رسالة المسجد في الإسلام

الحديث عن رسالة المسجد في الإسلام، حديث يتناول التحول الإنساني المنبعث من المساجد التي هي أفضل البقاع في الدنيا، وأعز الأمكنة إلى المومنين الذين يبحثون اليوم عن حياة السعادة والفلاح، ويريدون أن تكون أيامهم المستقبلية عزيزة مشرقة، كما كانت أيام سلفهم الصالح من قبل، ذلك السلف الذي أراد الله به خيرا فحببها إليه، وتكون في ساحتها التكوين الذي مكنه من أن ينشر دين الله في الأرض.

و مكانة المسجد في الإسلام عظيمة جدا، فقد وعد رسول الله (ص) بانيه بالجزاء الأكبر عند الله، لقوله: "من بنى لله مسجدا يذكر فيه اسمه بنى الله له بيتا في الجنة"، فهو العنصر الأساسي في حياة المسلمين، وكل الأنشطة التي يزاولونها بين جدرانه، ترفع من شأنهم، وتقوي عقيدتهم، وتعلي كلمتهم، وتجعلهم مطبوعين بطابع الحيوية والإنجاز، ويعتبر المؤسسة الخالدة التي تمارس فيها الشعائر الدينية بدقة وضبط وانتظام، ويجسد بشكله المادي المعماري عظمة الإسلام، وقوته وهيبته وعزته، وهو أداة تركيز الإيمان في القلوب، ووسيلة اطمئنان النفوس، وانشراح الصدور.

و قد اتفق المصلحون على أن ليس هناك بديل آخر يفيد في الدعوة إلى الله ويستطيع أن ينفذ إلى قلوب الناس، ويغرس فيها المثل العليا، مثل المسجد في عطائه التربوي وقدرته على مخاطبة المشاعر وتوجيهها نحو الخير ونشره، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إليه.

و المسجد في الإسلام باعتباره بيت الله، (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (2)، يحتل في نفوس المومنين مكانة عالية، ويحظى بهالة من الوقار والتعظيم والقدسية، ويذكر رواده بعظمة الخالق جل وعلا، فيستشعرون معيته، ويحسون بمناجاتهم إياه: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". (3)

من أجل ذلك أكد الله تعالى أن عمارة مساجد الله لا تكون إلا من قبل من آمن بالله واليوم الآخر، وشهد لعُمّارها بالإيمان في قوله: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين).

و قد روي هذا أيضا في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". (4) وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): "إنما عمار المساجد هم أهل الله".

و هكذا شهد الله بالإيمان لمن يعمر مسجده، وجعله من أهله في بيته، ونفى عن المشركين عمارتها، ومنعهم منها بقوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون). (5)

ولقد عد رسول الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلا قلبه معلق بالمساجد.

ومعلوم أن المساجد منطلق لإشاعة التوجيه الديني، ومركز الإشعاع الروحي، ومحل أداء الفريضة الكبرى في الإسلام وشريعته الأولى، وهو المدرسة التي تلقى فيها أحكام الشريعة، وتعاليم الدين الحنيف، يجلو صدأ القلوب ويخلصها من أدران المادة الطاغية، يغذي النفوس وينير العقول، وهو مأوى أفئدة المومنين، وملتقى المصلين الذين يتلقون فيه كل يوم خمس مرات دروسا عملية في المساواة والطاعة والانقياد لرب العالمين.

و اعتبارا لهذا الدور الذي يقوم به المسجد في الحياة اليومية للمسلم، نجد أن القرآن الكريم، ذكر – لمختلف المناسبات – كلمة المسجد على صيغة المفرد صراحة ما يناهز 22 مرة، ولحكمة مقصودة تكرر لفظ المسجد في سورة البقرة وحدها 6 مرات، وفي سورة التوبة 5 مرات، وفي الإسراء 3 مرات، كما ورد فيه لفظ المساجد على صيغة التجمع ما يقارب 6 مرات.

و يعيش رواد المسجد فترة في حياتهم تصلهم بالسماء، وتفتح لهم نوافذ مضيئة، وتثبت أقدامهم في الأرض، وتشعرهم أنهم على أرض صلبة، لا تدنسها الأوحال ولا تزل فيها الأقدام.

و الإسلام دين الفطرة والتوحيد والوحدة، واليسر والبساطة، ومن ثم جاءت طبيعة المسجد في الإسلام وفي عهوده الأولى تتماشى وحياة البداوة التي لم تتأثر بعد بظروف الضخامة في الإسراف والزينة.

