الخطبة من الورقة، وكيف تكون مؤثرة؟
لَم يُعهَدْ عن الأوائل - خُلفاء أم خُطباء - أنَّهم كانوا يَعِظون الناس من خلال الورقة؛ لأنَّهم أهل فصاحة وبيان، وأنَّ البلاغة تجرِي على لسانهم جريانَ الماء في السَّيْل، فيعبِّرون بسُهولة عمَّا يجول في نفوسهم، ويَجيش في صدورهم، ويدور ويَحدُث في واقعهم بدون أدنى كُلْفة أو تصنُّع، ولم أسمع - حسب علمي - أنَّ أحدًا من الخُطباء ارْتقى المنبر وألْقى خُطْبته من خلال الورقة، وإنَّما حدَث ذلك في عهود متأخِّرة، حين انحسرتِ الخطب في دواوين - خُطب جاهزة - بعد أن كانتْ قائمةً على الارتجال والبديهة، وما كان يتمتَّع به الخطباء مِن أسلوب بياني رائِق مِن خلال بيانهم لأصول الدِّين، وقواعد الشريعة.
ولا يَعْني استغناءُ الأوائل عن الخُطبة من الورقة عدمَ استعدادهم وإعدادهم للموضوع ومعالِمه الرئيسة، بل الأدلَّة تُشيرُ إلى اهتمامهم بتحضيرها، ولو قُبَيل ارتقائهم المنبر، ومِن ذلك: قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "وقد كنت قد زورتُ في نفسي مقالة"[1]، وهذا الاهتمام ينبُع مِن حبِّهم للدِّين، وشعورهم بالمسؤولية أمامَ ربهم، وقد دوَّن التاريخُ الإسلامي عن خلفائنا وعلمائنا وقادتنا روائعَ الخُطب المِنْبريَّة، وما تضمنتْه من أسلوب بيانيٍّ مؤثِّر يستنهض الهِمم، ويقوِّي العزائم، ويبعث على الرُّوح والقوَّة المعنويَّة، والالْتزام بمعاني الدِّين الإسلامي، ومِن ذلك: الخُطُب التي يُلقيها قادةُ الفتح الإسلامي، وما لها من التأثير في شَحْذ الهِمم، والاستبسال في سبيل الدِّفاع عن الإسلام وحِياضه.
الحاجة إلى الخطبة من الورقة:
في رأيي أنَّ الحاجة دَعتْ للخُطبة من الورقة في زماننا لأسباب؛ منها:
1/الدَّواعي الاحترازية في بعض البلدان؛ وذلك لئلاَّ يخرجَ الخطيب عن مضمون الخُطبة، وإطارها العام، فينخرط الخطيبُ في الكلام عن السياسة، وما لا فائدة فيه، مما يجرُّ الفرْد والمجتمع إلى ما لا يُحمد عُقباه، وهو مما يتوجَّب على الخطيب الالْتزام به مِن باب طاعةِ أولي الأمْر، أو الإطالة غير المحمودة، والاستطراد في مواضيع لا صلةَ لها بصُلب الحَدَث، وعلى الرَّغْم من ذلك، فالخُطب المكتوبة الموجَّهة والمعدَّة مِن وزارة الأوقاف في تِلْكم البلاد فيها خيرٌ كثير، ويستطيع الخطيبُ الحريص على دِينه وهدايةِ الناس التأثير والتوجيه، ومِن خلال الورقة، وسيأتي بيانه - إنْ شاء الله.
2/إيثار بعضِ الخُطباء الخُطبة من الورقة عَلَى الارتجال، والمعلوم أنَّ الخُطباء يتفاوتون مِن ناحية الاستعداد والتحضير والتأثير؛ فالبعضُ منهم كالسيل الجارِف في أسلوبه وبيانه، ووضوح مقْصدِه، وقوَّة حافظته[2]، وله قوَّةٌ عجيبة في استحضار المعاني في قوالبَ من الألفاظ البلاغية والبيانية، دون أن يتلعثم أو يتردَّد، وهو بالكاد يَبْلع رِيقَه؛ ليستمرَّ في وعْظه وإرْشاده، والبعض الآخَر يحتاج للورقة؛ لضبط ألفاظ الخُطبة، ولتكون على قواعدِ اللغة؛ حتى لا يشطح ويَقَع في الخطأ، ولا يخرج عن مضمون ما يرْمي إليه، وينْسَى موضوعَ الخطبة، أو يُطيل في وعْظه، وقد رأينا علماءَ ومفكِّرين لا يُحبِّذون الارتجالية في الخُطبة، رغمَ علمهم الواسع، ورسوخِهم في الدِّين[3]، وليس ذلك بعيبٍ ما دام المقصودُ هو إيصالَ الفِكرة الحسنة إلى الناس، ودعوتهم إلى الاستقامة على المنهج السليم.
