيَّنة في الأداء والأسلوب[2]، واختيارٌ أمثلُ للموضوع في جذْب أنظارِ الحاضرين، وإيقاظ هِمَمِهم، وتحريك عزائمهم، بما يسوقه مِن أمثلة ووقائعَ وأحداث، وأن تتناسب انفعالاتُه مِن حبٍّ وغضب، وتألُّم وفرح، وتوجُّع وتأسُّف، بحسب مقتضى الحال وما يلاءم الظَّرْف، فإذا رأى ممَّن يدعوهم فتورًا في الإصغاء، وضعفًا في الانتباه والإقبال، لجأَ إلى المثيرات والمنبِّهات، وهي عديدة في جعبة الخطيب؛ ومنها:
1- الاستعانةُ بالقَصص الوارد في القرآن والسُّنَّة، ورَبْطه بواقع المسلمين، والاستعانة بضرْب الأمثال، وتصوير المعاني بأشياءَ محسوسة؛ لتقريب المعاني إلى أذهان المستمعين.
2- جَلْب انتباه المستمعين مِن حادِث مهم، وخبر ذي فائدة، وربطه بمعاني القرآن، والسُّنن الكونيَّة، وأن يختارَ من الحوادث ما يكون محورًا للخُطبة، بحيث يخرج بحلٍّ لِمَا يستجد مِن حوادث، وما يَحُلُّ بالمسلمين مِن بلاء وضيق، كلّ ذلك مع التفاعل الصادق، والرغبةِ المفعمة بالحبِّ والشفقة والرحمة؛ لمدِّ يَدِ العون لعباد الله، لإنقاذهم ممَّا هم فيه مِن بلاء وشدَّة.
3- تذكيرُ المسلمين بالأصْل العظيم، ألاَ وهو طاعة الله ورسوله، فهُمَا سببُ النجاة في الدنيا والآخرة، والسعادةِ الحقَّة، وتذكيرُهم بنعمة الله عليهم في السرَّاء والضرَّاء، وأنَّه لا ينبغي لهم مقابلةُ نِعمه الوفيرة بعصيانه، وجحود النِّعمة.
4- أن يقرنَ بين التبشير والإنذار، والترغيبِ والترهيب، حسب الحال والمقام، فإذا كان التبشير برضوان الله وجَنَّته لِمَن أطاعه ملائمًا، بسبب أنَّ مَن يدعوهم قد وقعوا في اليأس والقنوط، ركَّز عليه ووضَّحه، وأتى من الآيات والأحاديث الشريفة ما يُجلِّيه، وإن كان الإنذار والتخويف ملائمًا، بسبب أنَّ مَن يدعوهم متمادون في طغيانهم وعصيانهم، سَرَد الآياتِ والأحاديثَ المتعلِّقة بهذا الجانب، وحذَّر من عقوبة الله وغضبه، ولكلِّ مقامٍ مقال.
5- هندسة الصوت ومناسبته لانفعالات الخطيب أمرٌ هامٌّ جدًّا، فلا يرفع الصوت لغير الحاجة، ولا يخفضه فتملّه الأسماع، بل يكون صوتُه كالرَّسم البياني يخفض ويرفع، حسب الموضوع، وحال المستمع؛ لأنَّ مَن يخاطبهم ليسوا على مستوًى واحد مِن حيثُ التأثُّر، فمنهم مَن تكفيه أدنى إشارة، ومنهم مَن لا يتَّعظ إلاَّ برْفع الصوت والإنذار بالقول، وسيأتي توضيحُ ذلك.
لِمَ كانت خطب الرسول مؤثرة؟
إمامنا في الوعْظ والإرشاد هو رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بل هو إمامُ الأنبياء وخطيبُهم إذا وفدوا، وأوَّل مَن رقي المنبر، فكانتْ كلماته لها وقعٌ وأثر في القلوب والأسماع، كيف لا، وقد أوتي جوامعَ الكلم؟! وهي: "إيصال المعاني المقصودة بأحسنِ صورة من الألفاظ الدالَّة عليها، وأفصحها وأحلاها لدى الأسماع، وأوقعِها في القلوب".[3]
وأيضًا كانت خطبته – صلَّى الله عليه وسلَّم – "بيانًا لأصول الإسلام من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ولقائه، وذِكْر الجنة، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهلِ معصيته، فيملأ القلوبَ إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفةً بالله، وأيَّامه"[4]، وإنَّما كانت خطبه – صلَّى الله عليه وسلَّم – مؤثرةً؛ لأنَّه كان على قناعة تامَّة، ويقين جازم بما يدعو إليه، وحريصًا على هداية البشرية؛ فقد جاء في الحديث أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال لقريش: ((أرأيتُم لو أخبرتُكم أنَّ العدوَّ مُصبِّحُكم أو ممسِّيكم، أكنتم تصدقونني؟))، قالوا: بلى، قال: ((فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد))[5].
