الهجرة.. والتخطيط الإستراتيجي
إن المتأمل لمادة (هجر) يجدها بتصرفاتها المختلفة معنى واحد مفاده: ترك الشيء والبعد عنه واجتنابه، ولم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط فقوله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن هحجورا} [الفرقان:30].
وهي كما ذكر الزبيدي صاحب تاج العروس من: "هجر يهجره بالفتح، وهجرانًا، بالكسر: أي صرمه وقطعه"، ومنه قوله تعالى: {والذين هاجروا وجاهدوا} [البقرة: 218] ومعناه الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة.
وهجر الشيء يهجره هجرًا: تركه وأغفله وأعرض عنه، ومنه حديث أبي الدرداء: «ولا يسمعون القرآن إلا هجرًا» رواه البيهقي في شعب الإيمان، يريد الترك له والإعراض عنه.
وهجر الرجل هجرًا: تباعد ونأى.
وقال الليث: الهجرُ من الهجران، وهو ترك ما لا يلزمك تعاهده.
والاسم الهجرة الكسر: ففي الحديث: «لا هجرة بعد ثلاث» [رواه مسلم] يريد به الهجر ضد الوصل.
والهجر بالكسر والضم: الخروج من أرض إلى أخرى.
قال الأزهري: وأصل المهاجر عند العرب: خروج من باديته إلى المدن، فكل من فارق بلده من بدوي أو حضري، أو سكن بلدًا آخر، فهو مهاجر، قال الله عز وجل: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة} [النساء: 100].
والهجران: كما في البصائر: يكون بالبدن وباللسان وبالقلب ومنه قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34]أي بالأبدان، وقوله تعالى: {اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30] أي باللسان أو بالقلب وقوله تعالى: {واهجرهم هجرا جميلا} [المزمل: 10] محتمل للثلاثة، وقوله: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5] حث على المفارقة بالوجوه كلها.
وقيل مقتضى ذلك ترك الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا ومنه قوله تعالى: {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] أي تارك لقومي وذاهب إليه.
وفي الحديث: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» رواه البخاري. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزابادي).
وقال صاحب المحيط: وسميت الهجرة بذلك: لأن المهاجرين هجروا دورهم وعشائرهم في الله عز وجل، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هاجروا ولا تهجروا" أي: كونوا من المهاجرين ولا تتشبهوا بهم في القول من دون الفعل.
ولم تكن الهجرة أمرًا خاصًا بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ إذ هاجر قبله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وقف قومه ضده وعادوه، وقد أخبر القرآن الكريم عنه ذلك حين قال لأبيه وقومه: {سلام عيك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًّا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا} [مريم: 48].
بل صرح القرآن الكريم بهجرة الخليل إبراهيم عليه السلام حين أخبر عن قوله: {إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم} [العنكبوت: 26] وإن كان بعض المفسرين ينسبونه إلى نبي الله لوط عليه السلام، إلا أنه يعطينا معنى غاية في الأهمية، أن الهجرة لم تكن إلى مكان، إذ ليس المكان مقصودًا في ذاته،وإنما الهجرة تكون إلى الله تعالى، وهذه الهجرة التي يفر بها المسلم بدينه خوفًا عليه، والتي من أجلها يترك ماله و
ووطنه وتجارته معنى متجدد على مر العصور والدهور، ولعل هذا المعنى هو ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والمهاجر ما هجر ما نهى الله عنه». رواه البخاري، ولو في ذلك هجرة المكان.
فقصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، وأراد التوبة فاستفتى أعبد أهل الأرض فأضله بفتواه، فقتله وأكمل به المئة، ثم استفتى أعلم أهل الأرض، فدله على الهجرة إلى البلد الصالح.
لتكون سبيلاً لتوبته، والحفاظ على دينه، فهاجر حتى إذا أدركه الموت في منتصف الطريق، اختصمت فيه ملائكة الرحمة قصب السبق، بعد أن سلك طريق الهجرة لله فرارًا بالدين، تتصاغر أمامها شهوات النفس كلها، من المال والجاه والأرض وغير ذلك، فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه، أراد الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فاعترضه أهل مكة يساومونه على غناه وتجارته، فترك لهم دنياه، لينال رضا الله تعالى، ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: «ربح البيع يا أبا يحيى» الطبراني في الكبير.
كما هاجر سيدنا يعقوب عليه السلام من عين مولح إلى قدان أرام، ثم رحل بعد عشرين سنة إلى فلسطين، ثم هاجر إلى مصر أيام كان يوسف بها.