كيف تكون الخُطبة من الورقة مؤثِّرة؟
في مِثْل تلك الأحوال التي تُفرَض الخُطبة الورقية المعدَّة سلفًا على الخُطباء، فالبعض منهم يتشاءم منها، ويَعدُّ ذلك نقصًا في علمه وقدرته البيانية، وقد يكون ذلك صحيحًا إذا كانت مواضيعها لا تُلائم حالَ العصر، وهو يرَى أنَّ مرضًا ما أو حالةً اجتماعيَّة تنتشر في محيطه ومجتمعه، فلا يُمكنه - والحال تلك - أن يعبِّر عما يجول في خاطِره، ولكنَّ هناك أساليبَ في مثل تلك الأحوال يُمكن للخطيب الماهِر الناجح أن يستغلَّها في صالحه، ويجعل خُطبتَه مؤثِّرة، ويوجه الحاضرين لِمَا يريد من المعاني السامية، ويملك بها ناصيةَ الموقف، ومنها:
أولاً: الإخلاص، ولا شكَّ أنَّ الإخلاص له دورٌ عظيم في التأثير، وحمْل المستمعين على الالْتزام بمعاني الإسلام، ولو كان المتلوُّ هو آيةً من كتاب الله - تعالى - وقد كانتْ بعض خُطبُ ومواعظ الخلفاء ما هي إلا آياتٌ من كتاب الله تعالى، لكن اقترنَ بها الإخلاصُ والصِّدق، والعمل بالمضمون، فأثمرَتْ وأينعت خُطبُهم ومواعظُهم.
ثانيًا: قراءة الخُطبة بشكل جيِّد، وضبط ألفاظها من ناحية الشَّكْل؛ لتتميز كلُّ كلمة عن الأخرى؛ لتكونَ اللغة سليمة من الأخطاء، والتأكيد على تلاوة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما يوافِق قواعدَ اللغة، وأحكام التجويد، ممَّا له أبلغ الأثَر في انتفاع المدعوين، وينبغي على الخَطيب الصادق ألاَّ يَستهينَ بذلك، فرُبَّ آيةٍ من كتاب الله أوجبتْ هدايةَ خلْق من الناس.
ثالثًا: هندسة الصَّوْت؛ أي: تكون نبراتُ صوته وَفقَ معاني الخُطبة، فيرفع من نبرة صوته عندما يُريد أن يحذِّر من عقوبة الله ومقْته، ويخفض عندَ الحاجة، فيكون إيقاعُ صوته كالرَّسم البياني؛ لأجْل أن يستوعبَ الحاضرون بيانه، وهم بالطبع ليسوا على مستوى واحدٍ من الاستيعاب والفَهْم، بخلاف ما لو كانت نبرةُ صوته على وتيرةٍ واحدة، فستملُّه الأسماع، وتمجُّ خُطبته النفوس، ويكون حاله كمَن يقرأ جريدة، أو مقالاً دون أن يحرِّك شعورًا، أو يلهب حماسًا.
رابعًا: توزيع النظر ما بيْن الورقة والجمهور، ويتمُّ ذلك باعتدال وتوازُن، ويعتمد ذلك على الإعداد الجيِّد، والقراءة للخطبة قبلَ ارْتقاء المنبر، ومِن الخطأ أن يُديمَ الخطيب نظرَه في الورقة[4]، وينسى أنَّه يخاطب بشرًا لهم أحاسيسُ ومشاعر، فلا يليق به أن يُعطيَهم ظهرَه، ويولِّيَهم دُبرَه، وهو يعظهم ويوجههم، وكذلك التفاعُل مع معاني الخُطبة له الأثرُ البالغ في جعْل الخطبة مؤثرةً في النفوس.
خامسًا: التمهُّل في قراءة الخُطبة، وعدم الإسراع في تلاوتها؛ مِن أجل أن يستوعبَ الحاضرون معانيَها، وليتجنَّبِ الخطيب كذلك الوقوعَ في الخطأ في ألفاظها، ولو كانتْ من الورقة.
