خطيب في زمن الوباء
الخطيب واحد من البشر، لكن الفرق بينه وبين البشر أنه قدوة يُنظر إليه ويُتعلم منه ويُقتدى به... وينتظر الناس منه ما لا ينتظرون من غيره، ويتوقعون منه ما لا يتوقعون من غيره... لذا فإن مسئوليته أمام الله ثم أمام الناس عظيمة؛ لأن الناس -البسطاء من الناس- ترى في ردود فعله على كل حادثة تجسيدًا للدين وموقفه من هذه الحادثة، فهو عندهم يُمثِّل دين الإسلام! وكل أخطائه يلصقها "الجهلاء" بمنهج الإسلام ولا يقصرونها على خلل في سلوك الخطيب الشخصي.
والآن يمر الناس بأزمة ما مرت بهم طوال أعمارهم؛ فقد صاروا يخافون من الهواء الذي يستنشقونه ويرتدون "واقي الوجه" كي لا يؤذيهم، وصاروا يخشون كل شيء يلمسهم أو يلمسونه فكأنهم السامري إذ يقول: (لَا مِسَاسَ)[طه: 97]، وصاروا يتوقعون الشر لا يدرون من أين مكان يأتيهم... لقد صبَّحهم هذا الوباء المميت فعمَّهم الفزع والهلع والتردد والتخوف والتخبط والتشوف... وهم يرون فيك -أيها الخطيب- بعد الله، قارب النجاة من بحر الضياع...
وأرى أنه من أوجب الواجبات على كل خطيب وداعية في ظل هذا الوباء الذي نعيشه أن يتعامل مع الناس على أساس: "استراتيجية الوباء الدعوية"، والتي سألخص -بإذن الله- أركانها في البنود التالية، مُجْمِلًا لا مُفَصِّلًا.
البند الأول: العمل على زيادة الإيمان بالقضاء والقدر:
فإذا رأيت فزع الناس من الموت، ورأيت حرصهم على تخزين ما لا يحتاجون من الأطعمة والأدوية، فعلِّمهم أن العمر محدود، والرزق معدود، والأقدار مسطورة، والوباء لن يقصِّر عمرًا، ولن يموت أحدٌ إلا في أجله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)[آل عمران: 145]، "يعني: مؤقتًا، له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر"([1]).
وعلِّمهم أنه لن يفوت الإنسانَ شيءٌ من رزقه، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نفث روح القدس في روعي أن نفسًا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها"([2]).
ولن يصيب الإنسان إلا ما كتب له، بل الأقدار كلها مبرمة مكتوبة قبل خلق السموات والأرض، فعند مسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"([3]).
فينبغي للخطيب أن يؤكد ويؤصل وينمي تلك البديهيات العقدية وغيرها في قلوب مستمعيه، خاصة في ظل هذه الأزمة التي نحياها.
البند الثاني: أن يكون قدوة في الأخذ بالأسباب:
فمع تمام وكمال إيمان النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[التوبة: 51]، فلما سأله الأعرابي عن ناقته: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ أجابه -صلى الله عليه وسلم-: "اعقلها وتوكل"([4])، فخذ بالأسباب ثم توكل على الله -عز وجل-.
وهل نحتاج أن نذكِّر أن الله كان قادرًا -ولا يزال- أن ينقل نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة من مكة للمدينة في طرفة عين أو أقل، ومع ذلك أمره أن يتجه جنوبًا عكس اتجاه المدينة، وأن يتخذ دليلًا وأن يجهِّز راحلة ويتخذ زادًا... وكان الله قادرًا -ولا يزال- أن ينصر المسلمين على أعدائهم من غير قطرة دم تنزف منهم، ولكنهم -عز وجل- بحكمته البالغة فرض عليهم الجهاد الذي تزهق فيه أرواحهم...
وحنى لا يظنن من قل علمه أن ترك الأسباب من الإيمان أو أن الأخذ بها ينافي التوكل على الله، كن أنت -أخي الخطيب- قدوة له؛ فالبس "الكمامة" على وجهك في مواضع الحاجة إليها، وتباعد بجسدك -لا بقلبك وبشاشتك- عن الجلساء قدر الإمكان، واستخدم المعقمات، وخذ بكل سبب طبي ممكن.
