حكم التجارة وقت صلاة الجمعة في مسجد، إذا كان سيصلي في مسجد آخر تتأخر فيه الجمعة
من الثابت شرعا تحريم البيع عند النداء الثاني لصلاة الجمعة، الذي يكون عند خروج الإمام وصعوده على المنبر، إلى أن تنقضي الصلاة.
قال الله تعالى:
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الجمعة (9).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) أي: اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة.
ولهذا اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني " انتهى. "تفسير ابن كثير" (8 / 122).
وإذا كان في المدينة جامعان، يُصلَّى في أحدهما الجمعة في أول وقتها، وفي الآخر تؤخر فيه الصلاة إلى قرب العصر، والبائع سيصلي في الثاني، فهل يجوز له البيع بعد النداء إلى صلاة الجمعة في المسجد الأول؟
هذا له حالان:
فإن كان المسجد الذي تقام فيه الصلاة أولا هو مسجد منطقة تجارته، والذي يصلي فيه أهل هذه المنطقة، ففي هذه الحال يُنهى عن البيع إذا سمع أذان هذا المسجد، ولو كان سيصلي في الثاني؛ لأن المسلم كما ينهى عن الوقوع في المحرم، فهو منهي أيضا عن الإعانة عليه.
فلا يعين أهل هذه المنطقة على التجارة وقت الجمعة، ولا يظهر المخالفة لهم ومفارقته لجماعتهم بمباشرة البيع في هذا الوقت.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" وإن كان أحد المتبايعين مخاطبا، والآخر غير مخاطب (أي : مخاطب بصلاة الجمعة): حرم في حقّ المخاطب، وكُره في حقّ غيره؛ لما فيه من الإعانة على الإثم.
ويحتمل أن يحرم أيضا؛ لقوله تعالى: ( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) " انتهى. "المغني" (3 / 164).
وهذا الاحتمال: جزم به المرداوي، وذكر أنه "المذهب". قال:
" ظاهر كلام المصنف، أنه لو كان أحد المتعاقدين تلزمه الجمعة، أن البيع لا يصح. وهو صحيح. وهو المذهب، واختاره ابن عقيل، وصاحب التلخيص، وغيرهما."انتهى، من "الإنصاف" (11/165).
وأما إن كان المسجد الثاني الذي سيصلي فيه، هو مسجد الناحية التي يتاجر فيها، والذي يصلي فيه أهل هذه الناحية، والبائع والمشتري، كلامهما من أهل هذا المكان: فالمسألة محتملة.
قال الزركشي رحمه الله تعالى:
" ولو كان للبلد جامعان يصح إقامة الجمعة فيهما، فسبق النداءُ في أحدهما، فهل يحرم البيع مطلقا، أو لا يحرم إلا إذا كان الجامع الذي نودي فيه من جنب داره، أما لو كان من الجانب الذي داره ليس فيه فلا يحرم؟
فيه احتمالان، ذكرهما ابن عقيل.
والله سبحانه أعلم " انتهى. "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (2 / 173).
وقال الشيخ منصور البهوتي، رحمه الله تعالى: " (فإن كان في البلد جامعان) فأكثر (تصحُّ الجمعةُ فيهما) لسعة البلد ونحوها (فسبقَ نداءُ أحدِهما) أي: أحد الجامعين (لم يَجُزِ البيع قبل نداء) الجامع (الآخر، صحَّحه في "الفصول") لعموم الآية". انتهى، من "كشاف القناع" (7/371).
والذي يترجح - بالنظر إلى سبب النهي - أن عليه أن ينتهي عن البيع إذا سمع نداء مسجده الذي سيصلي فيه؛ أما المسجد الأول الذي لن يصلي فيه، لا هو ولا أهل سوقه، فلا يثبت التحريم في حقهم بندائه، لأن العلة من تحريم البيع في هذا الوقت هي أنه يؤدي إلى الاشتغال به عن السعي إلى الجمعة.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ): وهذا مجمع على العمل به، ولا خلاف في تحريم البيع...
لأن البيع إنما منع للاشتغال به، فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا " انتهى. "أحكام القرآن" (1805 – 1806).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ولكننا نقول: ما الحكمة من النهي عن البيع؟ من أجل المحافظة على الصلاة، ولهذا قال: ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) " انتهى. "الشرح الممتع" (8 / 191).
فإذا كانت تجارته لا تلهيه، ولا تلهي غيره عن السعي إلى الجمعة وذكر الله تعالى، لأن صلاتهم ستكون في الثاني الذي سيتأخر فيه النداء إلى الصلاة؛ لم يكن بيعهم في هذا المكان ممنوعا.
قال الرحيباني رحمه الله تعالى:
" وأما إذا أراد الصلاة مع من في الجامع المتأخر نداؤه؛ فتستمر صحة عقوده إلى الشروع في نداء الجامع الآخر" انتهى. "مطالب أولي النهى" (3 / 50).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" هذا هو الأقرب، يقال: إذا كنت تريد أن تصلي في المسجد الثاني؛ فإنه لا يتعلق الحكم بأذان المسجد الذي لا تريد أن تصلي فيه ...
فيكون الحكم متعلقا بالمسجد الذي تريد أن تصلي فيه " انتهى. "الشرح الصوتي لزاد المستقنع" (1 / 4404 بترقيم الشاملة).
التعليقات