المسجد وتطهير القلب وتزكية النفس
تعاني الشعوب بلا استثناء من أزمة أخلاقية عارمة أكلت القيم وفرّقت بين الناس، حتى إنك ترى آثار هذه الأزمة في بيوت كثير من المسلمين، وفي محافل التعليم، والإعلام بشتى أنواعه، وبين الأخ وأخيه، وبين الآباء والأبناء والجيران.. حتى تفاقمت الأزمة ودخلت المساجد، فبدلاً من ارتباط القلوب وتلاحم الأجسام نرى تنافرًا غريبًا خيَّم على الأجواء الإيمانية، وعكَّر صفو اللقاء الإيماني بين العبد وربه في بيت الله!!
والمتأمل جيدًا في هذه الأزمة يجد أن من أكبر أسبابها ضعف الإيمان في القلوب، بسبب ما دخل قلوب أكثر العباد من أمراض أثَّرت بدورها على العلاقات الاجتماعية بل والعلاقات الإنسانية، فأغلب القلوب الآن في حالة غيبوبة وانتكاسة إيمانية، وذلك بسبب الانشغال الزائد بالدنيا، وطغيان الحياة المادية على البشرية، والتغافل عن إصلاح القلوب وتزكية النفوس.
وهناك أسباب متعددة لهذه الأزمة، منها:
• الغزو الفكري التغريبي، وترسيخ المفاهيم الغربية؛ حتى يعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء، سواء فيما يعتقد من الأديان والنِّحَل، أو ما يتكلم به من اللغات، أو ما يتحلى به من الأخلاق، أو ما هو عليه من عادات وطرائق.
• غياب القوانين التي تحافظ على المبادئ والقيم الأخلاقية العامة؛ حيث ينبغي فرض العقوبات المناسبة على مرتكبي الجرائم الأخلاقية.
• الفهم الخاطئ للإسلام وللتدين، وحصر العبادة في نطاق ضيق، والغفلة عن مقاصد الشريعة الإسلامية، وغياب القدوة الصالحة في كثير من المجالات، وقلة التوعية، وإغفال الجانب التربوي والأخلاقي في مناهج التعليم وفي كثير من المؤسسات.
• غياب دور المسجد في إحداث تغيير جذري في الناس؛ كي يكون هذا التغيير نقطة انطلاق لتغيير مجتمعي، ولا تتغير المجتمعات تغييرًا حقيقيًّا إلا بتغيير ما بداخلها، فتغيير الداخل الذي يشمل الاهتمام بالقلب والنفس هو العامل الأساس في كل مراحل التغيير بجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو النهج الرباني، وهذا هو الهدف الأول للمساجد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد:11)، وقال – عز وجل-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (الأنفال:53- 54) .
هذا بيان سنته في عباده، وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغيّر نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا، وعندئذ يغيّر تلك النعم نِقَمًا؛ فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء، ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد، هذا إن لم يأخذهم بالإِبادة الشاملة والاستئصال التام!![1]
ولأهمية المسجد في عملية التغيير، وخصوصًا طهارة القلب والنفس كان أول ما قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حُوربت، ولتُقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقّي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا وتزكّي النفوس.[2]
مسئولية المسجد عن طهارة الباطن والظاهر وتزكية النفس:
خمس صلوات مفروضة في اليوم والليلة تُقام في بيت الله يستعد المسلم عند كل صلاة بجاهزية خاصة؛ حيث الطهارة الباطنية للقلب والطهارة الحسية، فالإسلام دين النظافة ودين الجمال، فلا صلاة لمن لا وضوء له، لذا جاء الأمر الإلهي بالطهارة لصحة الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6).
يقول صاحب الظلال: "إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء[3]، وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام..[4]، إن هذا لا يجيء بعيدًا عن جو السياق وأهدافه .. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن ..
إنها - أولاً - لفتة إلى لون آخر من الطيبات .. طيبات الروح الخالصة .. إلى جانب طيبات الطعام والنساء .. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع.
إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء .. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان .. والتي بها يتكامل وجود «الإنسان».
