ابحث عن أثر رمضان؟

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, واشهد أن محمداً عبده ورسوله, بلغ الرسالة وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده, وترك أمته على المحجة البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنه إلا هالك, فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه،ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين،أما بعد :
فإن الإنسان إذا اعتاد مخالطة شيء أثر فيه ولا بد ..فمن اعتاد مخالطة أهل الفسق والفجور، فلا بد أن يظهر ذلك عليه، والعكس صحيح ..
ومن اعتاد مخالطة أهل الغنى والثراء، فلا بد أن يظهر ذلك عليه ..
وهكذا من عاش زمان الطاعة والعبادة، فلا بد أن يظهر أثر الزمن وأثر الطاعة عليه وإلا... فإن ثمة خللاً!
عباد الله:
إن من النصح للنفس، والسعي الحق لنجاتها قبل فوات زمان هلاكها أن يفتش الإنسان عن أثر تلك المدرسة الضخمة: رمضان, وما الدروس التي استفادها، والآثار التي خرج بها؟!
وتأتي أهمية هذا التفتيش؛ لأنه صورة من صور محاسبة النفس .. ولئن كان أهل الدنيا يراجعون حساباتهم عقب كل موسم من المواسم التجارية، أفليس أهل التجارة مع الله أولى بهذا؟!
وتأتي أهمية هذا التفتيش والتنقيب ـ أيضاً ـ لسبب يوضحه كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية:, حيث يقول: "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه،فإن الرب تعالى شكور،يعني لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا،من حلاوة يجدها في قلبه،وقوة وانشراح وقرة عين،فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(1)ا هـ.
ولتوضيح مراده :: هب أنك دخلت في صفقة تجارية، وقد وقعدت بأن أقل ربح سيأتيك فيها 100%, فلما جاء توزيع الأرباح لم يعطك التاجر إلا 5 أو 2 %, هنا .. ألا تشعر أن هناك تلاعباً وخللاً في التوزيع أو في الصفقة؟!
أوَ تظن ـ أيها الصائم ـ أن الرب الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها إلى 700 ضعف، أتظن أنه لا يثيبك ثواب الكرام، ولا يبقي في قلبك أثراً صالحاً تجد أثره في قلبك؟!
ولهذين السببين وغيرهما ـ يا عباد الله ـ يحرص الموفق على تفقد أثر أعماله عليه ليبادر بالمحاسبة قبل أن يتفاجأ بأن أرباحه ضعيفة، وإن كنا نرجو لكل من عمل صالحاً أن يجد ثوابه عند ربه غير منقوص، لكن الشأن في البحث عن أكبر نسبة ربح في التعامل مع أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ـ!
إن الإنسان ليتساءل ـ وبدهشة ـ والأمة تتخرج من هذه الجامعة الإيمانية الرمضانية: أين أثر هذه الطاعات على الأمة كلها؟! وأين أثرها على حياتهم؟! وما التقدم الذي طرأ في طريق سيرهم إلى الله؟! وكم معصية أقلعوا عنها بعد هذا الموسم الإيماني العظيم؟!
إن الواقع يشي بنتيجة محزنة، لا أقول هذا تثبيطا، ولا تشاؤماً! لكن من قلّب نظره وأنصف أدرك هذا الأمر!
أيها الإخوة المؤمنون:
لنتأمل هذه الآية ـ التي وردت في قصة شعيب مع قومه الذين قالوا له ـ: (يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ[هود/87]) ؟!.
فهم مع كفرهم يدركون أن للصلاة تأثيراً ولا بد على استقامة سلوك الإنسان، وتوحيده، بل حتى في معاملاته المالية!
ونحن نقرأ في كتاب ربنا ﻷ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت: 45] فأين أثرها في أكثر المصلين!
كم هم المصلون الذين يصرون على بعض المعاصي منذ خمس أو عشر سنين بل ربما ثلاثين سنة؟!