وكان لصِدْق انفعالاته وتفاعله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع ما يقول ويتكلَّم، ويُحدِّث ويأمر – أثرٌ وسلطانٌ على القلوب، وحياةٌ وإشراقٌ في النفوس لكلِّ مَن يسمعه، حتى إنَّ كلماتٍ وجيزةً من حضرة مقامِه – صلَّى الله عليه وسلَّم – جعلتِ الصحابةَ الكرام يذرِفون دموعَهم[6]، وكان لشدَّة تأثُّره بما يقول، وإحساسه بما يحدُث ويقع، يَظهر أثرُ ذلك على وجهه وعينه، بل وكلماته وحركاته، وكان إذا خَطَب ((احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنَّه منذرُ جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعثتُ أنا والساعَةَ كهاتين – ويقرن بين إصبعيه السبابة والوُسْطى))[7].
يقول الشاعر أحمد شوقي في مدْح الرسول الأعظم[8]:
وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِزَّةٌ تَعْرُو النَّدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ
بل كان مَن ينظر إلى شخصه، ويتأمَّل في خُلقه، ويتمعَّن في أوصافه وشمائله – يصدِّقه قبل أن يسمع حديثَه، ويؤمن به قبلَ أن يرى شخصه، ورغم أنَّه- صلَّى الله عليه وسلَّم – كان يعلم مِن حقائق الغَيْب، وأهوال الساعة، وقرب علاماتها، وسرعة زوال الدنيا، ومشاهدته عيانًا للغيب – ما أوصلَه ذلك إلى درجة عين اليقين، ولم يحمله ذلك أبدًا على أن تختلط مشاعرُه، أو يغيب إحساسُه، أو تتمازج عواطفه؛ بل كان متحكِّمًا فيها، مسيطرًا عليها، آمرًا لها؛ لجَلَدِه وحِكمته، وقوَّة بصرِه وبصيرته، وعظمةِ إيمانه ويقينه، ولو كُشِف لأحد جزءٌ ممَّا كشف لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لَمَا استطاع أن يذوق طعْمَ النَّوْم والرُّقاد، ولبقي أبدًا في يقظة وسهاد، ولَمَا قدَر على تصوير ما يعلم ويرى في صورة خِطاب للناس؛ قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((واللهِ، لو تعلمون ما أعلم لضَحِكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتُم بالنِّساء على الفُرش، ولخرجتُم إلى الصُّعدات تجأرون إلى الله))[9]، وهذا يدلُّ على كمال اليقظة والحضور، وقوَّة اليقين والبصيرة، وشجاعةِ القلْب وقوَّته، وعظيم الشفقة والرَّحمة.
الخطيب الناجح مَن يُوظِّف انفعالاته لخدمة الموقف:
وعلى هذا الأساس – مما تقدَّم – فالخطيب الناجح مَن لا ينخرط في العواطف والحماس بغير قانون أو ضابط، أو ينجرُّ وراءَ النيَّات الحَسَنة، والعواطف النبيلة، أو يُفاجِئُ الحضور بانفعال نفسيٍّ بسبب حضور شخصٍ صاحب شَرَف ومكانة، أو سماعِه لخبر أو رؤيته لمشهد، بل يكون معتدلاً في غضبِه وبكائه، وابتسامته وتألُّمه، وحزنه وغَيْرته، فلا يذرف الدمعَ بلا سبب، أو يندفع في البكاء فتتحوَّل الخطبة إلى مأْتَم وعزاء، دون أن يخرج المستمع بكبير فائدة؛ بل يتحكَّم في أعصابه، فيُنسِّق حديثَه، ويرتِّب كلامَه، ويَبنِيه على مقدِّمات ونتائج، بحيث يعرف متى يَرْفع صوتَه، ومتى يخفضه، ومتى يسكت لأجْل الْتقاطِ النَّفَس، ومتى يُهيِّج المشاعر، ومتى يُسكِّنها.
إنَّ هناك نوعًا من الخطباء يعتقدون أنَّ الوعظ لا يكون مؤثِّرًا إلاَّ إذا صاحبه رفعُ الصوت والصراخ، وأحيانًا العويل، ويستدلُّون بأنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان "إذا خَطَب احمرَّتْ عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبُه، كأنَّه منذر جيش"[10]، وهذا الأمر مجانب للصواب، يقول النووي – رحمه الله – في شرْح الحديث: "يُستدلُّ به على أنَّه يستحبُّ للخطيب أن يُفخِّم أمر الخطبة، ويرفع صوتَه، ويجزل كلامَه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلَّم فيه مِن ترغيب أو ترهيب، ولعلَّ اشتدادَ غضبه كان عندَ إنذاره أمرًا عظيمًا، وتحديده خطْبًا جسيمًا"[11].
ولا شكَّ أنَّ الغَيْرة محمودة، وهي أن يغارَ الخطيب حينما يرى محارِمَ الله تُنتهك، فيَرْفع من وتيرة صوتِه حسب ما يقتضي الحال؛ بل لا ينبغي له في تلك الحال أن يكونَ باردَ الأعصاب، ميِّت المشاعر، كأنَّ الأمر لا يعنيه ولا يهمُّه، بل يعتدل في ذلك كلِّه، ووَفْق ميزان دقيق، فالغرضُ هو حمل الناس على طاعة الله، واجتناب نواهيه، والله المستعان.
على أنَّ هناك عواملَ عِدَّةً تجعل الخطيبَ مؤثِّرًا في المستمعين، يملك زِمامَ الأمر فيها، متحكِّمًا في أعصابه ومشاعره، موجِّهًا لها نحوَ خدمة الموقف والحال، ومن هذه العوامل ما يلي:
أولاً: الإخلاص والصِّدق لهما أبلغُ الأثر في نفسية الخطيب، وهي التي تضبط انفعالاتِه، بحيث يُوجِّهها التوجيهَ السليم الذي ينفع به الدِّين، ولا شكَّ "أنَّ ظهور أثر الصِّدق في وجه الداعي وصوته يؤثِّر في المخاطَب، ويحمله ذلك على قَبول قولِه واحترامه، إلاَّ إذا كان عَمَى القلْبِ قد بلغ منه مبلغًا عظيمًا"[12].
والأمر لا يحتاج إلى تصنُّع وتكلُّف؛ بل متى ما وقع الإيمانُ والثِّقة بالله انساب الحديثُ من الخطيب بالفِطرة، ويظهر أثرُ الصِّدق والإخلاص مِن نبرات الصوت، وعلى وجه الخطيب؛ ولهذا ينبغي على الخطيب ألاَّ يتصنَّع البكاء، وألاَّ يدفعَ نفسَه إلى الخشوع دفعًا؛ لِيُريَ الناس أنَّه حريص على هدايتهم، وأنَّه صادق فيما يدعو إليه، فربَّما وقع في الإحراج، بل يترك نفسَه إلى فطرتها، وما يُملي عليه إيمانُه.
وافتعالُ الحالة النفسيَّة – كالبكاء – خطأٌ يقع فيه بعضُ الخطباء؛ لاعتقاده – بسبب سوء فَهْم أو مغالطة – أنَّ الخطبة حتى تكونَ ناجحةً لا بدَّ من اشتمالها على البكاء.
إنَّ الخطيب الناجح مَن يوصِّل الفكرة، ويُرسِّخ المعلومة، ويكشف الشُّبهة؛ من أجل أن يستفيدَ منه المسلمون في حياتهم العملية.
