كيف أكون ماهرًا في الخطابة؟!
"رأس الخطابة الطَّبْع، وعمودها الدُّرْبَة، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيُّر اللفظ"؛ قاله ابن أبي دواد؛ "العقد الفريد"؛ ابن عبدربِّه.
أيها الخطيب، أُبارك لك تولِّيك الإمامةَ والخطابةَ والتدريس، راجيةً من المُنعِم - سبحانه - أن يرفعَ لك في الدرجات، وأن يوجبَ لك المزيد من فضله؛ فإنه وليٌّ قدير.
مُقوِّمات الخطيب المسدَّد:
أولًا: رباطة الجَأْش، وسكون النفس:
جاء في "كتاب الصناعتَيْن"؛ لأبي هلال العسكري، ما نصه: "قال حكيم الهند: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكونَ الخطيبُ رابط الجَأْش، ساكنَ الجوارح"، علَّق أبو هلال قائلًا: "وقوله: وهو "أن يكونَ الخطيبُ رابط الجأش"؛ ساكن النفس جدًّا؛ لأنَّ الحيرة والدَّهش يورثان الحبسة والحَصر، وهما سبب الإرتاج والإجبال".
ثانيًا: جهارة الصوت:
قال الجاحظ في "البيان والتبيين": "وكانوا يمدحون الجهير الصوت، ويذُمُّون الضئيل الصوت؛ ولذلك تشادقوا في الكلام، ومدحوا سَعَة الفم، وذمُّوا صغر الفم"، ولكن مكبِّرات الصوت اليوم قد أغنتْ عن الجهارة، فعلى الخطيب مُراعاة التوسُّط والاعتدال.
ثالثًا: الهُدوء والتمهُّل في النطق:
قال أبو هلال العسكري في "كتاب الصِّناعتين": "وعلامة سُكُون نفس الخطيب، ورباطة جأشه: هدوءُه في كلامه، وتمهُّله في منطقِه، وقال ثمامة: كان جعفر بن يحيى أنطقَ الناس، قد جمع الهدوء والتمهُّل، والجزالة والحلاوة، ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني عن الإشارة لكانه".
رابعًا: الاختطاب واقفًا مع الاتكاء على عصًا أو قوسٍ:
قال الهيثم بن عدي: "لم تكن الخطباءُ تخطب قعودًا إلَّا في خطبة النِّكاح"؛ "البيان والتبيين".
وفي "سنن أبي داود": "فأقمنا أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام مُتوكِّئًا على عصًا أو قوسٍ"؛ صحَّحه الألباني.
خامسًا: الاهتمام بِلُغة الجسد:
فمن كلام ابن أبي دواد: "والنظر في عيون الناس عِيٌّ، ومسح اللحية هُلْك، والخروج عما بُنِي عليه الكلامُ إسهاب"؛ "العقد" لابن عبدربِّه.
وقد حُكِي أن الحجَّاج قال لأعرابي: أخطيبٌ أنا؟ قال: نعم، لولا أنك تُكثر الرد، وتُشير باليد، وتقول: أمَّا بعد"؛ "أدب الدنيا والدين"؛ للماوردي.
وقد قال الشاعرُ يصف أحد الخطباء:
مَلِيءٌ بِبُهْرٍ وَالْتِفَاتٍ وَسَعْلَةٍ***وَمَسْحَةِ عُثْنُونٍ وَفَتْلِ الأَصَابِعِ
مُقوِّمات الخطبة البليغة:
أولًا: تجويد الخطبة بعيدًا عن التشدُّق والتوعُّر:
قال الجاحظ في "البيان والتبيين": "حين مرَّ بِشْر بن المُعْتَمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يُعلِّم فتيانهم الخطابةَ، فوقف بشرٌ، فظنَّ إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيدَ، أو ليكونَ رجلًا من النَّظَّارة، فقال بشر: "اضرِبوا عما قال صفحًا، واطووا عنه كشحًا"، ثم دفع إليهم صحيفةً مِن تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام: "خذ مِن نفسك ساعة نشاطِك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك؛ فإنَّ قليل تلك الساعة أكرمُ جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأَسْلَمُ مِن فاحِش الخطأ، وأَجْلَب لكلِّ عين، وغرَّةٍ من لفظٍ شريفٍ، ومعنًى بديعٍ، واعلم أنَّ ذلك أجدى عليك مما يُعطيك يومك الأطول بالكدِّ، والمطاولة، والمجاهدة، وبالتكلُّف، والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطِئْك أن يكونَ مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج مِن ينبوعه، ونجم مِن معْدِنه، وإياك والتوَعُّر؛ فإنَّ التوعُّر يُسلمك إلى التعقيد، والتعقيدُ هو الذي يستهلك معانيك، ويَشِين ألفاظَك، ومَن أراغ معنًى كريمًا؛ فليلتمسْ له لفظًا كريمًا؛ فإنَّ حق المعنى الشريف اللفظُ الشريف، ومِن حقهما أن تصونهما عما يُفسِدهما ويهجِّنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمسَ إظهارهما، وتَرْتَهِن نفسك بمُلابستهما وقضاء حقهما، فكن في ثلاث منازل: فإنَّ أولى الثلاث: أن يكون لفظُك رشيقًا عذبًا، وفَخْمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، إمَّا عند الخاصة إن كنتَ للخاصة قصدت، وإمَّا عند العامة إن كنتَ للعامة أردتَ، والمعنى ليس يَشْرُف بأن يكونَ من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتَّضِع بأن يكونَ مِن معاني العامة، وإنما مدارُ الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع مُوافَقة الحال، وما يجب لكلِّ مَقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ العامِّي والخاصِّي، فإن أمكنكَ أن تبلغَ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولُطف مَداخلك، واقتِدارك على نفسِك إلى أن تُفْهِم العامَّة معاني الخاصة، وتَكْسُوها الألفاظَ الواسطة التي لا تلطُف عن الدَّهْماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التامُّ"، قال بشرٌ: فلما قُرِئَتْ على إبراهيم، قال لي: أنا أحوج إلى هذا مِن هؤلاء الفتيان"!
ثانيًا: تطعيم الخطبة بآيات القرآن العظيم:
قال الجاحظ في "البيان والتبيين": "وكانوا يَسْتَحْسِنون أن يكونَ في الخُطَب يومَ الحفل، وفي الكلام يومَ الجُمَع - آيٌ من القرآن؛ فإن ذلك مما يُورِث الكلامَ البهاء، والوقار، والرقة، وحسن الموقع، قال الهيثم: قال عمران بن حطان: إنَّ أول خطبةٍ خطبتها عند زياد - أو قال: عند ابن زياد - فأعجب بها زيادٌ، وشهدها عمِّي وأبي، ثم إني مررتُ ببعض المجالس، فسمعتُ رجلًا يقول لبعضهم: هذا الفتى أخطب العرب، لو كان في خطبته شَيْءٌ من القرآن".
ثالثًا: تقصير الخطبة:
((إنَّ طولَ صلاة الرجُل، وقِصَرَ خطبته، مَئِنَّةٌ من فِقْهِه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة))؛ رواه مسلم.
رابعًا: تخيُّر المواعِظ الملائِمة لمُقتَضى واقع الحال:
قال القلقشندي في "صُبح الأعشى": "وإن كان خطيبًا وُصِّي برعاية حقِّ رتبة الخطابة، والقيام بحقِّ ازدواجها، وأن يأتيَ من المواعظ بما يقرع الأسماع بالوعد والوعيد، ويلين القلوب القاسية، وأن يعدَّ لكل مقامٍ مقالًا يقوله".
أما الحصر الذي عرض لك، فإنَّه كثيرًا ما يعرض للخطباء في أول ارْتقائِهم في المنابر؛ قال أبو هلال العسكري في "كتاب الصناعتين": "خطب داود بن علي، فحمد الله - جل وعز - وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قال: أما بعدُ، امتنع عليه الكلامُ، ثم قال: أما بعدُ، فقد يجد المعسِر، ويعسر الموسِر، ويفل الحديد، ويقطع الكليل، وإنما الكلامُ بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام، وقد يعزب البيان، ويعتقم الصواب، وإنما اللسان مضغة من الإنسان، يفتر بفُتُوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل، ألا وإنا لا ننطق بطرًا، ولا نسكت حصرًا، بل نسكت معتبرين، وننطق مرشدين، ونحن بعدُ أمراء القول فينا وشجت أعراقه، وعلينا عطفتْ أغصانه، ولنا تهدَّلتْ ثمرتُه، فنتخيَّر منه ما احلولى وعذب، ونطرح منه ما املولح وخَبُث، ومن بعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا أيام، يعرف فيها فضل البيان، وفصل الخطاب، واللهُ أفضل مستعان"، ثم نزل.
ومع الدُّرْبة والتعوُّد يلهمهم الله - تعالى - الحكمة وفصل الخطاب.
