هو شهر من الأشهر الحرم، وما أدراك ما الأشهر الحرم، ترى من حرَّمها؟ يجيب القرآن الكريم: إنه الله -سبحانه وتعالي- هو من جعلها حُرُمًا، فيقول: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36]، وإن كان القرآن قد ذكر عددها ولم يحددها بأسمائها فقد تولى النبي -صلي الله عليه وسلم- مهمة تعيينها وتحديدها، فعن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، مضر الذي بين جمادى، وشعبان"(متفق عليه).
فالأشهر الحرم هي: رجب وذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم. لكن ما معني أن شهر ذي القعدة شهر حرام؟ دعونا نرتب الإجابة في النقاط التالية: أولًا: أن الله قد حرم فيها القتال؛ قتال الهجوم والطلب، أما قتال الدفع فإنه متحتم لا يسقط أبدًا، قال الله -عز وجل-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ...)[المائدة: 2]، "أي: ولا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، والشهر الحرام: هو الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال في الجاهلية فيه، فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم، بل أكده"(تفسير الخازن)، ودليل حرمة قتال الطلب فيها -أيضًا- هو قول الله -سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ...)[التوبة: 5]، على القول بأن المراد بها هو الأشهر الحرم الأربعة؛ رجب وذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم.
ويروي جابر -رضي الله عنـه- فيقول: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزوا، فإذا حضر ذلك أقام بنا حتى ينسلخ"(رواه أحمد). ولم يكن الإسلام هو أول من حرَّم هذه الأشهر الأربع، بل لقد كان أهل الجاهلية يعظمونها ويحرمون القتال فيها، فجاء الإسلام مؤكدًا لذلك، يقول البيهقي: "وكان أهل الجاهلية يعظمون هذه الأشهر... فكانوا لا يقاتلون فيهن"(فضائل الأوقات للبيهقي). ثانيًا: أن المعاصي في الأشهر الحرم أعظم إثمًا وأشد تحريمًا: قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، يقول قتادة مفسرًا: "العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا"(تفسير البغوي والخازن)، وليس وزر المعصية وحدة هو الذي يغلظ في الأشهر الحرم، بل دية القتل هي الأخرى تغلظ على قول بعض الفقهاء فقد قرروا: "إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف، فتكون ستة عشر ألف درهم"(المجموع للنووي، والمغني لابن قدامة). *** كما أن شهر ذي القعدة من أشهر الحج الثلاثة؛ فقد اتفقت كلمة الفقهاء أن أشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، على اختلاف بينهم هل جميع ذي الحجة من أيام الحج أو العشر الأول منه فقط، لكن أحدًا لم تختلف أن شهر ذي القعدة كله من أشهر الحج، وأغلب من يخرج قاصدًا بيت الله حاجًا يخرج فيه، فهو مناسبة للخطباء للتحدث عن تعجيل الحج والمسارعة إليه والتجهز والتحضر له.
هذا وقد وقعت في شهر ذي القعدة أحداث عظام زادت من مكانة هذا الشهر الكريم في قلوب المسلمين، وهذه بعضها: فمنها: صلح الحديبية: في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة النبوية، وكانت بدايتها رؤيا رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورؤيا الأنبياء حق، وقد قصَّ علينا القرآن أمر هذه الرؤيا قائلًا: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 27]، والمعروف حول "سبب نزول هذه الآية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، شق عليهم ذلك وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل"(تفسير الخازن).
نعم، لقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلـم- بناءً على هذه الرؤيا الصادقة في ألف وأربعمائة من الصحابة يريدون العمرة لا القتال، وقد لبسوا إحرامهم وقلدوا هديهم، ولقد كان من عادة أهل مكة ألا يصدوا عن البيت أحدًا قصده حاجًا أو معتمرًا، لكن قد أبى المشركون واعتبروها إهانة لهم وقالوا: لا تتحدث العرب أننا قد أُخذنا ضغطة، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- عثمان بن عفان مرسلًا إليهم يخبرهم أنما جاء المسلمون للعمرة فقط، وتأخر عثمان حتى شاع بين المسلمين أنه قد قُتل، وبايع المسلمون رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- على القتال تحت الشجرة ؛وكانت سمرة بأرض الحديبية، وهي بيعة الرضوان التي قال عنها القرآن: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح : 18].
ولقد كان صعبًا على المسلمين أن يعودوا دون أن يعتمروا، ولقد جاء في الصحيحين ما يوضح درجة الهم والغم التي بلغوها، ومنها أن عمر بن الخطاب قال: "فأتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبي الله حقًا، قال: "بلى"، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل، قال: "بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري"، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام"، قال: قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به".
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، - قال الزهري: قال عمر -: فعملت لذلك أعمالًا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمًا. (متفق عليه). ومنها: معركة الفراض: ووقعت في شهر ذي القعدة من السنة الثانية عشرة من الهجرة، وكانت بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- وبين جيوش الفرس والروم المتحالفة، وكان النصر الساحق للمسلمين حيث قتلوا منهم مائة ألف.
ومنها: معركة فحل بيسان: ووقعت في شهر ذي القعدة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وكانت بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد -أيضًا- والروم، وكان النصر فيها للمسلمين كذلك. ومنها: فتح مدينة جلولاء: ووقعت في شهر ذي القعدة من السنة السادسة عشرة من الهجرة، و وكانت بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وبين الفرس، حيث هزمهم المسلمون شر هزيمة.
التعليقات