ثانيًا: الورع والخوف من الله له الأثرُ في ضبْط الأعصاب، حيث تكون وفقًا لِمَا أمر الله به، فتُعظِّمه النفوس، وتنقاد لكلامه، "والمقصود من الخُطبة حصولُ الخشوع، والرجوع إلى الله، باتِّباع أمرِه، واجتناب نهيه، والخوف منه، والخوف ممَّا أوعد به، وقوَّة الرجاء فيما عنده، وحسن الظنِّ به سبحانه، فإذا كان الخطيبُ مُستعمِلاً في نفسه ما ذُكِر، كان أدعَى إلى قَبول ما يُلقيه على السامعين؛ لاتِّصافِه بما يتَّصف به هو كما مرَّ"[13]، إضافةً إلى ذلك تكون انفعالاته النفسيَّة منضبطة، لا تتلاعب بها الأحوالُ والظروف؛ بل يكون الخوفُ من الله هو الذي يتحكَّم فيها، وهذا الأمر نافِعٌ جدًّا عند حضور شخصية بارزة، أو وُقوع حَدَث طارئ مُفْزِع، فإن لم يكن الخطيب متسلِّحًا بالخوف من الله، وَقَع فريسةً للانفعالات النفسيَّة المتقلِّبة.
ثالثًا: التركيز على موضوع مُعيَّن، وهدف محدَّد، يتحمَّس له، وينفعل به الخطيب، يجمع الهِمَّة، ويُوحِّد له الفِكرة والهدف، ويجعل الذِّهن صافيًا، مما له الأثر في ضبْط الانفعالات، فيخرج الكلامُ بِأَرْيَحِيَّة دون تكلُّف، بخلاف مَن يتكلَّم في أمور شتى[14]، لا يجمعها جامِع، تتبعثر انفعالاته، وتتقلَّب أمزجتُه، وتتضارب عباراتُه، ويَخرج المستمعُ وهو كذلك متقلِّب المفاهيم، لا يعرف ماذا أراد الخطيب، فضلاً عمَّا فهمه هو من الخُطبة.
رابعًا: من المهمِّ جدًّا أن تكون المادة التي يُراد طرحُها حاضرةً في ذهن الخطيب، تعالِج موضوعًا واقعًا، أو مرضًا اجتماعيًّا منتشرًا، أو حَدَثًا هامًّا؛ لتتحد مشاعرُ الخطيب مع الحَدَث والمتحدَّث إليه، بدلاً من الكلام عن أمور لم تقع، أو لا تناسب حالَ الظرف والوقت، أو الكلام في مواضيعَ لا تناسب حالَ مَن يدعوهم.
فإذا كان يتكلَّم عن الغزو الفكري ومشاكلِ التطوُّر العلمي وهو يخاطب أهلَ البدو والقرى، فهو يُشتِّت أذهان المستمعين في قضايا لا نَاقةَ لهم فيها ولا جَمل، فيُضيع الجهود، ويُبعثِر الطاقاتِ فيما لا قدرةَ لهم عليه، ولا يدخل في نِطاق عملِهم.
خامسًا: عدمُ إهمال جانب العاطفة، ودَورِها في التأثير، كالرَّحمة والشفقة، والغضب، والمودَّة والحبّ، والمواساة والسماحة، والعفو والصفْح، والتألُّم والحزن، وجَبْر الخاطر، وغيرها من العواطف والمشاعِر النبيلة؛ لِمَا لها من عظيم الأثر في نجاح الخُطبة، وأن تكونَ تلك العواطف موافقةً لظروف الخُطبة، ثم يتأمَّل في واقع الناس، وأمراض مجتمعِه، ويعالجها – كالطبيب الحاذق البصير – بحكمة وروِيَّة واعتدال من غير أن يهملَ تلك العواطف، مراعيًا بذلك مشاعرَ من يُخاطبهم، فلا يليق بالخطيب أن يُهمل مشاعِر مَن يخاطبهم، ويضرب بها عُرْضَ الحائط، كان يتكلَّم مثلاً في تفاصيل لا يَليق به أن يذكرَها على المِنبر، بل يُشير إذا اقتضى الأمرُ إشارة، أو يتطرَّق إلى ما يُخالِف عاداتِ القوم وتقاليدَهم في الحَضَر والبدو.