ولعله مما لا يخفى على أحد هجرة سيدنا موسى عليه السلام مرتين، الأولى من مصر إلى مدين قبل نبوته حين أتاه الآتي وقال كما جاء ذكره في القرآن الكريم: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين * فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين} [القصص:20-21].
وأما عن فرعون في إذلال بني إسرائيل هاجر سيدنا موسى ومن معه من المؤمنين الهجرة الثانية واجتازوا البحر، وأغرق الله فرعون ومن معه، قال سبحانه: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قوه وما هدى} [صه: 77- 79].
وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذبوه، وأرادوا الفتك به فكان من تعاليمه لتلاميذه: "طوبى للمطرودين من أجل البر فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى لكم إذا طردوكم وعيروكم وقالوا فيكم كل كلمة شر من أجلي، افرحوا وتهللوا فإن أجركم عظيم في السماوات، لأن هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم". [نور اليقين في سيرة يد المرسلين للخضري نقلاً عن نظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي].
وسل القرى التي حلت بها نقمة الله بكفر أهلها، كقوم نوح عليه السلام، وكديار لوط، وعاد وثمود عليه السلام، تنبئك عن مهاجرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة، قال تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} [سورة محمد: 13] فلا غرابة أن يهاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله تعالى من خير للبشرية، فما كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا سنة إلهية في الأنبياء من قبله، ولعل هذا من أوائل ما كشف عنه النقاب في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخذته أمنا خديجة رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل حينما نزل عليه الوحي فبشره بذلك قائلاً: "إن هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعًا إذ يخرجك قوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي". صحيح البخاري. ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} [الإسراء: 76- 77] أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم، يخرج الرسول من بين أظهرهم، ويأتيهم العذاب.
إذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل، ولم يكن أول من نبي هاجر في سبيل الله، بل مر بهذا الامتحان كثير من الأنبياء قبه.
وبهذه الهجرة تمت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سنة إخوانه من الأنبياء من قبله، فكانت هجرته خاتمة لهجرات النبيين، كما كانت نتائجها عميقة شكلت منعطفًا تاريخيًّا حاسمًا، إذ تميزت عن هجرات من سبقوه عليهم السلام بعدة مميزات منها:
1- أنها كانت بداية جديدة لمرحلة الدعوة والتثبيت والتأسيس، في حين كانت هجرة النبيين قبله نهاية لمرحلة الدعوة، إذ يأت العذاب عادة على من خالفوه بعدها.
2- أنها كانت بترتيب وتخطيط اختلف كلية عن هجرة من سبقوه صلى الله عليه وسلم.
3- أنها كانت انتقالاً في الدعوة من مرحلة إلى أخرى بينما تواصل.
4- تمت على أكثر من جانب وفي أزمنة مختلفة، إذ لم تكن الهجرة جماعية فجائية في زمن واحد.
5- تأخرت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين به، ولم يكن في الهجرات السابقة.
6- إعداد مكان الهجرة قبل حدوثها.
7- اشتراك المؤمنين في إنجاح الهجرة، ولم يكن ذلك في الماضي، إذ كان أتباع الأنبياء يعتمدون كلية على نبيهم.
فكل مفردة من هذه المميزات – ولعل غيرها كثير – يستفاد منها دروسًا كثيرة قد يضيق المقام بذكرها.
أما شأن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها مما نسميه اليوم بالتخطيط الإستراتيجي ليحتاج منا إلى مزيد من التأمل والاستبصار والاستنباط، حتى نستطيع أن نلي بعض معانيها.
فالناظر إلى مرحلة الدعوة المكية يجدها غنية بالعديد من المواقف التي تبرز وبشكل واضح جلي أنها كانت مرحلة ناجحة بجميع المقاييس، ويكفي فيها إقامة الحجة على المخالفين مما يجعلهم عند المواجهة خزايا، ثم إنه ما من نبي إلا أمر أن ينذر عشيرته الأقربين، كما أنها كانت اختبارًا وامتحانًا للمؤمنين ليميز الله الخبيث من الطيب، حتى إذا أقيم للإسلام دولة، كانت على أكتاف أقوياء أشداء يسترخصون في سبيل الله كل غالي ونفيس، والأمثلة في ذلك كثيرة، سواء في تنوع الفتن، أو في تحمل الرجال، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن هروبًا، إنما كانت نصرًا لدين الله تعالى، وجريًا على سنة الله في الأنبياء من قبله، فالهجرة مرحلة مباركة م مراحل الدعوة إلى الله، لا بد من حدوثها، خاصة مع التعنت والجحود الصارخ من أهل الباطل، مع علمهم بصدق نبيهم فهم الذين لقبوه بالصادق الأمين، قال تعالى: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. [الأنعام: 33].