والمقصود: أنَّ الخطيب والواعظ داعٍ إلى الله، يحمل في قلْبه همَّ الدعوة، وهو حريصٌ على استغلال كلِّ فرصة سانِحة من أجْل الإصلاح والهِداية، حتى ولو كانتْ كلمة واحدة، فكيف إذا كانت خُطبة مكتوبة، تتضمن آياتٍ كريمة، وأحاديثَ شريفة، قُصارى ما فيها أنها قد لا تتلاءم مع الظَّرف؟![5]، فليكن فَطِنًا ماهرًا في اقتناصِ الفُرص، ولو كان التركيزُ على تلاوة الآيات والأحاديث فحسبُ، وبشكل مؤثِّر وإيماني.
وهذا نموذجٌ من خُطبة مكتوبة، وتوجيهات هامَّة للخطيب في كيفية إلْقائها وتلاوتها، وليس المقصودُ هو التقييد بها، وإنَّما لينسجَ الخطيبُ على منوالها، ويتعلَّم الطريقة الصحيحة في إلْقائها.
المقدمة
الحمدُ لله الذي لم يتَّخذْ ولدًا، ولم يكن له شريكٌ في المُلْك، المستحقِّ لأنواع العبادة دون غيره، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ هو وحْده لا شريكَ له، جبَّارُ السموات والأرض.
وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمدًا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كلِّ مَن سار على نهْجه، واستنَّ بسُنَّته، واقتفى أثرَه إلى يوم الدِّين[6].
أما بعدُ:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72][7].
أيها المسلمون:
إنَّ يومَ القيامة هَولُه على الناس شَديد، فمِنهم شقيٌّ وسعيد؛ أمَّا الشقي فإلى نارٍ حرُّها شديد، وقعرُها بعيد، ومقامِعها حديد، يومَ يقوم الناس لربِّ العالمين، قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَطوي الله - عزَّ وجلَّ - السمواتِ يومَ القِيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبِّرون؟ ثم يَطوي الأرْض بشِماله، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبِّرون؟))، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27] يُفني الخَلْق جميعًا، فينادي قائلاً: لِمَن الملك اليوم؟ فيُجيب نفسَه المقدَّسة بقوله: ﴿ لِلَّهِ الوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]))[8]، ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [ الزمر: 68].
يقِف الجميعُ في خشوع تامٍّ، وذلٍّ وخضوع، لا يتكلَّمون إلا مَن أذِن له الرحمن وقال صوابًا، يقِف الكلُّ في خشوع، يقف الجميع في ذلٍّ وخضوع، وتُدنَى الشمس يوم القيامة من رؤوس العِباد، فيبلغ الناس من الغمِّ والكَرْب ما لا يُطيقون ولا يحتملون، وبعد شفاعة نبيِّنا محمَّد صاحب الشفاعة العُظْمى يقضي الله بيْن الخلائق، ثم يأمر الله أن يُؤتَى بجهنمَ، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُؤتَى بجهنمَ يوم القيامة لها سبعون ألْف زِمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها))، يؤتَى بها تتغيَّظ، يؤتى بها تتلظَّى، يؤتَى بها تتقطع من الغيْظ على العُصاة والمشركين، تأتي وهي تنطِق، وهَلْ كل نار الدنيا مجتمعة إلا وهي جزءٌ منها، الله أكبر! اللهمَّ إنَّا نستجير بك من النار[9].
لقد أُوقِد عليها ألف عام حتى احمرَّت، وأُوقد عليها ألف عام حتَّى ابيضَّتْ، وألف عام حتى اسودتْ، فهي سوداءُ مظلِمة، وكان ابن عمر يقول: "أكثِروا ذِكْرَ النار، أكثروا ذِكْرَ النار، فإنَّ قعرها بعيد، وإنَّ حرَّها شديد، وإنَّ مقامعها حديد".
أكْثِروا ذِكْر النار، يا مَن اشتغلتم بالمسلسلات والأفلام، يا مَن انغمستم في معصية الله - عزَّ وجلَّ.
أكْثروا ذِكْرَ النار، يا مَن ظلمتم خلْقَ الله، يا مَن جعلتم مناصبَكم وقوَّتَكم لظلم العباد، يا من تحدَّيْتم الله - جلَّ وعلاَ - يا مَن بارزتم الله بالمعاصِي[10].