ثم اللفتة الثانية .. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب. كبقية الأحكام التالية في السورة ... كلها عبادة لله.. وكلها دين الله.. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطُلح أخيرًا - في الفقه -على تسميته "بأحكام العبادات"، وما اصطلح على تسميته "بأحكام المعاملات" .
إن الصلاة لقاء مع الله، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه، ونجوى وإسرار.. فلابد لهذا الموقف من استعداد.. لابد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي.. ومن هنا كان الوضوء.[5]
وليس الأمر مقصورًا على طهارة البدن والثوب، ولا الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، بل لابد من طهارة المكان؛ ففيه تركع الأجسام وتسجد لرب العالمين فلابد أن تكون على أحسن حال، وعلى الرغم من أن الإسلام رخَّص في الصلاة في كل بقعة في الأرض مادامت طاهرة، فإن المسجد يعد أطهر مكان لإقامة الصلاة وأداء شعائر الإسلام.
والمسلم الذي يتطهر في اليوم خمس مرات يصبح صورة حقيقية للإسلام دين النظافة الذي لا يبقي على جسد المسلم درنًا ولا شيئًا يشين مظهره أو شيئًا يتأذى منه أحد، عن أبى هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمسًا، ما تقول ذلك يبقى من درنه". قالوا: لا يبقي من درنه شيئًا. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا".[6]
هذا عن الطهارة الظاهرية، أما الطهارة الباطنية فهي الأصل وهي المقصود الحقيقي من كل العبادات..
فالصلاة تطهّر المسلم من الذنوب، وتغسله من المعاصي؛ فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، وهي تجعل المسلم في طاعة دائمة لله عز وجل وتصرفه عن الغفلة والمعصية قال سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت : 45)، والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالصلاة في كثير من آيات القرآن الكريم، والمتتبع لهذه الآيات يجد أن الصلاة تُذكر في مجال القرب من الله عز وجل، والصلاة قوة روحية ونفسية تعين المؤمن على مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا، ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة :153).
كما أن الصلاة قوة خُلقية، تمد المؤمن بطاقة عظيمة، يقتدر بها على مجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر، والمنع عند الخير، فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى ورعاية حدوده، والحرص على المواقيت، والدقة في المواعيد، والتغلب على نوازع الكسل والهوى، وجوانب الضعف الإنساني، وفي هذا يقول القرآن الكريم: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19 -22). والصلاة تذهب الخطايا وتمحو السيئات، فيقول سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود : 114).
فالمسلم يقف أمام ربه في المسجد خمس مرات؛ تلين جوارحه لربه استجابة للين القلب؛ لأنه يستمع أحسن الحديث الذي تلين منه الجلود والقلوب: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23).
بل إن الجبال الراسيات لو نزل عليها أحسن الحديث لخشعت: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21).
وداخل المسجد تتربى القلوب والأبدان على البذل والعطاء عن طريق الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام قد جعلها الله عز وجل طهارة للمال ولصاحبه قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة : 103)، إنها طهارة لنفس الغني من الشح البغيض، وهو آفة نفسية خطرة، تدفع إلى سفك الدماء، وبيع الأعراض وضياع الذمم، ولن يفلح فرد أو مجتمع سيطر الشح عليه وملك ناصيته, {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر :9).
والزكاة كذلك طهارة لنفس الفقير من الحسد والضغن على ذلك الغني الكانز لمال الله عن عباد الله, وهي طهارة للمجتمع كله - أغنيائه وفقرائه- من عوامل الهدم والتفرقة والصراع والفتن، ولعل هذا كله ما تهدي إليه الآية الكريمة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة :103). ثم إن الزكاة نماء للمال وبركة فيه, {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39) وهي أيضاً نماء لشخصية الغني وكيانه بما يحس من انشراح في نفسه واتساع في صدره، كما أنها نماء لشخصية الفقير؛ حيث يشعر بأنه ليس ضائعًا في المجتمع ولا متروكاً لضعفه وفقره. [من خطب وزارة الأوقاف الكويتية].