كم هم المصلون الذين ما زالوا مصرين على قطيعة أرحامهم بسبب لعاعة من الدنيا؟!
بل والله لقد وجد من الناس من مرّ عليه عيد هذه السنة ولم يعايد أباه المريض الذي ينتظر الموت صباحا ومساءً، ولم يعايد إخوته مع أنه معهم في نفس البلد، في قطيعةٍ خطيرة للرحم ـ عياذاً بالله ـ.
كم هن المصليات اللاتي لا يتورعن من لبس الملابس المحرمة، أو التزين ببعض أنواع الزينة المحرمة؟!
في سلسلة من المخالفات التي تجعل الإنسان يعيد السؤال مرة أخرى: أين أثر الصلاة؟!
عباد الله:
لقد كان السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ يحرصون على تفقد أعمالهم، والبحث عن أثرها، وتجنب ما يكدر ذلك في مواقف مشرقة، أذكر منها، هذا الموقف الذي ذكره ابن أبي الدنيا عن أبي همام قال: قلت لعيسى بن وردان وكان يتنفس تنفساً شديداً، فقلت: ما غاية شهوتك من الدنيا؟ فبكى! ثم قال: أشتهي أن ينفرج لي عن صدري فأنظر إلى قلبي ماذا صنع القرآن فيه وما نكأ!
ونحن نعلم أنه لو فرج له عن صدره لم يجد إلا مضغة لحم، لكنها أمنية تعبر عن حرصه: على تفقد أثر هذا الوحي في قلبه .. وهو يقودنا إلى سؤال آخر: أين أثر قراءة القرآن التي عمرت بها المساجد والبيوت؟!
أيها الإخوة:
إنها مشكلة تحتاج إلى توقف, ومحاسبة, لمعرفة سبب ضعف أثر عبادتنا علينا إلا من رحم الله؟!
لقد كنتُ أقلب النظر في هذا الموضوع منذ سنوات طويلة، فوجدتُ أن من أعظم وأكثر الأسباب التي قللت أو حالت دون وجود أثر يذكر لتلك الطاعات التي يقوم بها كثير من الناس، هو ذلك السبب الذي غفل عنه كثير ممن وفقهم الله لبعض الطاعات، إنه: التساهل في الذنوب ـ صغارها وكبارها ـ اغتراراً بأن عندهم طاعات, أو بعض الصالحات! أو أن تلك المعصية صغيرة، وليست من الكبائر؟!
إن مثل هؤلاء ـ الذين يتساهلون بالإصرار على بعض المعاصي بحجة أن عندهم بعض الطاعات ـ كفلاح يزرع, ويجتهد طوال موسم الزرع, ثم لما جاء موسم الحصاد, وجد أن زرعه قليل الفائدة والجدوى, ولم يستفد من زرعه! لماذا ؟! لقد هذا كان الفلاح مشغولاً بالزرع, لكنه كان غافلاً عن الحشائش, والآفات التي تؤثر على سلامة الزرع!
لنتأمل ـ يا عباد الله ـ هذه الآثار:
1 ـ في الصحيحين أن أبا بكر الصديق طلب من النبي ج طلباً, فقال: يا رسول الله ! علمني دعاء أدعو به في صلاتي ! قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً, ولا يغفر الذنوب إلا أنت, فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم"!
الله أكبر .. من الذي قال هذا الحديث؟ ومن الذي قيل له هذا الحديث؟! إن القائل: هو الناصح الأمين الرؤوف الرحيم بالمؤمنين, أما الذي خوطب بذلك فهو الصديق الأكبر! المشهود له بالجنة ! الذي ما غربت الشمس ولا طلعت ـ بعد الأنبياء والمرسلين ـ على رجل خير منه!
تأمل في قوله: "إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً" فماذا نقول نحن؟! وهل نعرف قدر أنفسنا؟!
2 ـ وتأملوا ـ أيها الأحبة ـ هذا الأثر ..
في البخاري عن ابن مسعود قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا !!