والمهاجرين هاجروا قبل أن يهاجروا فهانت عليهم الهجرة وما فيها من آلام، نعم لقد هاجروا أولاً هجرة نفيسة قبل أن تكون هجرتهم مكانية، بذلك هانت عليهم الهجرة البدنية وما فيها من مشاق، وإهدار للمصالح، وتضحية بالأموال، وسهل عليهم فراق الأهل والديار، فضلاً عن شعور المهاجر بأنه مسلح منهوب، وقد يهلك في أول الطريق أو نهايته، وأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، وما كان ذلك إلا بإعداد وتأهيل استغرق فترة من الزمان هي عمر الدعوة المكية. شجع على ذلك ذكر العديد من الأمثلة لأقوام هاجروا من ديارهم فكتب لهم النصر، وكذا قصة أصحاب الكهف، فضلاً عن إعظام الأجر للمهاجرين في سبيل الله، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النحل المكية: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}. [النحل: 41].
لقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة الرجال، وذلك عامل أساسي في أي عمل يقوم به الإنسان، إذ لا بد من إعداد الكوادر المؤهلة لكل عمل، بحيث يكون الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا ما نجده في أسلوب تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه سواء في الهجرة إلى الحبشة، أو إلى المدينة، فالمتابع مثلاً لأسماء المهاجرين إلى الحبشة لا يجد من بينهم الصحابي الجليل الحبشي بلال بن رباح، ولعل القارئ لأول وهلة حينما تعرض الحبشة مكانًا للهجرة يقول: لا بمن ذهاب بلال فهو من أكثر المضطهدين، فضلاً عن كونه من أهل الحبشة، وقد يكون ذلك مفيدًا لجموع المهاجرين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرى بلالاً صالحًا لهذه الهجرة، وهذا ما بدا جليًّا بعد ذلك في مناقشة عمرو بن العاص عند النجاشي، إذ أراد أن يظهر له أن الذين أتوا عنده جماعة من المنشقين الخارجين على أقوامهم، وعبيد فارين من أسيادهم، فلم يجد إلا سادة جلهم من قريش، حال قومهم بينهم وبين ما يعبدون، لقد كان هذا لسان حال المهاجرين إلى الحبشة، الذين كان من بينهم عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وأخوه لأمه أبو بسرة ابن أبي رهم، وزوجه أم كلثوم، وعامر بن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بن سهيل، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون، وسهيل بن البيضاء، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير.
وهنا لا بد لنا من وقفة، إذ على قدر ما مكث هؤلاء وغيرهم ممن أتوا بعدهم في الهجرة الثانية للحبشة، لم يؤمروا بدعوة القوم إلى الدين، إنما أمروا أن يعبدوا الله سبحانه ما داموا في هذا المكان الآمن، لكن الأمر نراه قد اختلف بالنسبة إلى هجرة المدينة، فمع هجرة واحد فقط وهو مصعب ابن عمير، جاء الأمر بتبليغ القوم، ونشر الدين، وتعليم الناس، والصلاة بهم، فهذا بلا شك عنصر فارق بين هجرة وأخرى، ليت الناس يتفهمونه اليوج جيدًا، مما يدل على صدق ما وجنا إليه منذ البداية.
إن الهجرة لم تكن أمرًا فجائيًّا؛ بل كانت بإحكام وضبط ومعرفة وترتيب، يظهر ذلك حينما نتابع كيف هاجر صلى الله عليه وسلم بداية م اختيار المعاونين له، ودور كل واحد منهم، والمهمة المناط به تنفيذها، مرورًا باختيار الوجه والدليل والرفيق والتوقيت المناسب، وانتهاء بالتعمية على القوم، ومن ثم التوكل على الله سبحانه، ولكل تفصيله فيما يلي:
1- اختياره صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالف رضي الله عنه دون غيره ليبيت في فراشه، له من الدلالات الكثير، فهو ابن عمه، وبمثابة الابن عنده لكونه رباه، فلا يأت أحد من الناس فيقول:
إن محمدًّا قد وضع في مكانه من قد يقتل من عامة أصحابه، ومن ليس له به قرابة.
