من إلهامات الهجرة
في الإسلام ظاهرة يمتاز بها على غيره من الأديان التي تموج أقطار الأرض بأتباعها؛ فأهل الديانات الأخرى ينحصر معنى الدين عندهم في العقيدة والعبادة، فإذا ضُمنتا لهم في أي نظام لهم من أنظمة الحكم اكتفوا بهما، وأذعنوا إلى ذلك النظام مهما كان، ولا يعرفون دينهم إلا ساعة الاجتماع في المعابد.
أما الإسلام، فكما أنه دين عقيدة وعبادة، فإنه يشمل _ أيضاً _ الآداب في المنازل والمجتمعات، والتعاون بين الأفراد والجماعات، ويتناول العقود والمصالح والالتزامات، وتتسع دائرته فتحيط بنظام الحكم كله.
والمسلمون لا يعتبرون أنفسهم عائشين في بلد إسلامي إلا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم، وقامت فيه أحكامه وآدابه، كما تقوم فيه شعائره، وتسود عقائده.
وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه الخلقية والبيتية _ وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في العالمين.
وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط وجب عليهم أن يتجمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تامَّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل؛ لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبها _ صلوات الله عليه _ وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان.
هذه هي حكمة الهجرة، وهذا هو الباعث عليها، والداعي لها.
فالإسلام يجب أن يكون له وطن تقام فيه معاني الإسلام كلها، ويُعمل فيه بأحكامه وأنظمته في دواوين الدولة، ومرافق الأمة، ومعاملات الأفراد، وآداب البيوت، بقدر ما يعمل فيه بشعائر العبادات، وبقدر ما تُحمى فيه حقائق العقيدة التي لا يكون الإسلام إسلاماً إلا بها.
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد رسول الله " فلبثوا في وطنهم مكة مستضعفين بها لا يستطيعون إعلاء كلمة الله؛ لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى المدينة، فيقوى بهم الإسلام؛ فنزل فيهم قول الله _ عز وجل _: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} _ أي بعد إقامة دينهم في بلدهم، وتخلفهم عن نصره وتأييده في دار هجرته _{قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا، وكانوا يؤدون صلواتهم على النهج الشرعي في منازلهم أو في الحرم إن استطاعوا، وكانوا صحيحي العقيدة، وغير مقصرين في العبادة، إلا أنهم كانوا سبب ضعف للإسلام، بإذعانهم لنظام غير نظامه، وإحجامهم عن تقوية الإسلام في وطنه ودار هجرته.
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها _ كان من تمام الآيات السالفة قول الله _ عز وجل _: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً} _ أي مذهباً ومتحولاً _ {كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
إن النفس الإسلامية يريد لها الإسلام أن تعيش في جو من النظام والحكم يسهِّل لها فهم هداية الإسلام، ويحبب لها العمل بهذه الهداية في كل ضروب من ضروب الحياة، وتتوافر فيه حرية الدعوة إلى كل ما ينشده الإسلام من حقيقة وخير، فيتيسر القيام بها جهاراً في جميع أحوال الفرد المسلم والجماعة الإسلامية، ويكون فيه للحق قوة تقمع كل من يصد عن ذلك، أو يحول بين المسلمين وبين الدعوة إلى هدايتهم، والعمل بها في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجتمعاتهم.
فإذا نشأت النفس الإسلامية ونمت تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام، ويحمي دعوته، ويحمل الأمة على آدابه _ كانت هذه النفس قوة للإسلام تعمل على رفعته وتوسيع دائرته، غصناً في دوحة الإسلام تزهر وتورق وتثمر في جناته.
أما إذا نشأت ونمت تحت جناح يخالف الإسلام، ويخذل دعوته ولا يربي الأمة على آدابه _ فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام، وتعميم هدايته.
إن الهجرة المحمدية من ديار الشرك إلى دار النصرة قد مضت بأهلها، ولكن الهداية المحمدية لا تزال في أمانة المسلمين، وهي في عصرنا أحوج ما كانت إلى تفكير المسلمين في صيانتها، والتماسهم الأسباب لازدهارها وتعميم العمل بها.