والصيام يحقق التقوى، ويجعل المؤمن يحسن مراقبة الله عز وجل، فلا يعلم بحال الصائم إلا الله سبحانه قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (البقرة : 183)، ولهذا كان جزاء الصائم متروكاً لله سبحانه، فهو ليس مثل غيره من الطاعات، فكل الطاعات الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فيتولى الله عز وجل جزاءه.
والصيام يقوي الإرادة، ويعلّم المسلم مراقبة الله عز وجل، فلا يفعل إلا ما يرضي ربه، والصائم عفّ اللسان، يتحرى الحلال الطيب من الطعام والشراب، ولا يمتد بصره إلى ما حرم الله عز وجل، ولا يسمع إلا ما يباح سماعه من الوعظ والذكر والكلام الطيب الذي لا غيبة فيه ولا نميمة فيترفع الصائم عند النقائض والذنوب؛ لهذا يغفر الله عز وجل له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".[7]
ويأتي الحج حيث يترفع الحاج عن النقائص، ويخرج عن أهله وماله وبلده لا يبتغي إلا مرضاة ربه عز وجل يقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197).
وليس الحج نزهة ولا سياحة بدنية، بل هو تربية للمسلم على أعظم الأخلاق وضبط النفس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". (البخاري : 1521).
فالمسجد وما تؤدى فيه من العبادات كلها طهارة للمسلم، وعون له على طاعة ربه عز وجل، ورفع لدرجته عند ربه، وحماية له من الزلل والخطأ.
فالمسجد رسالته الحقيقية بجانب طهارة القلب والقالب: تزكية النفوس بالإيمان والعلم والعمل، وهذا هو الهدف من إرسال الرسل، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151).
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ}، فوجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إمام المربين والدعاة، هو من خصيصة هذه النخبة القيادية التي شرَّفها الله تعالى بأن يكون هو المسئول عن تربيتها، فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور والبرهان والحجة.
-{يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} فالمادة الأساسية للبناء والتربية، كلام الله تعالى.
{وَيُزَكِّيكُمْ}: فالمعلم المربي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو المسئول عن عملية التربية، وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم، ما وصفه الله-تعالى- به هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به من دون البشرية كافة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم، آية:4). وهو الذي وصفته عائشة -رضي الله عنها- بأعظم ما يملك بشر أن يصف به نبي فقالت: (كان خُلقه القرآن)، فكان الصحابة يسمعون القرآن الذي يُتلى من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرون القرآن الذي يمشي على الأرض متجسداً في خُلقه الكريم.
-{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فهذه المهمة الثالثة تعليم الصحابة الكرام الكتاب والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمة لا بد من المربي الرباني الذي يزكّي النفوس ويطهر القلوب ويعلّمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، فيشرح للمسلمين غامضه ويبيّن حكمه، ويفصّل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وُجد.
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلّم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني، فتعلم الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهج التعليم، ومنهج التربية، ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ما تسمع وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد، فاستطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يعد الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهلاً لقيادة البشرية وانطلق أصحابه من بعده يحملون التربية القرآنية، والتربية النبوية إلى كل صقع، وأصبحوا شهداء على الناس.[8]
وكذلك إمام المسجد والخطيب والداعي إلى الله، وكل مُرَبٍّ يستمع إلى نور الوحي في بيت الله أن تكون هذه هي مهمته: تربية الأجيال على المنهج الرباني؛ طاهرة القلب، وتزكية النفس، وسلامة العقيدة والمنهج والتوجه.
[1]) أيسر التفاسير أبو بكر الجزائري 2/47.
[2]) فقه السيرة للغزالي، ص191، وفقه السيرة للبوطي، ص151 بتصرف.
[3]) يشير إلى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 4-5).
[4]) يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:1 -2).
[5]) الظلال 2/321-322.
[6]) أخرجه البخاري مواقيت الصلاة - كتاب باب الصلوات الخمس كفارة-، ومسلم كتاب المساجد-باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات-.
[7]) أخرجه البخاري- كتاب الإيمان- باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان، ومسلم – كتاب صلاة المسافرين -باب الترغيب فى قيام رمضان وهو التراويح-.
[8]) انظر: التربية القيادية 2/438-442.
التعليقات