و المسجد مركز الجماعة المسلمة، ونقطة تجمعها ولقائها ومكان تشاورها وتبادل أرائها، ومركز العلم والتعلم فيها، ودار العدل والقضاء، والخلية الاجتماعية الطاهرة التي تنبض بالحياة، يؤدي رسالة نبيلة تتمثل في تعليم كتاب الله تعالى ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف، ويعتبر منتدى عاما مفتوحا أمام الجميع، ونزلا للضيف والغريب، وملجأ للمسكين، وروافد للتعليم الأصيل. (6)

و لكونه ضرورة دينية واجتماعية وفكرية، كان أول عمل فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى "قباء" في طريق هجرته إلى المدينة المنورة، وأول إنجاز أنجزه حينما أمر بالقيام بتخطيطه وبنائه، وكان المسجد المؤسس على التقوى من أول يوم، والمكتوب بناؤه لسعد بن خيثمة رضي الله عنه، والمذكور في القرآن بقوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه).

وللمسجد دور حقيقي في قيادة وتوجيه المجتمع الإسلامي، فقد حدثنا التاريخ أنه في صدر الإسلام وعبر عصور تاريخه الحافل بالأمجاد أدى وظائف وخدمات عظيمة دينية وعلمية واجتماعية وصحية وسياسية وعسكرية، فقد كان في حياته (ص) وحياة خلفائه من بعده، ينبض بالحياة والحركة، فهو المسجد والمعبد والمنتدى والمستشفى والمدرسة والجامعة والمحكمة وبيت الشورى ومركز الدعوة والإفتاء، وملجأ الغريب والفقير وابن السبيل الذين يجدون فيه الراحة والاطمئنان، والعون على الحاجات الضرورية لكل إنسان.

و تزدان الدولة الإسلامية الشاسعة الأطراف في قلبها وأطرافها بمساجد ذات طبيعة وخصوصيات متميزة، ستبقى أبد الدهر صامدة شامخة قوية مدوية  صوامعها بشعيرة الإسلام الخالدة: الله أكبر.

و أهم تلك المساجد هي الواردة في الحديث النبوي الذي يقول فيه الرسول (ص): "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".

و إذا كان الإسلام قد حض على العلم وأمر بالتعلم، واعتبر القرآن الكريم التعليم من وظائف النبي (ص) وعمله، إذ يقول: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)(7) فقد اتخذ المسجد النبوي أول معاهد العلم في زمنه (ص) إلى جانب مسجد "قباء" والمساجد الأخرى المشيدة بعده بالمدينة والتي ذكرها الإمام السهيلي بقوله:

"كانت مساجد المدينة تسعة، سوى مسجد النبي (ص) كلهم يصلون بأذان بلال".(8)

و ذكر الغزالي في فاتحة العلوم عن مكحول أن عشرة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حدثوه فقالوا: "كنا ندرس العلم في مسجد "قباء" إذ خرج علينا رسول الله (ص) فقال: "تعلموا ما شئتم أن تتعلموا فليس يأجركم الله حتى تعملوا". (9)

و قد درس في المسجد النبوي بعد زمن النبي (ص) كبار الصحابة والتابعين، وفيه نشأت أصول الفقه المالكي على يد مؤسسه الإمام مالك بن أنس رضي اله عنه،  ويذكر المؤرخون أن ربيعة الرأي كان يجلس في مسجد النبي بالمدينة، ويجلس الحسن البصري في مسجد البصرة ويشرح بأسلوبه الممتع مختلف العلوم". (10)

و إذا كان المسجد النبوي هو المنطلق الأول للعلوم الإسلامية بفضل أستاذ الأساتذة ورسول العلم، محمد (ص) الذي وضع للمسلمين آداب العلم، وأقام صرح هذه الحضارة الإسلامية الزاهرة التي علا بنيانها، وآتت أكلها بفضل الكتاب المبين المعجز، وبهداية السنة النبوية الطاهرة، فإن المسجد الحرام بدوره لم يتخلف عن هذه الرسالة السامية، فقد تحدث الرازي عن هذا الدور فقال: (11)

"من المشهور أن حلقة الفتيا في المسجد الحرام كانت لعبد الله بن عباس، ثم بعده لعطاء بن أبي رباح، وبعده لابن جريج، وبعده لمسلم بن خالد الزنجي، وبعده  لسعيد بن سالم القداح، وبعده لمحمد بن إدريس الشافعي الذي أفتى فيه وهو ابن نيف وعشرين سنة".