سبحان الله! ما أعظم عبارته! هل تخيلت حالة إنسان يخشى من وقوع جبل على رأسه, أيكون مطمئناً ؟ أيكون مرتاحاً ؟ أتراه يضحك ويقهقه, والجبل يوشك أن يقع عليه؟!
والسؤال: من منا إذا أذنب ـ ذنبا صغيرا فضلاً عن الكبيرة ـ يعيش هذه الحالة ؟! اللهم عفوك!
قال بن أبي جمرة: "السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه، عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه, بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة, وحاصله: أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان, فلا يأمن العقوبة بسببها, وهذا شأن المسلم, أنه دائم الخوف والمراقبة, يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ"(2).
ولكي تدرك ـ أخي المبارك ـ عظيم استشعار السلف الصالح لهذه القضية ...
3 ـ تأمل معي جيداً قول الصحابي الجليل أنس ـ كما في البخاري ـ: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي ج من الموبقات, أي: من المهلكات!
الله أكبر .. أي مقارنة بين الشعر وبين الموبقات؟!
والله لو قال: إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم من الصغائر, وإن كنا لنعدها على عهد النبي ج من الموبقات، لكان الأمر مفزعاً، فكيف والأمر أشد من ذلك ؟!
وإنك لتتعجب .. ما هذه الموبقات التي خوطب بها ذلك الجيل الفاضل ـ جيل التابعين ـ ؟! ولا أدري! لو كان أنسٌ حياً في عصرنا, فما الكلمة التي يمكن أن يضعها بدلاً من كلمة (الشَّعْر) ؟!
أيها المسلمون:
إنها نصوص, وكلمات تؤكد على قضية يجب أن تكون واضحة ـ إن كنا نريد أن نجد لأعمالنا الصالحة أثراً ـ: أن عمل الصالحات وحده لا يكفي, بل لا بد من اجتناب المعاصي, وإلا كنا كذاك الزارع الذي زرع وأغفل مكافحة الحشائش المهلكة لزرعه! أو كالذي يملأ خزان الماء، وينسى الصنابير مفتوحة، فمتى يمتلئ خزانه؟!
إن الاستقامة على الدين، والهداية التامة لا تتم إلا بأمرين متلازمين: العمل بالطاعات, واجتناب المعاصي والسيئات، وهذا المعنى واضح لمن تدبر سورة الفاتحة جيداً، فإن الله تعالى أمرنا أن نسأله الهداية في اليوم والليلة سبع عشر مرة على أقل الأحوال, ولم يقف الأمر على ذلك, بل نؤمر باجتناب طريق المغضوب عليهم والضالين ! لأن الاستقامة لا تتم إلا بذلك .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة
ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة, أقول قولي هذا
الخطبة الثانية
الحمد لله, وبعد:
فهذه وصية من عالم عاقل مجرب .. كتب فوصف, وأبدع إذ وقف على الداء والدواء .. يقول ابن الجوزي ::
"ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي, فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل, وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه إذا شاء عفا, فعفا كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا, فقلعت أصولهم، ونقض ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم، وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من خيرٍ يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم, فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم!"(3).
وقال: ـ في موضع آخر ـ: "
فو اعجبا للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة ثم يرضي ربه بطاعة، ويقول حسنة، وسيئة.
ويحك؟! من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين ؟!
رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارطٍ لا يستدرك!"(4).
نسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين!
اللهم بصرنا بمواطن الزلل منا،
اللهم كما سلمتنا لرمضان، فتسلمه منا متقبلاً، وسامحنا عن زللنا وتقصيرنا ..
([1]) نقله عنه ابن القيم في "المدارج" في منزلة المراقبة, ينظر "تهذيبها" للعزي 1/ 498, ط.الرسالة, وينظر كلام ابن القيم في 1/360 فهو مهم.
([2]) نقله عنه ابن حجر في الفتح 11/105.
([3]) من صيد الخاطر باختصار.
([4]) من صيد الخاطر باختصار.
التعليقات