الخطباء وتفعيل إستراتيجية التعلم الاستكشافي الميداني
ليس الأهم في النشاط التعليمي الذي يقوم به الإمام الخطيب زيادة المخزون المعلوماتي النظري للمتلقّي في الدرس والخطبة والمحاضرة ؛ إنّما الهدف الرئيس على التحقيق هو تمكين روّاد بيوت الله – تعالى – من تعزيز المعرفة النظرية التي يتلقّونَها من الأئمّة بخبرات تجريبية تدريبيّة ومهارات مكتسبة وتغيير قابل للجَسّ والقياس، على جميع الأصعدة العلميّة والتربوية وفي منهج الحياة بشكل عام.
هذا الهدف السامي يحتاج من الخطيب إلى تفعيل استراتيجيات تعليمية متنوّعة تتجاوز النظرة التقليدية التي تقوم على الاستهلاك النظري من خلال التلقين في اتّجاه واحد إلى المبادرة بإشراك الروّاد في اكتشاف المعلومة والتفاعل معها وجمعها من بيئة التعلّم.
ومن هنا تبرز ماهية استراتيجية التعلم الاستكشافي الميداني.
وسوف يتمّ طرح وتناول هذا المبحث تحت عنوان " الأسس النظريّة لإستراتيجية التعلّم الاستكشافي " وفق الخطّة المنهجيّة التالية:
المطلب الأول: مفهوم التعلّم الاستكشافي.
المطلبالثاني: فوائده ومبرّرات استخدامه لدى الخطباء.
المطلب الثالث: أنواع التعلم الاستكشافي.
المطلب الرابع: نماذج من التعليم الاستكشافي الميداني من واقع حياة الخطيب.
المطلب الخامس: صعوبات في طريق التعلّم الاستكشافي.
مفهوم التعلّم الاستكشافي:
التعلُّم الاستكشافي الميداني هو: نمطٌ من أنماطِ التعلُّم الجماعي، يقومُ على اتّصال أو تنقّل الإمام الخطيب المُشرِف مع مجموعة التعلّم من زملائه في التنسيقيّة أو فوج المتعلّمين إلى بيئة معيّنة بقصد تناول واكتشاف موضوع تعلّمي ما في الميدان، والقصد هو تحصيل المعلومات بنفسِهِ معتمدًا على جهوده وعمله وتفكيره (1)، مع تحقيق المهارات وتثبيت الاتّجاهات.
فوائده ومبرّرات استخدامه لدى الخطباء(2):
هذه الاستراتيجيّة في التعلّم والتعليم تعودُ على الخطباءِ ومشاريعهم التعليمية والتربوية والدّعوية بعدّة فوائد أهمّها:
– يشجع الاكتشاف التفكير الناقد في فوج المتعلّمين، لأنه يعمل على المستويات العقلية العليا كالتحليل والتركيب والتقويم.
يصنع فيهم الدافعيّة والإقبال وحب الاستطلاع، ويحفّزهم على حبّ العلم والمعرفة، مع تحقيق التطوير والارتقاء بوسائل تحصيلهما، من خلال ما يتركه اكتشاف المعلومة في الميدان من شوق دائمٍ في النفس.
يعمل على تركيز المعلومات والمفاهيم من خلال تفعيل خط التذكر البصري الذي تحصّل في الميدان.
يمكّن من اختبار صحّة المعلومات من خلال التواصل الميداني مع بيئة التعلم.
المتعلّم في هذه الطريقة هو عمادُ التعليم وهو مكتشف المعلومة.
تدريب طلاب العلم على مهارات البحث وتدريبهم على مناهجه وآليّاته.
إمكانية تطبيق ما تعلّمه الفوج في مواقف علمية وحياتية جديدة.
اكتساب الاتجاهات الإيجابية نحو البيئة والأشخاص.
أنواع التعلم الاستكشافي:
يمكن تصنيف التعلم الاستكشافي بالنظر إلى مدى مساعدة الخطيب للفوج وتدخّله في التوجيه إلى:
التعلم الاستكشافي الموجّه: وهو الذي يقدّم فيه الخطيبُ التعليمات والتوجيهات والضوابط والمراحل، ثم يطلبُ من فوج المتعلّمين تنفيذ الاستكشاف في ضوء تلك الإجراءات المسبقة، وهم يتقيّدون بالإجراءات، ويعتمدون على قدراتهم العقلية في الاسكتشاف، وهذا النوع يناسبُ المبتدِئِين أكثر.
التعلم الاستكشافي شبه الموجّه: تقدّمُ فيه بعض التوجيهات والتلميحات المعينة، دون تقييد، ولا يُحرمُ فيه فوجُ المتعلّمين من الحريّة وفرص النشاط العملي والعقلي.
