الإيمان ينبوع السعادة
يروى عن عمر بن الخطاب: أنه دعا الله أن يرزقه إيماناً كإيمان العجائز، ولم يقل: كإيمان العلماء، لأن إيمان العجائز إيمان عميق، هادئ مطمئن، لا يرقى إليه الظن، ولا يحوم حوله الشك، دينهم شعور عميق بإله بلغ النهاية في الكمال، وعن هذا تصدر أعمالهم، وبلقائه تتعلق آمالهم.
أما العلماء فقد اعتادوا الشك، واعتمدوا على الحجج العقلية، فكان إيمانًا مقلقلاً، يحول بينهم وبين تمام اعتقادهم صعوبة إدراكهم لحقيقته بعقولهم(1).
ثم إن خير الدين ما أتى عن طريق القلب، والعجائز إيمانهم عن طريق قلوبهم، والعلماء إيمانهم عن طريق عقولهم، والعقل عادة مصدر للشك والتردد، والقلق والحيرة، والقلب لا يعرف شكاً ولا تردداً.
وإيمان العجائز إيمان بسيط سهل، فهم يدركون أن الإيمان بالله معناه أن الله خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، يعطف على من يحبه بالخير، وينتقم ممن لا يؤمن به، إن عاجلاً وإن آجلاً، وهذه العقيدة على بساطتها كافية في سير الشخص سيراً حسناً حميداً، يفعل الخير، ويجتنب الشر.
إن الإيمان بالدين مبني على أساسين: رغبة ورهبة، فالإنسان يعمل الخير رغبة في ثوابه، وأملاً في جنته، وهو يخاف عقوبته، ويخاف ناره، وبين الرغبة والرهبة تصلح الأعمال وتتم السعادة.
ما الحياة بلا إيمان بالله؟ إن الإنسان خلق في هذه الحياة وسط تيار جارف، وجو عاصف، تنتابه الأحداث العظام، وتحل به الكوارث؛ فما لم يعتقد في إله يتخذه ملجأً له، وركناً يعتمد عليه، ومعزياً له في المصائب، ومساعداً له في المتاعب، ومأمناً له ضد الأخطار، ومواسياً له عند الحزن_ كان كبناءٍ لا يستند إلى أساس، وبيت ليس له دعامة؛ ومن أجل ذلك نرى أشقى الناس في الحياة أكثرهم إلحاداً؛ إنهم قد يملكون المال الكثير، ويحصلون على الرزق الوفير، ولكن لا يلبثون إذا حلَّت بهم مصيبة أن يأخذهم الجزع؛ لأن من طبيعة النفس الخوفَ من العدم، أما المؤمن فيحمد الله في السراء والضراء، ومهما فعل، ومهما حلَّ به؛ فهو يعتمد على ركن ركين، وملجأ حصين، إن فاته الخير في الدنيا أمَّل في الآخرة، وإن لم تسعفه ظروف اليوم أمل في الله غداً.
وتجاربنا في الحياة تدلنا على أن الإيمان بالله موردٌ من أعذب موارد السعادة ومناهلها(2).
فالدين يكسب النفس قوةً، وسلوى، وعزاءً.
وكان القرآن حكيماً في مخاطبته للشعور في مثل قوله:{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}. [الغاشية: 17_20]
ودعوته إلى النظر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، أكثر من اعتماده على مقدمات منطقية، وأقيسة جدلية؛ لأن آيات القرآن هذه تخاطب الشعور والقلب، والأقيسة المنطقية تخاطب العقل، وكل إنسان صالح لأن يوجه الحديث إلى قلبه، وليس كل إنسان صالحاً لأن يوجه الحديث إلى عقله.
نعم، إن العلم يخدم الدين، ولكن لا يبعثه؛ فَتَقَدُّمُ الناس في العلم اليوم خفف آلام البشرية من اعتقاد في السحر، ووجود أرواح شريرة تتسلط على البشر وتعذبهم حسبما تشاء، فكل هذه اعتقادات أزالها أو مزقها نور العلم، فخدم الدين بذلك خدمة جليلة، فإذا اجتمع في الناس قلب ينبض بحب الله، وعقل يزيل الخرافات والأوهام عنه، كان ذلك منتهى السعادة، ومنتهى الرقي.
لولا الدين ما كانت السعادة، ولا كانت للحياة قيمة، بل نحن نرى أن آباءنا كانوا أسعد منَّا بإيمانهم، وشبابنا أشقى منهم بشكهم، أو على الأقل بعدم اكتراثهم.
وإن شئت فقارن بين أسرتين: أسرة أسست حياتها على الدين والتزَمَتْ به، وأسرة أضاعت الدين ولم تلتفت إليه، وأَجِبْني: أي الأسرتين أسعد؟
إني أعتقد أن أكبر سبب لشقاء الأسر وجود أبناء وبنات فيها لا يرعون الله في تصرفهم، وإنما يرعون هواهم وملذاتهم؛ فهم يركبون رؤوسهم، ويروُّون رغباتهم، من غير وازع ديني يزعهم، أو نظرة في العواقب تردعهم، فإذا فشا الدين في أسرة فشت فيها السعادة، وخاصة إذا كان ديناً راقياً تجرد عن الخرافات والأوهام، وتدعَّم بالعلم، وحكم أفرادها دينهم في سلوكهم.
إن أهمَّ ركنٍ في السعادة راحةُ البال، والدين أكبر دعامة لراحة البال؛ إذ يظهر أنه من طبيعة النفس الإنسانية أن تشعر بوجود إله تعتمد عليه، فإذا لم يكن ذلك قلقت واضطربت؛ لأنها خالفت طبيعتها.
ولذلك نجد أكثر الملحدين يعيشون عيشة مضطربة، وإذا جد الجد وحضرهم الموت كانوا كفرعون، لما أدركه الغرق، قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يونس:90
وهذه هي السعادة في الحقيقة، فليست السعادة في كثرة المال، ولا في عظم الجاه، إنما هي في أنفسنا، وفي داخل قلوبنا.
وشيء آخر، وهو أنَّ من مزية الدين الإيمانَ باليوم الآخر؛ فهو بذلك يضم حياة أبدية إلى حياته القصيرة الدنيوية، وذلك _ من غير شك _ يدعوه إلى أن يفكر فيما يعمل؛ لاعتقاده في الجزاء العادل، إن لم ينله في الدنيا ناله في الآخرة، ويكفه عن عمل الشر لأن وراءه إلهاً يجازيه على عمله مهما أَسَرَّ.
ومن طبيعة الإنسان حب الحياة؛ ولذلك يرتعد فرقاً إذا قيل له: إن حياته في الدنيا هي الحياة؛ لأن معنى ذلك أنها حياة قصيرة تنتهي بعدمٍ مُفْزِعٍ، وسعادته الحقة في أن يعتقد أن وراء هذه الحياة حياةً أبديةً، يتسلط(3) عليها إله عادل، من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
هذه هي الطبيعة الإنسانية التي خلقنا عليها، وأي تنحٍّ عنها يفسدها، وقد علمتنا الحياة أن الخروج على الطبيعة الإنسانية ولو قيد شعرة مدعاة للحيرة والاضطراب.
(1) لعله يقصد علماء الكلام والفلاسفة ونحوهم، أما العلماء بالله وأمره فهم أكثر الناس يقيناً، وأبعدهم عن الشك والحيرة(م).
(2) بل هو أعذبها على الإطلاق (م).
(3) لو قال: يملكها إله...، أو يحكم فيها ...(م).
التعليقات