أما المسجد الأقصى بالقدس والمنسوب بناؤه القديم إلى سيدنا سليمان عليه السلام، فقد اتخذه عمر ابن الخطاب بعد الفتح الإسلامي مسجدا باعتباره مكانا مشرفا في الإسلام، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، كما أوضح الرسول (ص) ذلك، وقد أنشئت بداخله وحوله عدة مدارس في كل من العصرين الأيوبي والمملوكي، جعلته من المنطلقات العلمية الكبرى في الإسلام. (12)

و تمتاز بعض المساجد في العالم الإسلامي بدورها التاريخي والمعماري والحضاري والديني والثقافي، فضلا عن رسالتها الأساسية مثل المسجد الجامع بالبصرة، والمسجد الجامع بالفسطاط بمصر، والجامع الأموي بدمشق، والمسجد الجامع بالقيروان، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع المنصور ببغداد، والجامع الأعظم بقرطبة، وجامع القرويين بفاس، وجامع ابن طولون بمصر، والجامع الأزهر بالقاهرة، وغيرها من المساجد التي تعتبر آية في ضخامتها وهندستها وسمعتها وبنائها ومواقعها وصوامعها من جهة، وفي تنوير القلوب ونشر المعرفة والإيمان من جهة أخرى، تلك المساجد التي طبقت الرسالة الإسلامية، ودربت المسلمين على القيام بواجب الخيرية المذكورة في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، تلك المساجد التي نبغ في أحضانها عدد كبير من القادة والأئمة عبر العصور.

بعض القضايا التي ترتبط بالمسجد

و تحقيقا لوحدة المسلمين وتمتينا لصفوفهم، وتطمينا لقلوبهم، واستجابة لدعوة "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ارتبط المسجد بشعائر ذات حكمة ومغزى بليغ، فيه تؤدى صلاة الجماعة والجمعة، وفيه يتحقق الاعتكاف، ويتدارس كتاب الله، واستمرارا لأداء رسالة المسجد ووظيفته السامية، تسخو نفوس المسلمين بالأموال التي يجرونها وقفا عليه، فكان الوقف مظهرا من مظاهر النبل والكرم والإنفاق والإيثار والتكافل الاجتماعي في الأمة الإسلامية، وهو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أثرها وأجرها بعد الموت، وقد كانت المساجد وما زالت معالم ناطقة بفن العمارة الإسلامية الأصيلة والمتميزة بحيث يضع تخطيط المدن في العالم الإسلامي قديما وحديثا في أوليات اهتمامه موقع المسجد قلب الأمة النابض وروحها، فكانت المساجد في الإسلام من حيث شكلها الخارجي و الداخلي معلمة تجسد عظمة الإسلام، وتخلد أصالة العمارة الإسلامية الأخاذة سعة وموقعا ومعمارا وهندسة وتخطيطا وبناء وصحنا ومحرابا وسواري وزخرفة ونقوشا وزركشة وخطوطا ومآذن ونافورات ومختلف المرافق والوسائل كالكتاتيب القرآنية، والمدارس العلمية والخزانات النادرة، وغير ذلك مما ينشر النفع العام بين المسلمين، ويعلي شأنهم بين الناس.

و لهذه المكانة العظيمة التي تتمتع بها المساجد في الإسلام ولرسالتها المفيدة للمومنين، والتي تعتبر حجر الزاوية، وأساس التوجيه الصحيح في كل عمل اجتماعي سليم نرى ولاة المسلمين وقادتهم عبر عصور تاريخهم الحافل بالإنجازات يقبلون على بنائها في المدن والقرى، ويتسابقون إلى الإنفاق عليها، وتشييد المصالح التابعة لها بسخاء لا مزيد عليه، إقتداء بالنبي (ص) الذي زرع حب المسجد والإنفاق عليه في قلوب المسلمين.

و قد كان إقبال الولاة والقادة سببا في تحريك همم شعوبهم وتنافسها على اختلاف طبقاتها ومستوياتها، وجعلها تتجه اتجاها موحدا نحو تشييد المساجد بدورها، وتحبيس الرباع والأملاك المختلفة عليها، آملة أن توفق في القيام برسالتها السماوية والموروثة عن النبي (ص)، والموضحة من قبل السلف للخلف، ليحيا الإنسان الحياة المطبوعة أزليا بطابع الرضا والقبول.