التعلم الاستكشافي الحر:
وهو أرقى أنواع الاستكشاف، ويكونُ بعد ممارسة النوعين السابقين، حيثُ يواجِهُ الخطيبُ فوجَ المتعلِّمين بالموضوع أو المُشكلة مجال الاستكشاف بشكل محدّد، ثم يطلبُ منهم الوصول إلى حلٍّ لها، ويترُك لهم حرّيّة التصرّف والبحث والتصميم والتنفيذ من خلال التعامل مع بيئة التعلّم ومصادر المعلومات.
نماذج من التعليم الاستكشافي الميداني من واقع حياة الخطيب:
هذه عدّة نماذج تقوم على تفعيل الخطيب استراتيجية التعلّم الاستكشافي، فيما بين الخطباء أنفسِهم على مستوى التنسيقيّة التي شكّلوها، أو فيما بين الإمام الخطيب وفوج المتعلّمين من روّاد بيت الله تعالى، ومن هذه النماذج على سبيل المثال:
1/ النماذج المكتبيّة:
النموذج الأول: التعرّف الميداني على المصنّفات والمصادر والتعامل معها:
حيثُ ينتقل الخطيبُ المُشرِفُ مع زملائه من التنسيقيّة أو مع فوج المتعلّمين إلى مكتبة المسجد أو المكتبة العامّة في المدينة أو الجامعة ليعرّفَهم ميدانيًّا على أهمّ المصادر والمراجع المتعلّقة بمختلف فروع ومجالات العلم والمعرفة حسبَ الخطّة والبرنامج المسطّر، من مثل كتب الاعتقاد أو التفسير أو الحديث أو التاريخ والسير أو الفقه أو الأصول أو اللغة والآداب أو الدعوة والفكر والتربية أو العلوم الاجتماعية أو غيرها من مصادر ومراجع العلم والمعرفة بشكل عام.
يتنقّل الإمام الخطيب بفوج المتعلّمين بين الرفوف في الميدان المكتبِي، ويتم تناول الكتب وعناوينها والمؤلّفين بشكل مختصر، مع أخذ ملخّص عن المصدر والزمن الذي ألّف فيه، والمتعلّمون يسجّلون بالأقلام أو أجهزة التسجيل السمعيّة أو يصوّرون إن اقتضى الأمر التصوير، هذا النزول الميداني والتعامل مع بيئة المكتبة يمكّن المتعلّم من تحقيق أكبر قدر ممكن من المعلومات والمهارات، مع تثبيت ذلك نظرًا لوجود عنصر الاتصال البصري بالموضوع مجال التعلّم.
ويمكن أن يُحضرَ لهم مصدرًا من تلك المصادر في نُسَخٍ تكفي فوجَ المتعلّمين، يوزّعها عليهم، ويعطي لهم معلومات مختصرة عن الكتاب والمؤلف، ثم يطلبُ منهم اكتشاف المضمون بأنفسهم سواءً بشكل موجّهٍ أو حُر، وبعد ذلك يكونُ التقويم.
النموذج الثاني: الاستقراء والتتبّع:
في هذا النموذج المتقدّم نوعًا ما يكلّف الإمام الخطيب زملاءَه من التنسيقيّة أو فوجَ المتعلّمين بقضيّةٍ أو مسألةٍ محدّدة والمطلوبُ منهم استخراجُ الأدلّة والآثار الواردة فيها، الاستخراج فحسب، والكتابة على بطاقات ملوّنة، اللون الأحمر للأحاديث، واللون الأصفر لآثار الصحابة، واللون الأخضر لآثار التابعين، وهكذا.
والحصّةُ تكونُ بشكل موجّهٍ أو حُر، ومن ذلك على سبيل المثال: " ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحائض إذا حانت الصلاة توضّأت واستقبلت القبلة، وذكرت الله – عز وجل -، اجمع الأدلّة إن وُجِدَت، والأقوال والآثار في هذه المسألة، ليتم دراسة الموضوع بعد ذلك "(1).
هذه المسألة من مسائل الحيض، ويمكن تتبّع الأحاديث إن وُجدت في المسألة عبر استقراء الباب في الكتب التسعة، ويمكن جمع الآثار عن الصحابة والتابعين من " مصنف عبد الرزاق " و" مصنف ابن أبي شيبة " و" الدارمي " و " الأوسط لابن المنذر " و " الكبرى للبيهقي "، وهذه أهم مصادر الآثار. ويمكن أيضًا جمع أقوال المذاهب في المسألة من خلال المصادر المتعلّقة بكل مذهب، ثم بالفقه المقارن، وهكذا. ويُعَدُّ هذا النموذج المتعلق بالجمع والاستقراء والتتبُّع نقطة الارتكاز في العمل التحقيقي بشكل عام.
