المرأة الداعية والخطابة
حديثنا عن الخَطابة وأهميتِها في موكب الدعوة الإسلامية؛ لا يختص بالدعاة من الرجال فقط - وان كان هذا هو الأغلبُ الأعمُّ ، وإنما يتعدى إلى النساء الداعيات إلى الله كذلك.
فإننا بحاجة إلى المرأة المسلمة الداعية التي تجيد الخَطابة، وتوظفها في مجال الدعوة إلى الله، وخاصة مع بنات جنسها فتؤثر فيهن، وتحرك مشاعرهن وتستميلُهن نحو الالتزام بالدين، والتمسك بشرائعه وشعائره، وتزوّدهن بالعلم النافع الذي يعود عليهن وعلى الأمة بالخير والنفع، ولاسيما ما يتعلق بالتفقيه في أمور الدين.
وجدير بالذكر أن المرأة مكلفة - مثل الرجل - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب النصيحة والدعوة إلى الله، في حدود الوسع الطاقة.
قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، وقال جل شأنه: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].
وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الدين النصيحة » قلنا لمن؟ قال: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [1].
فهذه النصوص وأشباهها من القرآن والسنة لا تفرق بين الرجل والمرأة في أصل التكليف بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان الخطاب يأتي في الغالب بصيغة التذكير أو مخاطبة الرجال؛ فهذا من باب التغليب كما يقول العلماء، لكن لا يمنع دخول النساء فيه، كما هو الحال في كثير من التكليفات.
ولقد وعَتْ لنا ذاكرة التاريخ عددًا من النساء في الجاهلية والإسلام اشتهرن بالخَطابة والفصاحة، هذا فضلا عن النساء الكثيرات اللاتي اشتهرن بالعلم والفقه ورسوخ القدم في مجال العلوم الشرعية، في عصور الإسلام المختلفة.
وممن اشتهرن بالفصاحة والحكمة وسرعة الجواب هند بنت الخُسّ، وجُمعة بنت حابس، وقد قال في شأنهما الجاحظ: ومن أهل الدهاء والنكراء، ومن أهل اللَّسَن والَّلقَن، والجواب العجيب، والكلام الفصيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة: هند بنت الخُسّ وهي الزرقاء، وجُمعة بنت حابس، وقال ابن الأعرابي: يقال بنت الخُسّ وبنت الخُصّ، وبنت الخُسْفِ وهي الزرقاء، وقال يونس لا يقال إلا بنت الأخس، وقال أبو عمرو بن العلاء: داهيتا نساء العرب هند الزرقاء وعِنْز الزرقاء، وهي زرقاء اليمامة [2].
ومن النساء اللاتي كانت لهن خطب: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها [3]، كما كان من الخطيبات الشهيرات في معركة عليّ ومعاوية رضي الله عنهما: الزرقاء بنت قيس بن عديّ الهمدانية، وعكرشة بنت الأطرش، وأم الخير بنت حُرَيْش [4].
ومن العالمات الفقيهات الداعيات الآمرات بالمعروف والناهيات عن المنكر؛ فاطمة بنت عياش بن أبى الفتح البغدادية الحنبلية، وقد وُصِفت بأنها: «الواعظة الزاهدة العابدة، الشيخة، الفقيهة، العالمة، المسنِدة، المفتية، الخائفة، الخاشعة، الديِّنة، العفيفة، المتقنة، المحققة، المتفننة، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية [5].
ولقد كانت تتقن الفقه إتقانًا بالغًا، وكانت معاصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يتعجب منها ومن فهمها، ويبالغ في الثناء عليها، وكانت قوّالة بالحق، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، انتفع بها خلق كثير، وخاصة نساء أهل دمشق، لصدقها في وعظها، ثم تحولت إلى القاهرة، فحصل بها النفع، وعلا صيتُها، وتُوفِّيت ليلة عرفة سنة 714 ه- وقيل إنها جاوزت الثمانين [6].
ومنهن حَمدة بنت واثق بن علي الهيتية المولودة سنة 466 هـ، أقامت في المدينة المنورة وبغداد، وعقدت مجالس للوعظ والإرشاد، وكانت عالمة بالحديث والفقه [7].
ومن عالمات الدعوة الإسلامية وخطيباتها في عصرنا الحاضر الداعية المجاهدة الصابرة الأستاذة زينب الغزالي، أكرمها الله وغفر لها، ورحمها رحمة واسعة.