من الناحية النفسية، يصطلح علماءُ النفس على هذا الشعور المُقْلِق الذي يعتريك أثناء الخطبة بالخوف منَ التحدث أمام الجمهور "Fear of public speaking"، وللتغلُّب عليه أنصحك بما يلي:
أولًا: عدم تضخيم موضوع المُواجَهة مع الجمهور؛ فنحن نلتقي بجمهور الناس في السوق، والشارع، والعمل، والمكتبة، والجامع، والجامعة، بيد أننا إذا سِرْنا في الشارع، أو تجوَّلنا في المكتبة، لا نركِّز انتباهنا على الناس مِن حولنا، ولا نعطي الموضوعَ أهميةً، فنتصرف على طبيعتنا، أمَّا حين يصبح التفكير في الموضوع مركزًا؛ فلا ريب أن التوتر سيغلب على الشعور؛ فيتأثر السلوكُ تبعًا لذلك.
ثانيًا: عدم وضْعِ توقُّعاتٍ مغالية عن نظرة الجمهور؛ فالعامَّة لا تتوقَّع من الخطيب إلَّا أن يُسمعهم موضوعًا يفيدهم في أمرِ دينهم ودنياهم! ومتى خرجوا من المسجد فلن يَتَذَكَّروا التهتهة ولا الفأفأة التي تتذكَّرها أنت! بل سَيَتَذَكَّرون مدى تأثير صوتك عليهم، وأنت تتحدث عن قضية تَشْغَل تفكيرهم، يَتَذَكَّر الناس فحوى الخُطَب لا أخطاء الخطباء، تذكَّر ذلك.
ثالثًا: اعدد نفسَك من العامَّة! إن أردتَ أن تتحرَّر من قلق الخطابة، فاعدد نفسك واحدًا من العامَّة في المسجد أراد أن ينفعَ الناس بكلمةٍ، فقام وتكلَّم، أما النظر إلى نفسِك كخطيبٍ وإمام؛ فسيملأ نفسك هيبةً وعظمة، وربما أفسد عليك الشيطانُ، ونفخ في صدرك بأنك قد أصبحتَ كالخطيب الفلاني، فتتكبَّر وتتغير، فلتتواضَع - أيها الخطيب - وسيرفعك الله، ويعينك ويُسدِّدك.
رابعًا: مخالطة الجمهور قبل الخطبة، خُذ بعض الوقت في الحديث مع الناس، وسؤالهم عن أحوالهم قبل ابتداء الخطبة بعشر دقائق، ولك في ذي النورين عثمان - رضي الله عنه وأرضاه - قدوةٌ حسنة؛ "أخرج ابن سعد عن موسى بن طلحة، قال: رأيتُ عثمان يخرج يوم الجمعة وعليه ثوبان أصفران، فيجلس على المنبر فيؤذِّن المؤذن، وهو يتحدَّث؛ يسأل الناس عن أسعارهم، وعن مرضاهم"؛ "تاريخ الخلفاء"؛ للسيوطي.
خامسًا: الاستعداد الجيد للخطبة، مع التركيز على نقطتَيْن أو ثلاث نقاطٍ رئيسة فقط، يُمكن وعْظُ الناس بها، فالخطبةُ الجيدةُ هي التي تكون قصيرةً ومفيدةً في الوقت نفسه.
سادسًا: الخطابة خارج المسجد؛ من خلال الاختطاب أمام جمهورٍ محبوب مختار من الأصدقاء المقرَّبين، أو الزوجة والأبناء، أو الإخوة في البيت؛ لتخفيف التوتُّر، والتعوُّد على المواجهة.
سابعًا: استعمال المرآة: جرِّب أن تختطب في غرفتك أمام مرآةٍ كبيرة؛ كونها تتيح فرصة جيدة للتواصل البصري، كما أنها تريك أخطاءك بحياديَّة؛ لتتجنبها خلال الخطبة في المسجد.
ثامنًا: تسجيل الصوت: استعن بمسجِّل الصوت في الحاسوب، أو بشريط التسجيل؛ لتسجيل صوتك خلال التدرُّب في غرفتك؛ كي تتمكَّن من التعرُّف على مواطن الضَّعْف والقوة في إلقائك.
تاسعًا: المحافَظة على التنفُّس العميق قبل الخطبة، وتعبئة العقل الباطن بالأفكار الإيجابيَّة.
عاشرًا: الاستعانة بالله - تعالى - وحُسْن التوكُّل عليه - سبحانه -: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، "قد دخل تحت قوله: ﴿ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ من المعاني ما يطول شرحُه مِن إيتاء ما يُرجى، وكفاية ما يخشى"؛ "كتاب الصناعتين"؛ للعسكري، والإلحاح على الله - تعالى - بدعاء الكليم موسى - عليه السلام -: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25 – 28].
حادي عشر: إذا أعلن عن دورة للتدريب على أصول الخطابة، فلا تتردد في التسجيل، ولعلك إن طالعتَ كتاب: "الشامل في فقه الخطيب والخطبة"؛ للشيخ د. سعود الشريم - تَظْفَرْ بخير.
التعليقات