النموذج الثاني: التحقيقات العلمية الفقهية أو العقدية من خلال المصنفات:
في هذا النموذج المتقدّم يكلّف الإمام الخطيب فوجَ المتعلّمين بمسألة أو مشكلة محدّدة هي التي يدور حولها موضوع التعلّم بالاستكشاف، ويطلب منهم إيجاد حلٍّ لها من خلال التعامل مع المصادر والمراجع، سواءً بشكل موجّهٍ أو حُر، ونقترح على سبيل المثال: "حكم الاحتباء يوم الجُمُعة ":
وأوّل ما سيقومُ به الفوجُ الوقوفُ على معنى الاحتباء بطريقة استكشافية، ويمكنهم هنا الاستعانة بالمصادر اللغوية أو " النهاية في غريب الحديث والأثر " لابن الأثير. وبالرجوع إلى هذا الخير وجدنا (1 / 335 ): " الاحتباء هو: أن يضُمّ الإنسانُ رجليه إلى بطنِهِ بثوبٍ يجمعُهُما به مع ظهره، ويشُدُّهُ عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عِوَضَ الثوب" . ثم يقومُ فوجُ المتعلّمين بتطبيق الاحتباء لرؤيته رؤية بصريّة.
بعد ذلك يقومُ الفوجُ بجمع الأدلّة والأقوال والآثار المتعلّقة بحكم الاحتباء والإمام يخطُبُ:
ويمكن الاعتماد في جانب الأحاديث على طريقة التخريج باللفظ " احتبى "، حيثُ يرجع الفوج إلى كتاب " المعجم المفهرس لألفاظ الحديث " بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وسيجدون تحت اللفظ الإشارة إلى أحاديث في أبي داود والترمذي، منها ينطلق البحث، وسوف يجدون مع الأحاديث بعضَ أقوال وآثار الصحابة والتابعين، من هنالك ينطلق البحث والتتبّع للأدلة ودراستها وتحقيقها مع الأقوال، وتتوسّع دائرة التعامل مع المصادر وصولاً إلى مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما، وكذلك المصادر الفقهيّة، وهذا طبعا نموذجٌ متقدّمٌ قد يستغرق وقتًا، وقد يحتاجُ إلى عدة مصادر، أو حتى الاستعانة بالأجهزة، وبالعلماء والمتخصّصين، وهذا كله يُثري التعلم الاستكشافي، ويمكن تقسيمه على مراحل في شكل دورة تدريبيّة، حصة للجمع والتنظيم، وحصة للفرز والتدقيق، وحصّة للنظر والتحقيق، وهكذا.
2/نماذج الزيارات الميدانية:
النموذج الأول: المشاعر المقدّسة ( مشاعر الحج نموذجا):
بدَل أن يكتفيَ الإمامُ الخطيبُ بتعليم المناسك تعليمًا نظريًّا يتم توظيف استراتيجيّة التعليم الاستكشافي من خلال زيارة ميدانيّة لمنطقة المشاعر للاطلاع عليها، مع تقدير المسافات، ويتم توضيح المناسك وتعلّمها أكثر في ضوء زيارة ميدانيّة تدريبيّة، وينطبق هذا الموضوع على زيارة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمتاحف، والجامعات، ومراكز الدعوة، والمناطق الطبيعية، والمناطق التاريخيّة خاصّةً تلك المرتبطة بمجال النشاط المسجدي للإمام خطابةً وتدريسًا ومحاضرة.
النموذج الثاني: تعلّم الأحكام والآداب في الميدان:
نقترح في هذا على سبيل مثال حضرني الآن: تعلمّ أحكام زيارة القبور والحفر والدفن وما يتعلّق بهذا الباب بشكل عام، ويتحقق هذا في شكل زيارة الخطيب مع فوج المتعلّمين زيارةً ميدانيّة للمقبرة، مع تجهيز كل الوسائل التي يُستعانُ بها في الموضوع، وتطبيق أسلوب التعلّم الاستكشافي بشكل موجّه أو حُر، مع التقويم طبعًا . ويمكن للخطباء أن يسجّلوا تحت هذا النموذج عشرات الأمثلة التدريبيّة التي يحسنُ تطبيقُها وفق استراتيجية التعلم الاستكشافي.