سادسًا: أن يكون كلامُه جامعًا مانعًا موجزًا، صادرًا من قلْب صادق، وتفكير هادئ، وألاَّ يحولَ بينه وبين المستمعين أيُّ حائل نفسي؛ إلا مراقبةَ الله، وأن يكون نظرُه إلى المستمعين نظرَ المشفِق عليهم، الحريصِ على هدايتهم، فلا يميِّز بين فقير أو غني، ولا حاكم أو محكوم – لكن في حدود الأدب، وانتقاء للألفاظ.
ولهذا ينبغي له قبلَ الشُّروع في الخُطبة، وارتقاء المنبر: تصفيةُ النفس من الشوائب والأكدار، وتحليتُها بالأخلاق السامية، والآداب الفاضلة، والدُّعاء بصِدق أن يوفِّقه الله في وعْظه، وأن يُسدِّد كلامَه، وأن يكون لكلامه وقعٌ طيِّبٌ في نفوس السامعين؛ قال تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
خلاصة ما تقدم:
إنَّ الخطيب هو رجلٌٌ سياسي[15] حكيم، وطبيبٌ حاذِق، يعرف أمراضَ الناس وعِللها، والأدوية التي تناسبها، يدعو بالحِكمة، والموعظة الحسنة، ويتسلَّل إلى قلوب الحاضرين، فيصلُ إلى ما يكرهون من حيثُ لا يشعرون، فيشتدُّ في موضِع الشِّدَّة، ويلين في موضع اللِّين، وهو رجل داعيةٌ، قادرٌ على أن يعظَ الناس كلَّهم على اختلاف أصنافهم، وتباين مشاربهم، يُرْشِدُهم إلى غاية عظيمة، وهي ابتغاءُ مرضاةِ الله، وتقديم رِضاه على رِضا المخلوقين، ومحابِّه ومحابِّ رسوله على محابِّ الخَلْق أجمعين، ومِن ثَمَّ التطلُّع إلى ما عند الله – سبحانه – من النعيم المقيم.
والله أعلم وأحكم، وأجلُّ وأعظم، وصلَّى الله على سيِّدنا وإمامنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومِن الله المعونةُ والسداد.
ــــــــــــــــــ
[1] هذه أدوات التبليغ، وكلها تدخل تحت مضمون القول، انظر شرح هذه الأدوات بالتفصيل في كتاب "أصول الدعوة"؛ للدكتور عبد الكريم زيدان (ص: 342) وما بعدها.
[2] انظر: بحث "مميزات الخطبة الناجحة، ونماذج من صناعة الخطب"؛ للباحث مرشد الحيالي على موقع (الألوكة).
[3] كتاب "جامع العلوم والحكم"؛ للعلاَّمة ابن رجب الحنبلي (ص: 243)، دار المعرفة، ببيروت.
[4] "زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ للإمام ابن القيم – رحمه الله (1/117).
[5] رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عباس (رقم: 4972).
[6] حديث العرباض بن سارية: ((وعظَنا رسولُ الله موعظةً بليغة، وَجِلتْ منها العيون، وذرَفت منها العيون……….))؛ رواه الترمذي (رقم: 2676)، وقال: حديث حسن صحيح.
[7] رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله (رقم: 867)
[8] القصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي، يمدح بها الرسول الأعظم، وهي بعنوان (ولد الهدى).
[9] الحديث رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك (رقم: 4621).
[10] تقدم رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله (رقم: 867).
[11] انظر: شرح الإمام النووي – رحمه الله – لصحيح مسلم (6/222).
[12] "أصول الدعوة"؛ للدكتور عبد الكريم زيدان (ص: 256).
[13] "المدخل"؛ لابن الحاج (2/270) فصل (فرش السجادة على المنبر).
وليس معنى ما ذُكِر أن يكون الخطيب علاَّمة زمانه، ووحيدَ أوانه، ولكن المطلوب المقاربة، وأن يتخلَّق بخلق سيِّد الأنبياء، واللهُ لا يُكلِّف نفسًا إلاَّ وسعها.
[14] بعض المناسبات كمناسبة العيد، يحتاج الخطيب إلى التنويع في المواضيع، ولكن يربطها بالأصل العام، وهو: تقوى الله وطاعته، حتى تُؤتي الخطبةُ ثمارَها.
[15] ليس المقصود من السياسة الدهاء والمكر، بل الحِكمة ومراعاة شؤون الناس، ومعرفة أحوالهم، ومعالجة أمراضهم.
التعليقات