و لا أطيل في هذه العجالة بسرد الأعمال المنجزة من قبل الولاة والقادة والشعوب الإسلامية عبر العصور، فكتب التاريخ حافلة بما يثلج الصدر في هذا الميدان، والمؤسسات المشيدة بدورها في مختلف الأقطار مازالت ماثلة للعيان في شموخ وروعة وجمال وجلال، ويكفي أن أقول باختصار:

إن المسجد الذي صلح به أول هذه الأمة هو الذي سيصلح به آخرها، وأن التأثير العجيب الذي أحدثه في المشرق هو نفسه الذي أحدثه في المغرب، وهو نفس التأثير الذي يحاول اليوم تجديده أمير المومنين الحسن الثاني في إقباله الكبير والفريد على بناء المساجد وتعميمها في مدن مملكته وقراها، إقتداء بآبائه الأولين وأجداده المنعمين، وإيمانا من جلالته بأن التعليم المسجدي هو الذي يحافظ على الأصالة ويركز الهوية في النفوس، ويجعل الطفل ينمو معه مداركه في جو مشحون بالإيمان بالله، وزاخر بالحنان العائلي في إطار الرغبة والرجاء في الله، وحافل بأسباب المحبة والعطف التي تسيطر على أطفاله وتربط في ما بينهم برباط من الحياء والإخاء والتعايش العفوي، وتجعل مربيهم بدوره يحنو عليهم حنو الإسلام، الممزوج بالجد والإخلاص، والمطبوع بالدفء الرباني المعين في مراحل تكوينهم، وطبعهم بطابع العلم والإيمان والإحسان.

و للمحافظة على الهوية المغربية أعطى – أعزه الله – من جهده ووقته وتفكيره وعبقريته الشيء الكثير، وقدم لشعبه كل ما في استطاعته من وسائل وطاقات، واستعمل كل الأساليب التي تفيد في الإحياء والتجديد، ولقحه بلقاحات إسلامية تحميه من الذوبان، وتقيه من خطر الانزلاقات، وفتنة التيه في المتاهات.

و ما أكثر أعماله في هذا الميدان، وفي غيره من الميادين التي تنعش وترفع رأسها شامخا بين الناس، ويكفي القارئ الكريم أن يلقي ولو نظرة واحدة على التصاميم المطبقة في نطاق بناء المساجد والواردة في المطبوعات التي تواكب مسيرات النماء بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ليتعرف على الجهود الحسنية الرائعة والشاملة لمختلف الأقاليم في ميدان تشييد بيوت الله، وتيسير شؤون الوعي الديني والحضاري والثقافي لكافة المواطنين.

و لم يقتصر أعزه الله على تزويد شعبه بهذه المؤسسات الدينية فحسب، بل عممها ونقلها إلى شعوب أخرى راغبة فيها، وبالأسلوب الحسني النبيل والموجه لله، والخالي من الأغراض التي لا تقبل في دين الله، وهو في تلك الأعمال التي يسديها للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يقتدي بأسلافه الملوك العلويين الذين نشروا الإسلام في أنحاء المعمور، ووقفوا أوقافا جليلة لخدمة دين الله وإسعاد عباد الله، وناهيك بجده المولى محمد بن عبد الله الذي ضرب الرقم القياسي في تعمير الأرض وتنويرها بالمساجد، والإقبال على فك أسارى المسلمين، وتحرير كل المجاهدين الذين ضحوا في سبيل عزة الإسلام وإعلاء كلمة رب العالمين.

لقد أحسن مولانا الحسن الثاني فيما قام به من تجديد أمر الدين في هذا العصر قولا وفعلا، وأدى واجبه خير أداء في سبيل جمع العرب المسلمين، وتركيز الوحدة الدينية بين المومنين، مقتفيا أثر والده المجاهد العظيم مولانا محمد الخامس الذي دربه بدروسه العلمية في منفاه لنشر الدين، وعمارة أحد المساجد الإفريقية المهيأة لجلالته قضاء وقدرا لإرشاد المومنين، وإزالة الغشاوة الاستعمارية عن عيونهم، وشحن قلوبهم بطاقات من العزة و الإباء، ودعوتهم إلى النبل والفضيلة والالتزام في الحياة.

و من هذه المدرسة المحمدية تخرج الحسن الثاني الملتزم التزاما كبيرا بعمارة الأرض وتنويرها بالمساجد وتزيينها بالمنارات التي تهدي الضالين وتنبه الغافلين وتحيي موتى القلوب والأفكار بإذن الله.

لقد استطاع أن يتوج مساجده العديدة والمتنوعة بمسجده الحسني بالدار البيضاء، ويربط به البر والبحر، ويؤكد فكرة عالمية الحضارة الإسلامية، ودفء الأخوة الإنسانية في شموخ يبشر بعودة الخلافة الإسلامية، وإشراقها الفكري العظيم.