لما هاجر النبي " بأصحابه من ديار الشرك إلى دار النصرة، كان للإسلام _على قلة أهله يومئذ _ قوة بتلك القلة من أهله لا نكون صادقين لو زعمنا أن عندنا للإسلام مثلها اليوم مع كثرتنا واتساع آفاق أوطاننا.
فإذا كانت الهجرة مضت بأهلها فإن القوة التي توخاها النبي " للإسلام بالهجرة لا تزال أنظمة الإسلام وآدابه وأهدافه مفتقرةً اليومَ إلى مثلها، بل هي اليوم أشد افتقاراً إلى مثل تلك القوة مما كانت في زمن الهجرة.
نحن محتاجون اليوم _ من معاني الهجرة وأهدافها وحكمتها _ إلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والمحبة، والتعاون على الخير.
فالبيت الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية.
وقبل أن أتبجح؛ فأنتقد ما خرج عن دائرتي من بيئات لا يفيدها انتقادي شيئاً يجب عليَّ أن أبدأ بمملكتي التي هي بيتي، فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنات وبنين إلى ما يحبه الله من الصدق، هاربين من الكذب الذي يكرهه الله ويلعن أهله في صريح كتابه.
ويجب أن أنخلع أنا وأهل بيتي من رذيلتي الإفراط والتفريط؛ فنكون معتدلين في كل شيء؛ لأن الاعتدال ميزان الإسلام.
ويجب أن نحب أنظمة الإسلام وآدابه محبة تمازج دماءنا، فنتحرى هذه الأنظمة في أخلاقنا، وأحوالنا، وتصرفاتنا، ومعاملة بعضنا لبعض هاجرين كل ما خالفها مما اقتبسناه عن الأغيار، وخذلنا به مقاصد الإسلام، فضيعنا أغراضه الجوهرية.
إذا تربينا في بيوتنا على محبة الأنظمة الإسلامية، وتأصل ذلك في أذواقنا وميولنا، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة _ فشا العمل به حينئذ من البيوت إلى الأسواق، والأندية، والمجتمعات، ودواوين الحكم، ولا يلبث الوطن كله بعد عشرات قليلة من السنين أن يتحول من وطن عاص لله إلى وطن مطيع لله، ومن وطن تسود فيه الأنظمة التي يسخطها الله إلى وطن تسود فيه الأنظمة التي أمر بها الله.
نحتفل بذكرى الهجرة في كل سنة، ونتكلم فيها عن الماضي ولا ننتفع بها في الحاضر.
ولو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله " كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة _ لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته، وآدابه في بيوتهم، وأسواقهم، وأنديتهم، ومجامعهم، ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين من البيت، وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنات وبنين، ومتعاونين عليه مع كل من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عمَّ هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل الآثار التي كانت لهجرة النبي " وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الأمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع ابن مسعود السلمي قال: جئت بأخي (أبي معبد) إلى رسول الله " بعد الفتح فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة، فقال: «قد مضت الهجرة بأهلها».
قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: «على الإسلام، والجهاد، والخير».
قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع، فقال: صدق.
وفي كتب السنن وبعضه في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي قال: «المهاجر من هجر السيئات».
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عبسة، وفي حديث عبدالله بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله: «... فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله».
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (6: 21) من حديث فضالة بن عبيد بن ناقد أن النبي قال في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب».
فإلى الهجرة أيها المسلمون...
إلى هجر الخطايا، والذنوب، في أعمالنا، وأخلاقنا، وتصرفاتنا.
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا.
إلى هجر الضعف، والعطالة، والإهمال، والسرف، والكذب، والرياء، ووضع الأشياء في غير مواضعها.
إلى هجر الأنانية، والصغائر، والسفاسف مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه نفوس أمته حتى تكون خير أمة أخرجت للناس كما أراد الله لها.
وهذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله الكريم.
التعليقات