وفي الحديث الصحيح الذي أخْرَجه مسلم من حديث النُّعمان بن بشير: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أهونَ أهْل النار عذابًا يومَ القيامة: رجلٌ يَوضَع في أخمص قدميه حَجران، يَغلِي منهما دماغُه، كما يغلي المِرْجل، ما يرَى أنَّ أحدًا أشدُّ منه عذابًا، وإنَّه لأهونُهم عذابًا)).
أيها المسلمون:
اتَّقوا النار، فإنَّ قعرَها بعيد، قال الله - تعالى - في طعام أهل النار: ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [المزمل: 13]، وقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّ قطرةً من الزقُّوم قُطرَت في دار الدنيا لأفسدتْ على أهل الدنيا معايشَهم، فكيف بمَن يكون طعامه؟))!.
وقال - تعالى - عن شراب أهل النار: ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾؛ أي: يُسقَى من ماء صديد، شديد النتانة والكثافة، فيتجرعه ولا يكاد يبتلِعُه من شدَّة نتانته وكثافته.
وعن عذاب أهْل النار، يقول محمَّد بن كعب: لأهلِ النار خمسُ دعوات يُجيبهم الله - عزَّ وجلَّ - في أربعة، فإذا كانتِ الخامسة لم يتكلَّموا بعدَها أبدًا، يقولون: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [غافر: 11]، فيقول الله - تعالى - مجيبًا لهم: ﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ [غافر: 12]، ثم يقولون: ﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ﴾ [السجدة: 12]، فيُجيبهم الله - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾ [إبراهيم: 44]، فيقولون: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل ﴾ [فاطر: 37]، فيُجيبهم الله - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 37]، ثم يقولون: ﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون:107]، فيُجيبهم الله - تعالى -: ﴿ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108]، فلا يتكلَّمون فيها بعدَها أبدًا، وذلك غاية شدَّة العذاب، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُؤتَى بالموْت يومَ القِيامة كأنَّه كبشٌ أملح، فيُذبح بيْن الجنة والنار، ويُقال: يأهل الجَنَّة خلودٌ بلا موْت، ويا أهلَ النار خلودٌ بلا موت))، وعن عبدالله بن قيس - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أهل النار ليبكون حتى لو أُجريتِ السفن في دموعهم لجَرَتْ، وإنهم ليبكون الدم - يعني: مكان الدُّموع))، فكما أنَّ الجنة تَشْتاق لأهلها مِن المؤمنين الصادقين، فإنَّ النار تَشْتاق، بل تطلب المزيدَ من أهلها من المجرِمين والظالمين والكافرين، اللهمَّ أجِرْنا من النار، اللهمَّ أجِرْنا من النار، وأدخِلْنا الجنة يا غفَّار.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما استجار عبدٌ من النار سبعَ مرَّات إلا قالت النار: يا ربِّ، إنَّ عبدك فلانًا استجار منِّي فأجِرْه، ولا سأل عبدٌ الجنةَ سبعَ مرَّات إلا قالتِ الجنة: يا ربِّ إن عبدَك فلانًا سألني فأدْخِلْه الجنة)).
فيا أيُّها اللاهي، ويا أيها الساهي، يا مَن غرتْك المعاصي، وشغَلك الشيطان عن طاعة الله، احذرْ، فإنَّها نار تلظَّى:
دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ فَاتَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ♦♦♦ وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِهَا يَا مُذْنِبُ [11]
قال ابن عيينة: قال إبراهيمُ التيمي: مثلتُ نفسي في الجنة، آكُل مِن ثِمارها، وأُعانِق أبكارَها، ثم مثلتُ نفسي في النار، آكُل من زقُّومها، وأشرَب من صديدها، وأعالج سلاسلَها وأغلالَها، فقلت لنفسي: أيَّ شيءٍ تريدين؟ قالت: أريد أن أرْجِعَ إلى الدنيا، فأعمل صالحًا، قال: فأنت في الأُمنية فاعْمَلي، ونحن واللهِ في الأمنية، فيا مَن قصَّرْتَ في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - اعملْ للآخِرة قبل أن تطلبَ العودة، ولن تستطيعَ، فكلُّ مَن قصَّر في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - في الدنيا يطلُب العودة إليها، كلَّما عاين أمورَ الآخرة، وترَك دار العمل إلى دار الحِساب، أسأل الله العظيم أن يختمَ لنا بالإيمان، وأن يُبعِدَنا عن النِّيران، وأن يُدخِلَنا جنَّةَ الرحيم الرحمن، إنَّه وليُّ ذلك، والقادر عليه[12].
