كيف تكون الصلاة ناهية عن المنكر لدى المرأة؟
إن أحبُّ وأعظمُ ما يَتقرب به العبد إلى ربه، الفرائض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبراً عن ربه كما في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ".(البخاري:6502)
وإن أحبَّ وأعظم الفرائض إلى الله، الفريضةُ العظيمة التي فُرضت على كل مكلف من المسلمين، يستوي فها الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، المرضى والأصحاء.إنها الصلاة التي هي ركن الدين وعموده المتين، وهي عنوان الاستقامة، ومظهر الإسلام.
فالصلاة أعظم العبادات شأناً وأوضحها برهاناً، اهتم بها الإسلام وأولاها عناية خاصة، فبين فضلها ومنـزلتها بين العبادات، وأنها صلة بين العبد وربه، يظهر بها امتثال العبد أوامر ربه.
الصلاة والنهي عن الفحشاء والمنكر:
والصلاة من أعظم العبادات التي تنهى العبد عن الوقوع في المعاصي والزلات، يقول الله عز وجل:
}اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {[العنكبوت/45].
ما المقصود بالفحشاء والمنكر؟
والمقصود بالفحشاء: كل فحش من القول أو الفعل ، وهو كل ذنب استفحشته الشرائع والفطر ، والمقصود هنا من الفاحشة : تجاوز الحد المأذون فيه شرعا من القول والفعل.
والمقصود بالمنكر : كل مستقبح غير معروف ولا مرضي.
وكأن الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه.
وتفسير من فسر "الفحشاء" بالزنا ، و"المنكر" بالخمر: ليس خارجا عما ذكرناه، وإنما هو من باب تفسير اللفظ العام بأحد أفراده.(تفسير ابن كثير:2 / 334)
ولا شك أن الزنا من الفحشاء، بل هو من أفحش الفواحش، ولا ريب ـ أيضا ـ أن الخمر من المنكر ، وهي أم الخبائث ، ومن أنكر المنكر، لكن ليست الفحشاء مقصورة على الزنا ، وليس المنكر مقصورا على شرب الخمر.
كيف تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
نَفْسُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَعَاصِي يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَالصَّلَاةُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَهْيُهَا عَنْ الذُّنُوبِ. والثَّانِي تَضَمُّنُهَا ذِكْرِ اللَّهِ" (مجموع الفتاوى:10/753).
وإنما تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر لاعتبارات منها:
1/ الصلاة تشتمل على أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ الذي يذكره بالله تعالى؛ إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله. وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك.
2/ في الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار، وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله، والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه، فذلك صد عن الفحشاء والمنكر .
3/في الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود، وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته، والتباعد عن سخطه. وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر .
4/في الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه.
5/وراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة، يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فقد روى أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، فقال: "سينهاه ما تقول" أي صلاته بالليل .
6/ أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها".
من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
"ومَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَعَاصِي لَمْ تَتَمَرَّنْ جَوَارِحُهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، حَتَّى يَأْنَسَ بِالصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا أُنْسًا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ اقْتِرَافِ الْخَطَايَا".(أحكام القرآن:3 / 439-440).
فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الكاملة التامة المستوفية لشرائطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، وحضور القلب فيها.
وقد أورد ابن قيِّم الجوزية –رحمة الله- قصة رمزية فقال: أن فأرًا أعجب بجمَل عظيم، فأخذه إلى داره ليقيمَ عنده ضيفا، وهناك وقف حائرًا فأنى لهذا الجمل الكبير أن يدخلَ الجُحر الصغير! فالتفت الجمَل إليه قائلاً: "أيها الفأر، إما أن تتخذَ بيتًا يليق بضيفك، وإما أن تتخذَ ضيفًا يليق ببيتك!"
فلما ذكر ابن القيم ذلك قال: "إما أن تُصلي صلاة تليق بمبعودك أو أن تتخذ معبودا يليق بصلاتك".
كيفية الصلاة التي تليق بالمعبود التي تنهى عن الفحشاء والمنكر:
والمرأة إن أرادت أن تكون صلاتها ناهية عن الفحشاء والمنكر فهذا يقتضي منها تمام خشوعها، ويمكنها أن تستعين بالوسائل التالية:
1/ الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها: ويحصل ذلك بأمور منها الترديد مع المؤذن والإتيان بالدعاء المشروع بعده، والدعاء بين الأذان والإقامة، وإحسان الوضوء والتسمية قبله والذكر والدعاء بعده. والاعتناء بالسواك وأخذ الزينة باللباس الحسن النظيف.
2/الطمأنينة في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه.
3/ تذكر الموت في الصلاة: لقوله "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها". أخرجه البيهقي في (الزهد الكبير:527)، والديلمي في (الفردوس:1755).
4/ تدبر الآيات المقروءة وبقية أذكار الصلاة والتفاعل معها: ولا يحصل التدبر إلا بالعلم بمعنى ما يقرأ فيستطيع التفكّر فينتج الدمع والتأثر. ومما يعين على التدبر التفاعل مع الآيات بالتسبيح عند المرور بآيات التسبيح و التعوذ عند المرور بآيات التعوذ..وهكذا.
5/ أن تقطّع قراءته آيةً آية: وذلك أدعى للفهم والتدبر وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت قراءته مفسرة حرفا حرفا.
6/ ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها: لقوله تعالى}وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً {[المزمل:4].
7- أن تعلم أن الله يُجيبها في صلاتها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".(مسلم:395)
8/الصلاة إلى سترة والدنو منها: من الأمور المفيدة لتحصيل الخشوع في الصلاة الاهتمام بالسترة والصلاة إليها، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته" أخرجه أبو داود (695)، والنسائي (748)، وأحمد (16134).
9/ وضع اليمنى على اليسرى على الصّدر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة وضع يده اليمنى على اليسرى وكان يضعهما على الصدر، و الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع.
10- النظر إلى موضع السجود: لما ورد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض، أما إذا جلس للتشهد فإنه ينظر إلى أصبعه المشيرة وهو يحركها.
11/ تحريك السبابة: قال النبي :"لهي أشد على الشيطان من الحديد" (مسند أحمد:8/194 )، والإشارة بالسبابة تذكّر العبد بوحدانية الله تعالى والإخلاص في العبادة وهذا أعظم شيء يكرهه الشيطان نعوذ بالله منه.
12/ التنويع في السور والآيات والأذكار والأدعية في الصلاة: وهذا يُشعر المصلي بتجدد المعاني، ويفيده ورود المضامين المتعددة للآيات والأذكار فالتنويع من السنّة وأكمل في الخشوع.
13/ التأمل في حال السلف في صلاتهم: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملتُها. و كان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته.
14/معرفة مزايا الخشوع في الصلاة: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، و ذلك الدهر كله ".(مسلم:228)
15/الأذكار الواردة بعد الصلاة: فإنه مما يعين على تثبيت أثر الخشوع في القلب وما حصل من بركة الصلاة.
وختاما:
فإن الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال }تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{،
وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل، ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس، وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها.
______
التعليقات