ولاشك أن الواقع يشهد بخلوّ الساحة الدعوية من النساء الخطيبات والعالمات المتفقهات، ماخلا النّزْرَ اليسيرَ، ولا يزال ميدان الدعوة الإسلامية يعاني فقرا ونقصًا من هذه النوعية.
وإن الحاجة إلى وجود الداعية الفصيحة بين النساء لَماسة، خاصة وأن أحزاب الباطل وتياراته المختلفةَ قد نجحت إلى حدٍّ ما في إعداد أصناف من النساء، اللاتي يُجِدْن عرض الباطل وتزيينه بزخرف من القول، وهؤلاء النسوةُ قد دُرِّبْن بعناية على التحدث بمهارة إلى قطاعات مختلفة من الناس، والتأثير فيهم بما يبثونه من دعوات وأفكار تحادُّ الله ورسوله.
وأصبحنا نرى للشيوعية نساءً يتحدثن بها وينشرنها.
وللعلمانية داعيات يبشّرن بها ويروّجنها.
وللتحلّل والفساد الخلقي خطيبات سوء يقوضن بنيان الفضيلة، ويطمسن معالمها، وهكذا.
ولا يغيب عن الذهن - هنا - أن نِحْلةَ البابيةِ الهدامةَ التي زعم أصحابها أنها ناسخة للإسلام ورافعة لأحكامه؛ هذه النِّحلة كان أكبر الدعاة إليها امرأة، هي « قرة العين » فكانت تخطب وتحاور وتجادل وتناظر، مبشرة بالدين الجديد، وهذا ما أكده المؤرخون.
فيقول السير « فرانس يونج »: وما كان لأحد تأثير ونفوذ في البابيين، مثلما كان لشاعرة قزوين قرةِ العين الطاهرة.
وقال إدوارد براون مؤرخهم وداعيتهم: إن الشخصية الجذابة الخلابة لأنظارنا، غير الباب الشيرازي، هي الجميلة الذكية التي وُهِبَت حظًّا وافرًا من الحسن والذكاء والفطنة، قرة العين التي كانت شاعرة وعالمة وخطيبة [8].
ألا فلنتنبه إلى دور الخَطابة الخطير في ساحة الدعوة إلى الله، ولْنعطِها ما هي جديرة به من الاهتمام، فقهاً وتطبيقاً، ولْنجعل منها صوت رشادٍ وهدايةٍ إلي الحق، وسبيلاً إلى الإصلاح، وقوةً تَكِرّ على الباطل، تُوقِف مَدَّه وانتشاره، وتُقوِّض دعائمه وبنيانه، والله المستعان، وعليه التكلان.
..........................................
[1]أخرجه مسلم في ك الإيمان، ب بيان أن الدين النصيحة. مسلم بشرح النووي 2 /36 - 37 رقم 55، وأبو داود في ك الأدب، ب في النصيحة رقم 4944، والترمذي في ك البر، ب ما جاء في النصيحة رقم 1932 من حديث أبي هريرة. وقال: حسن صحيح. والنسائي في ك البيعة. ب النصيحة للإمام 7 /156- 157، والدارمي في ك الرقاق. ب الدين النصيحة. رقم 2754 من حديث ابن عمر.
[2] البيان والتبيين 1 /312 - 313.
[3] انظر خطبة لأم المؤمنين عائشة يومَ الجمل في: العقد الفريد، للفقيه أحمد بن عبد ربه الأندلسي 4/213 - 214 تحقيق محمد سعيد العريان. المكتبة التجارية الكبرى. القاهرة ط الأولى 1359هـ 1940م.
[4] راجع: الخَطابة وإعداد الخطيب. د/عبد الجليل شلبي ص 312 - 317. دار الشروق. القاهرة. ط الثالثة 1408 هـ 1987 م.
[5] فقيهات عالمات. محمد خير يوسف ص 99. دار طويق. الرياض. ط الأولى 1414هـ 1994م، وفيه مراجعه التي أخذ عنها.
[6] السابق ص 100 بتصرف واختصار.
[7] السابق، ص 39 بتصرف. نقلا عن أعلام النساء 1 /294.
[8] قراءة في وثائق البهائية، د /عائشة عبد الرحمن. ص 44، مركز الأهرام للترجمة والنشر - القاهرة. ط الأولى 1406هـ 1986م.
التعليقات