وقبل ذلك، وأهم من ذلك خذ بالسبب الذي لا يخيب؛ فالتجئ إلى القوي العزيز وحافظ على الأذكار التي يحفظ الله بها الإنسان من الشر... فإن فعلت اقتدوا بكل وقلدوك، فصرت قائدًا لهم إلى الصواب.
البند الثالث: بث الطمأنينة والتفاؤل:
وهذا أصبح "فرض الوقت" في أزمتنا هذه؛ التي شاع فيها التوجس والتخوف وسوء الظن بالله في قلوب ضعاف الإيمان! قدوتك في ذلك هو الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ بشَّرهم بالأمان التام وهم تحت نير الخوف والتعذيب في مكة: "والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه"([5])... وإذ بشَّرهم بفتح الأمصار وهم محاصرون بالأحزاب في الخندق لا يأمن أحدهم أن يذهب إلى الخلاء... وإذ بشَّرهم بانتشار الإسلام وسيادته على الأرض وهم قليل مستضعفون: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل , ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين"([6])...
ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج
فليكن شعارك دائمًا: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 6]، وأشع روح التفاؤل، وكن مطمئنًا لأفعال الله وأقداره راضيًا عنها، يستمد الناس منك الطمأنينة والأمان والرضا...
البند الرابع: إضاءة المشاعل والبصائر:
ومن تلك المشاعل، مِشعل: الملك لله وحده: فلقد تهاوت أساطير البشر، وسقطت "القوى العظمى" في براثن جرثومة لا تراها العيون، واتضح جليًا قدرة الخالق وعجز المخلوق، وصار واضحًا خطأ من يستجدون الخير من الغرب الكافر أو الشرق الملحد ويسعون في رضاهم.
ومِشعل: الله الضار النافع وحده: فالقرآن يقرر: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام: 17]، ويكرر: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)[يونس: 107]، فالجرثومة لا تضر ولا تنفع ولا تميت ولا تُمرِض... بل الأمر كله لله وحده.
ومِشعل: العدوى لا تتنقل بنفسها، بل بإذن ربها: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا عدوى"([7])، أي: لا عدوى تؤثر بذاتها وطبعها وإنما التأثير بتقدير الله -عز وجل-([8])... وغيرها من البصائر والمشاعل التي تراها ضرورية في هذه الأزمة.
البند الخامس: إيثار الأشعريين لا أثرة المتوجسين:
فلما قدِم الوباء رأيت جل الناس يتسارعون إلى تخزين الطعام خوفًا على نفاذ الأقوات، ويهرعون إلى اكتناز الأدوية تحسبًا للحاجة إليها، وهذا مناقض تمامًا لمنهج الأشعريين في الأزمات الذي أثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"([9]).
ففي زمن الوباء ينبغي للخطيب نشر روح التكافل والمواساة، وحث الناس على تقديم زكاة أموالهم وتعجيلها، والتصدق على المعوزين والمحرومين، ومساعدة المكروبين والضعفاء...
البند السادس: التصبير بعظم الأجر:
أو قل: "تزيين عاقبة الصبر على الوباء"؛ ففي هذا الوباء ثلاثة من الفائزين، وخاسر واحد:
فمن صبر على تلك المرحلة حتى مرت ولم يصيبه منها شر، فقد تعبد لله بعبادة مهجورة هي عبادة: "انتظار الفرج"، والتي يقول عنها ابن القيم: "انتظار روح الفرج؛ يعني راحته ونسيمه ولذته... يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل"([10]).
ومن مرض به ثم عافاه الله وشفاه، فهو كفارة لذنوبه وتمحيصًا وتطهيرًا له: "ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"([11])، وهو كذلك فتح لصفحة جديدة نقية مع الله، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: إذا ابتليت عبدي المؤمن، ولم يشكني إلى عواده أطلقته من أساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل"([12]).
ومن مات بالوباء فهو شهيد: "الطاعون شهادة لكل مسلم"([13]).
وأما الخاسر فهو من جزع وظن في الله السوء -والعياذ بالله-، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"([14])...
فحثهم -أخي الخطيب- أن يكونوا من الفائزين، وحصِّنهم لئلا ينتكسوا مع الخاسرين.