وصلَّى الله على محمَّد، وآله وصحْبه أجمعين[13].
.............
[1] صحيح البخاري رقم (6830).
[2] ومنهم على سبيل المثال: الداعية علي القَرني، وعائض القرني - حفظهما الله جميعًا.
[3] كان المفكِّر والداعية الإسلامي إبراهيم النعمة يُحافظ على الالتزام بالورقة والخُطبة مِن خلالها رغمَ علمه وفقهه.
[4] بإمكان الخطيب أن يتخذَ بعض التدابير في ذلك، كأنْ يُمسك الورقة باليَسار، ويُشير - يعبِّر بالإشارة عن المعاني - باليمين، أو يضع الخُطبة على موضع ثابِت ويُقلِّبها بيده.
[5] من المعلوم أنَّ الخُطبة المعدَّة مِن قِبل وزارة الأوقاف يُشرِف عليها علماء أكْفَاء، وفي بعض البلاد الإسلامية يتمُّ اختيار الموضوع على خطباء المساجد، وتُعطَى الحرية للخطيب في التعبير والأسلوب المناسِب.
[6] عادةً ما يكون الدخول إلى الموضوع من خلال مقدِّمة يتمُّ عرْضها وتلاوتها بشكل تدريجي وهادئ، وهو أفضل من الدخول إلى الموضوع بشكلٍ مفاجِئ، ونبرة قوية.
[7] يُستحسَن تلاوة الآية بتمهُّل وإعادة قراءتِها مرتين إن تطلَّب الأمر؛ لتذكير المستمِع بالموضوع الذي سيتمُّ طرحُه ومعالجته مِن خلال الآية.
[8] يُستحسن في مِثل تلك العبارات رفْعُ الصوت للتعبير عن معاني الحديث الشريف، وبيان أنَّ المُلْك زائل وفانٍ، إلا مُلْك الله - عزَّ وجلَّ - ولو صَدق الخطيب، لكان له من التأثير ما يفوق تأثيرَ المدافِع والدبَّابات، ولكن نجد بعضَ الخطباء - سامحهم الله - يقولها؛ ولكنَّ قلبَه وحبَّه لملذَّات الدنيا، وحِرْصه أعظم من حِرْص مَن يَعِظهم!
[9] في الأدعية يُستحسن أن تكونَ نبرة الخطيب فيها تذلُّلٌ، وطلب وشكْوى للخالق، ومِن أعماق القلب، وألا يكون مرورُه على الدعاء مرورَ السَّاهي الغافل.
[10] يَستحضر الواعظ قبل كل شيء نفسَه التي بين جنبيه؛ لأنها أوْلى بالتأنيب، ثم مَن يدعوهم، ويُستحسن في تلك المواضع رفْعُ الصوت، فبعض النفوس والقلوب لا ينفع معها إلا الماءُ الحار لغَسْل أدرانها، وإزالة أوساخها، إضافةً إلى حمْل المدعوِّ على الخُشوع والتوبة والإنابة.
[11] ابتداء من عبارة: "أيها المسلمون، اتَّقوا النار، فإنَّ قعْرها بعيد" إلى قُبَيل خاتمة الخطبة تكون نبراتُ الصوت كالخطِّ البياني، مرةً يرفع ومرَّة يخفض حسبَ الحال والمعنى.
[12] هذا آخِر الكلام في الخُطبة، وينبغي على الخطيب أن يُحسِن وضْع الدواء على الجرْح قبل أن يغادر المنبر، فتكون عباراتُه لطيفةً، تحمل في مضمونها الدِّفْء والحنان والعطف لِمَن يدعوهم، لا التشفِّي والانتقام، فهو طبيبٌ للقلوب؛ يداوي جَرْحاهم بحِكمة ورحمة.
[13] الخُطبة مُقتبَسة من خُطبة الشيخ محمد حسان في وصْف النار، وقد قمتُ باختصارها لطولها، والشيخ خيرُ مَن يمثِّل الخطيبَ الناجح في أسلوبه وبيانه وعلْمه - وفَّقه الله لنفع الأمَّة.
التعليقات