3/ نماذج الزيارات الاستطلاعية: ويحضرني عند كتابة هذا المقال أربعة نماذج مهمّة يمكن توظيف واستثمار التعلم بالاستكشاف في تعميق المعارف النظرية المتعلقة بها وبناء الخطط المستقبلية، وهي:
النموذج الأول: الأعمال الإغاثية:
وهي أعمال تحتاج إلى استطلاع في الميدان للتحقق من وصف الفقر والمسكنة ومظاهرهما، وحصر الاحتياجات الحقيقيّة، والمظاهر الاجتماعية الناتجة في الميدان، لإيصال ما أمكن بعد ذلك من مساعدات أو تبليغ الجهات المختصّة بالاحتياجات والمظاهر الناتجة، وتحديد منهجية للمحاصرة والتغيير، حيثُ يقوم الخطيبُ بالنزول ميدانيًّا مع فوج المتعلّمين، ويتم تعيين نوع التعلم الاستكشافي (حر/موجه)، بعدها يتم تطبيق الشروط العلمية للاستطلاع وتقنياته ومهاراته، ثم يكون في النهاية قراءة تقويمية للنزول الميداني.
النموذج الثاني: استطلاع الأخطاء والمخالفات الشرعية في السوق:
حيثُ يقوم الخطيبُ بالنزول ميدانيًّا مع فوج المتعلّمين إلى سوق من الأسواق في المدينة، ويتم تعيين نوع التعلم الاستكشافي (حر/موجه)، بعدها يتم تطبيق الشروط العلمية للرصد والاستطلاع وتقنياته ومهاراته في الموضوع المحدّد، ثم يكون في النهاية قراءة تقويمية للنزول الميداني ( هذا الاستطلاع يفيد الفوج في تثبيت وتطبيق المعارف العلمية النظرية، وفي رسم الخطة الإصلاحيّة، وتبليغ الجهات المعنية( .
النموذج الثالث: استطلاع العادات والتقاليد وأنماط العيش:
حيثُ يقوم الخطيبُ بالنزول ميدانيًّا مع فوج المتعلّمين في منطقة معيّنة أو مناسبة معيّنة أو مركز معيّن، ويتم تعيين نوع التعلم الاستكشافي (حر/موجه)، بعدها يتم تطبيق الشروط العلمية للاستطلاع وتقنياته ومهاراته حول الموضوع بشكل محدّد، ثم يكون في النهاية قراءة تقويمية للنزول الميداني.
النموذج الرابع: استطلاع البناء العقدي والمحصول الفقهي للجماهير:
وهو من أهم النماذج التي ترتكز عليها المشاريع الدعويّة والخطط الإصلاحيّة للأئمّة الخطباء، حيثُ يقوم الخطيبُ بالنزول ميدانيًّا مع فوج المتعلّمين في حيٍّ من الحياء، أو قرية من القرى، أو في المدينة بشكل عام، ويتم تعيين نوع التعلم الاستكشافي (حر/موجه)، بعدها يتم تطبيق الشروط العلمية للاستطلاع وتقنياته ومهاراته، وتطبيق ذلك على العيّنات بشكل علمي، ولو بالاستعانة بالمتخصّصين، في المجال العقدي والفقهي، ثم يكون في النهاية قراءة تقويمية للنزول الميداني.
صعوبات في طريق التعلم الاستكشافي:
بالرغم من كون هذه الاستراتيجية من أحسن استراتيجيات التعلم على مستوى التحصيل والمهارات وتكوين الاتجاهات؛ إلاّ أنه يمكن أن تعتريها بعض العقبات والصعوبات، والتي تحتاج من الخطيب إلى انتباه لتجاوزها، منها:
طول فترة التعلّم: فبعض البرامج تستهلك وقتًا طويلاً، وهذا يحتاجُ من الخطيب إلى صياغة وحدات استكشافية مترابطة، يكمّل بعضها بعضًا، بدل إرهاق فوج المتعلّمين.
هاجس الأخطاء: التي يمكن أن يقع فيها فوج المتعلّمين، وهذا بلا شك يهدد العملية التعلّمية، ويمكن تفاديها بالتركيز على التعلم الاستكشافي الموجّه، مع التحكم في مواقف التعلّم قدر المستطاع.
الفروق الفردية بين الأفراد: ويمكن تجاوز هذه العقبة بالسعي إلى توحيد المستوى في الفوج قدر المستطاع.
عدم وجود المرونة والتسهيلات: خاصّة في الزيارات الميدانية والاستطلاعية، ويمكن تجاوز هذه العقبة بالتنسيق.
———
(1) استراتيجيات التعليم والتعلم : الأكاديمية المهنية للمعلّمين – دليل المشارك – مصر، ص ( 54)، منشور على النت.
(2) استراتيجيات التدريس المتقدّمة و استراتيجيات التعلم وأنماط التعلم : عبد الحميد حسن عبد الحميد شاهين – كلية التربية بدمنهور – جامعة الإسكندرية – بحث منشور على النت – ص ( 33) .
(3) انظر على سبيل المثال " الدربة على الملكة " للأستاذ عمرو عبد المنعم سليم – دار الفجر، الجزائر – ط1- 2001م، ص (243 وما بعدها).
التعليقات