البند السابع: تحويل المحنة إلى منحة:
ففي جوف هذا البلاء من المنح ما يربو على ما فيه من المحن، ومن ذلك:
المنحة الأولى: تذكير الناس بالآخرة: وبالموت والقبر وجمع الناس للحساب وميزان أعمالهم ومشهد الإتيان بجهنم "لها سبعون ألف زمام"... ومشاهد أخرى كادت أن تُنسى في خضم ومشاعل الحياة الدنيا...
وتزهيدهم في الدنيا التي وصف الله حالنا معها قائلًا: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17]، ولفت نظرهم أنه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[القصص: 60].
المنحة الثانية: إلى الله الملجأ والمعاذ والملاذ: الوباء في الهواء وعلى الأسطح ومحمول على الأيدي والأنفاس... فلن يجيرك منه إلا الله وحده... بل في داخل الإنسان آلاف من الجراثيم وفيروسات الأمراض، لكن الله يعين عليها جهاز المناعة في الجسم فيكبحها أو يحيِّدها أو يقتلها، ولو شاء الله -تعالى- لأذن لها فأصابته... وفي الجسد أحماض وقلويات وتفاعلات كيميائية وتوازنات بيولوجية استقرارها ضروري لاستقرار صحة الإنسان، ولو شاء الله لأمرها فزاد شيء منها أو نقص فاعتلت الصحة وظهر المرض...
وكم من حامل لفيروس كورونا ما ظهرت عليه أعراضه ولا أحس به، حتى قال الأطباء أن أكثر من 80% ممن يصابون بهذا الفيروس يُشفَون بغير علاج...
المنحة الثالثة: تحويل العزل الصحي إلى خلوة مع الله، وفرصة لتقويم مسار الحياة وإعادة الحسابات، تمامًا كما فعلها ابن تيمية -رحمه الله- في سجنه في القلعة، فينقل عنه تلميذه ابن القيم قوله: "وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"([15]).
البند الثامن: تعمد نقل المرض، أو عدم التحرز من نقله خطيئة:
فأما المتعمد لنقل المرض لغيره فتسبب ذلك في موت المنقول إليه المرض به، فمن العلماء من قال أنه قاتل عمدًا يقتص منه، وإن كان يعلم أنه حامل للفيروس ولم يتحاش عن مخالطة الناس فنقل إليهم العدوى أو لم ينقل، فهو ذنب عظيم وإيذاء للمسلمين، يحاسبه الله عليه... كما يجوز لولي الأمر تعزيره على ذلك... فيحرم على من علم إصابته بمرض معدٍ أن يخالط الناس مع عدم اتخاذ الوسائل الكافية لعدم نقل العدوى إليهم، وتغلظ الحرمة والإثم إن تعمد نقله إليهم.
ومهمة الخطيب هنا: تخويف المصابين من التهاون في الاختلاط بالمسلمين، وتوجيههم بالأمر النبوي: "لا يوردن ممرض على مصح"([16]).
...............................
([1]) تفسير الخازن (1/305)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
([2]) رواه الطبراني في الكبير (7694)، وأبو نعيم في الحلية (10/26) دار الكتاب العربي - بيروت، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 2085).
([3]) رواه مسلم (2653).
([4]) رواه الترمذي (2517)، والبيهقي في الشعب (1161)، وحسنه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي: 2517).
([5]) رواه البخاري (3612).
([6]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (18619)، والحاكم في مستدركه (8326)، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (3).
([7]) رواه البخاري (5717)، ومسلم (2220).
([8]) ينظر: تعليق مصطفى البغا على صحيح البخاري تحت الحديث رقم: (5707).
([9]) رواه البخاري (2486)، ومسلم (2500).
([10]) مدارج السالكين، لابن القيم (2/165)، ط: دار الكتاب العربي - بيروت.
([11]) رواه البخاري (5641)، ومسلم (2573).
([12]) الحاكم في مستدركه (1290)، والبيهقي في الشعب (9473)، وحسنه الألباني لغيره (3431).
([13]) رواه البخاري (2830)، ومسلم (1916).
([14]) رواه ابن ماجه (4031)، والبيهقي في الشعب (9325)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 146).
([15]) الوابل الصيب لابن القيم (ص: 48)، ط: دار الحديث - القاهرة.
([16]) البخاري (5771)، ومسلم (2221).
التعليقات