إن مسجد الحسن الثاني يمثل قمة الفن المعماري في إبداعه، ويعتبر صرحا فريدا في شكله وعظمته، وهو أعرق ميراث أصيل من تجارب الصناعة المغربية التي سايرت حركة الزمن، وانسجمت مع دواعي التطور دون أن تغفل عن طابعها المتميز والمعبر عن عظمة الإنسان الذي خصه الله بأهليته لكسب العلم والاستفادة من كل ما في السموات وما في الأرض، واكتشاف الآيات الإلاهية، والقدرات الربانية في الكون والإقبال على العمل المتواصل والحازم للقيام بواجبه في عمارة الأرض.

إنه تجاوز كل ما أنجزه الأولون بطابعه الفني المغربي الأصيل وبموقعه الرائع في العاصمة الاقتصادية الكبرى للمغرب، وإقامته الممتازة على ساحل المحيط الأطلسي، ومنارته المشرئبة إلى السماء بعلو شاهق، وتشييده على الماء، وتزويده بمنجزات العصر التي تدعم بنيانه، وتؤمنه من رطوبة الماء، وتحفظه من مختلف الأخطار، وتركزه بنيانا شامخا يتحدث عن عبقرية مؤسسه وإيمانه الراسخ وحبه لبيوت الله، وجهاده المتواصل لإعلاء كلمة الله.

و الحسن الثاني الذي كرم الدار البيضاء بمسجده العظيم، إنما سار مسيرة أجداده وآبائه الملوك العلويين الذين أسسوا فيها وفي غيرها بيوت الله على تقوى من الله ورضوان اقتناعا منهم بأن بقعتها الجذابة، سيكون من أمرها ما يكون، وإنها البقعة المكتوب لها أزليا أن تكون أرض الجهاد وأرض اللقاءات والحركات المفيدة للوطن العزيز، ولشعبه المومن الغيور، لذلك أسرع المولى محمد بن عبد الله العلوي، وبنى مدينة أنفا ومسجدها، وتبعه في ذلك الاهتمام بشأنها الملوك الآخرون أمثال المولى يوسف رحمه الله الذي بنى مسجده في الحومة المعروفة بدرب السلطان، ومولاي محمد بن يوسف الذي زينها بمسجده المحمدي وقصره العامر هناك تكريما للدار البيضاء التي أراد الله أن يقع فيها اجتماع "أنفا" الشهير، وأن ينصر الله منها الموكب الجهادي الذي قاده مولانا محمد الخامس طيب الله ثراه نحو الحرية والاستقلال.

و اليوم – والعالم الجديد على ما يعرف القارئ الكريم – أبى جلالة الحسن الثاني إلا أن يتوج مساجده العديدة في أنحاء المغرب بمعلمة القرن بالدار البيضاء التي يقدرها حق قدرها، ويرفع منار مسجده العظيم على المحيط الأطلسي، وفي غرب العالم الإسلامي، متحديا بذلك مختلف المكائد والأحقاد، ومنيرا طريق الضالين في البر والبحر، ومرشدا سائر الحائرين إلى شاطئ السلامة، وإلى عمارة بيوت الله والإقبال على ذكر الله الذي به تطمئن القلوب.

لقد شيد الحسن الثاني في الحاضر ما لم يشيد في الماضي، وأتى أعزه الله بما لم تستطع الأوائل أن تأتي به، وأبى إلا أن يربط البر بالبحر بهذه المعلمة العظيمة، تذكيرا بقوله تعالى: (و كان عرشه على الماء)، وأن يضم إليها على عادة الملوك الأوائل من المسلمين المباني الأخرى الخاصة بحفظ القرآن الكريم، وشؤون العلم والمكتبات وقاعات للندوات والمحاضرات، وكل ما يعالج أمور الدين والدنيا، ويعبد طريق الهدى والنجاة، ويوضح للأجيال الحاضرة والصاعدة أن العاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وتلك رسالة مسجد الحسن الثاني ورغبته في الحياة.

______________

1) أخرجه البخاري ومسلم.

2) الآية 18 من سورة الجن.

3) رواه أبو هريرة ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة.

4) حديث صحيح أورده السيوطي في الجامع الصغير.

5) الآيتان 17-18 سورة التوبة.

6) خطبة الجمعة وقضايا العصر، للأستاذ محمد سلامة ص: 17.

7) سورة البقرة الآية 128.

8) ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار ج 1، ص: 131.

9) الغزالي، فاتحة العلوم ص: 19.

10) الوعي الإسلامي: السنة العاشرة، العدد 112 أبريل 1974م.

11) الرازي (أبو عبد الله حمد بن عمر): مناقب الإمام الشافعي ص: 20 ط المكتبة العلامية.

12) القدسي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ج 2، ص: 387.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.