يوم الوقفة.. عرفات
يوم الوقفة.. عرفات(*)
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)﴾ [الحج: 27-29].
هنالك.. ينكشف الغطاء.. وتنفتح أبواب السماء.. فيتوجه الحجاج إلى الله بقلوب انزاحت عنها ظلمة الأهواء والشهوات.. وأشرقت عليها الأنوار..
فسمت.. حتى رأت الأرض ومن عليها ذرة صغيرة تحملها رياح القدرة..
ثم سمت.. حتى سمعت تسبيح الملائكة بألسنة الطاعة..
ثم سمت.. حتى تدبرت القرآن غضًا غريضًا؛ كأنما نزل به الوحي أمس..
وسمعت النداء من جانب القدس: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ [الحجرات: 13].
فأجابت: لبَّيك اللهم لبيك!..
فردَّدت بطاح عرفات.. وأرجاء الحرم.. وردَّدت السماوات السبع والأرضون السبع: (لبيك اللهم لبيك!).
هنالك.. تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد ومسود، وعبد ومعبود، وتحيا في عرفات؛ حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير.
هنالك.. تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاد، وتعم المساواة، ويسود السلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويؤمنون بنبي واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد: (لبيك اللهم لبيك!).
هنالك.. تظهر المعجزة الباقية، فتطوى الأرض، ثم تؤخذ من أطرافها؛ حتى توضع كلها في عرفات، فتلتقي شطآن إفريقيا بسواحل آسيا، ومدن أوروبا بأكواخ السودان، ونهر الكنج بنهر النيل، وجبال طوروس بجبال البلوز، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان على المصور فوق ألوان، أو تفرقه في السياسة خرق تتميز من خرق، وأعلام تختلف عن أعلام.
ذلك لأن وطن المسلم في القرآن، لا في التراب والأحجار، ولا في البحيرات والأنهار، ولا في الجبال والبحار: {إنما المؤمنون إخوة}، لا (إنما المصريون...)، ولا (إنما الشاميون...)، ولا (إنما العراقيون...).
هنالك.. يتفقد الإخوة إخوتهم، فيعين القوي الضعيف، ويعطي الغني الفقير، ويساعد العزيز الذليل، فلا ينصرفون من الحج إلا وهم أقوياء، أغنياء أعزاء.
هنالك.. يذكر المسلم كيف مرَّ سيد العالم صلى الله عليه وسلم بهذه البطاح مهاجرًا إلى الله، تاركًا بلده التي نشأ فيها، وقومه الذين ربي فيهم، وكيف جاء حتى وقف على الحزْورَة فنظر إلى مكة، وقال: «إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، ثم يستقبل هذه الصحراء الهائلة، ليس معه إلا الصديق الأمين، يتلفت كلما سار؛ ليتزوّد بنظرة من مكة؛ حتى غابت عن الأنظار، فانطلقا يؤمان الغار.
هل علمت هذه البطاح أن هذا الرجل الفرد الذي قام وحده في وجه العالم كله، يصرع باطله بقوَّة الحق، ويبدِّد جهاته بنور الإسلام، ويهدي ضلالته بهدي القرآن؟!.
والذي فرَّ من مكة مستخفيًا، وسيعود إليها بعشرة آلاف من الأبطال المغاوير، فتفتح له مكة أبوابها، وتتهاوى عند قدميه أصنامها، ثم تعنو له الجزيرة، ثم يخضع لدينه نصف المعمورة؟!
هل علمت هذه البطاح أن هؤلاء النفر الذين هربوا من جبروت قريش وسلطانها، سيعزون حتى تدين لهم قريش، ثم يعزون حتى يرثوا كسرى وقيصر في أرضيهما، ثم يعزون حتى يرثوا الأرض ومن عليها، وسيكثرون حتى يبلغوا أربعمائة مليون، وسيتفرقون في الأرض داعين مجاهدين فاتحين، ثم يجتمعون في عرفات حاجين منيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك؟!
هنالك.. وقف سيد العالم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يعلن حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام، وينشر الأخوة والعدالة والمساواة بين الناس قبل أن تنشرها فرنسا بألف عام:
أيها الناس:
اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا.
أيها الناس:
إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
أيها الناس:
إنما المؤمنون إخوة، لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه.
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
أيها الناس:
إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى.
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
وهنالك.. وقف يعلن انتهاء الرسالة الكبرى التي بعثه الله بها إلى الناس كافة، ويتلو قوله -جلَّ وعزَّ-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، ويبعث صحابته ليحملوا هذه الرسالة إلى آخر الأرض، ثم يحملوها إلى آخر الزمان.
فحملوها، فأنشأوا بها هذه الحضارة التي استظل بظلها الشرق، ويستظل بظلها الغرب.
في عرفات.. تتجلى عظمة الإسلام، دين الحرية والمساواة، والعلم والحضارة.
ومن عرفات.. يسمع المسلمون داعي الله يدعو: (حي على الصلاة! .. حي على الفلاح!). فيجيبون: (لبيك اللهم لبيك!). وينطلقون ليعملوا للآخرة كأنهم يموتون غدًا، ويعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبدًا.
* * *
فلتفسد الأرض.. ولتطغ الشرور.. وليعصف الحديد.. ولينفجر البارود.. ولتَغُص الإنسانية في حمأة الرذيلة إلى العنق.. فإنه لا خوف على الفضيلة، ولا على الحق، ولا على السلام؛ ما دام في الأرض (عرفات)، وما دام في الجو هذا الصوت القدسي المجلجل: (لبيك اللهم لبيك!).
***
_______
(*) مقال منشور بمجلة الرسالة (العدد 139)، 2-3- 1936م.
التعليقات