2- اختياره صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط واستئجاره ليكون دليله في دروب الصحراء، فهو صاحب كفاءة في هذا، كما أنه أمين في عمله مع كونه لم يكن من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك غاية الترتيب خاصة إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده أن يأتيه بعد ثلاثة أيام بعيدًا م عن أعين الناس، وبع أن يفرغ الطلب عليه صلى الله عليه وسلم.
3- اختياره صلى الله عليه وسلم بيت الصديق ليكون منطلقًا له فلي الهجرة، وهو يعلم صدق توجهه في الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان تأخره عن الهجرة بأهل بيته إلا انتظارصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومصاحبته، وهو الدائم السؤال آلله أذن لك؟ والملح عادة على الصحبة، فكان نعم الرفيق فلي الطريق، إذ رأى صلى الله عليه وسلم منه ما قرت به عيناه، والذي كان مثالاً يحتذى به ي المحافظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل مقاربة العمر بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكونه أول من آمن به من الرجال سببًا قويًّا لأن يحظى بشرف الصحبة وما أعظمه من شرف {... ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحابه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه...} [التوبة: 40].
4- اختياره صلى الله عليه وسلم للعنصر النسائي ممثلاً في أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما دون غيرها لتكون بمثابة وزيرة التموين والإمداد، لهو دليل على غاية الذكاء والفطنة، فهي الحرة الشريفة العفيفة، والتي يؤمن ألا يسير أحد وراءها أو يتعقب خطاها، إذ ليس هذا بمألوف عند العرب، كما أن كونها حاملاً في عبد الله بن الزبير في ذلك الوقت يجعلها بعيدة كل البعد عن تفكير قريش في متابعتها أو مراقبتها، إذ تبعد الشكوك عنها.
5- اختياره صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بكر، وهو كما عند البخاري في الجامع الصحيح غلام، شاب، ثقف (ذو فطنة وذكاء والمراد ثابت العرفة بما يحتاج إليه) لقن (حسن التلقي لما يسمعه) فيدلج (أدلج إذا سار أول الليل وأدلك بالتشديد إذا سار آخره) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان (يطلب لهما يه المكروه وهو من الكيد) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام.
فهذه مميزات ربما قد لا تتوفر في غيره، بالتالي يكون هو الصالح لإتمام هذا العمل.
6- اختياره صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة (مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما) ليرعى الغنم (دون غيرهما من الأنعام لميزة في طريقة سيرها) بغية طمس معالم آثار الأقدام، لهو دور بارز قد لا يصلح غيره له، لكونه لا يعمل عملاً جديدًا، وقد اعتاد الناس على ذلك، فليس هناك شك يذكر في هذا، بل تبدو الأمور طبيعية جدًا، حتى يتم المقصود، وتنفذ الهجرة المباركة.
7- نزوله صلى الله عليه وسلم غار ثور، دون غار حراء الذي تعرفه قريش، وسيره صلى الله عليه وسلم إلى جهة الجنوب، دون جهة الشمال وهي المرادة، لإيهام القوم بوجهة أخرى غير التي يريدها، لهو دليل دامغ لا ريب فيه على أن الهجرة كانت بتخطيط وتدبير محكم أراد المولى سبحانه أن يلقننا من ورائه دروسًا كثيرة، أبسطها أن الحق جل في علاه أراد أن يفهمنا أنه لا بد في عظائم الأمور أن يجاهد الإنسان نفسه، كما عليه ذلك أن يتحلى بالصبر والكتمان، خاصة إذا علمنا أن الله عز وجل قادر على أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة دون هذا الشقاء والعناء، وقد ضرب الله سبحانه لنا مثالاً على ذلك برحلتي الإسراء والمعراج والتي سبقت الهجرة بسنوات قليلة.
8- مكثه صلى الله عليه وسلم أيامًا معدودات بقباء، قبل أن ينزل المدينة، ليدرك أخبارها وأخبار من فيها، فيه التريث مع شدة الشوق للقاء أصحابه، كما فيه الحكمة والتأني، وتلك أمور لا بد للقائد المحنك أن يتحلى بها، كل هذا أخذًا بالأسباب، فإذا انقطعت فلمسببها سبحانه التدبير والإحكام، وذلك قد بدا في مواطن كثيرة مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من بيته وقد أغشيت أبصارهم، مرورًا بما حدث من شأن الغار، وانتهاءًا بما وقع لسراقة بن مالك، ثم تبشيره بسواري كسرى، كما هي البشارة التي أطلقتها الآيات الكريمة من سورة الحج للمهاجرين، يقول الله تعالى: {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله عليم حليم}.
التعليقات