فتح المسلمين لحمص
بعد انتصار المسلمين، وفتح دمشق مكث المسلمون في دمشق فترة الشتاء، يستريحون ويعدون أنفسهم وجيوشهم، حتى انقضى فصل الشتاء، فقرروا التوجه إلى حمص، وهي القوة الكبرى التالية لدمشق، بعد أن غدا كل ما هو جنوبيَّ دمشق إسلاميًّا، باستثناء بيت المقدس، والحصون الساحلية (عكا، وحيفا(.
والطريق من دمشق إلى حمص تمتد نحو 225 كلم، ولها طريقان: أحدهما (صحراوي) على حدود صحراء السماوة (بين الشام والعراق)، والآخر داخلي، يمر من خلال بعلبك، ويقع بين سلسلتي جبال لبنان الشاهقتين، وهو الذي هرب منه من قبلُ وردان عندما اتجه من حمص إلى دمشق، ذاهبًا إلى أجنادين فقرر أبو عبيدة أن يرسل مقدمة جيش المسلمين بقيادة خالد لفتح حمص، فاتجه خالد بن الوليد إلى حمص من خلال طريق بعلبك؛ وذلك لأنهم كانوا قد سيطروا على المنطقة الجنوبية، فلم يعد يخشى من مجيء قوات رومية من خلفه، والأهم من ذلك لكي يهاجم القوة الرومية الموجودة في بعلبك، وهو يعلم بوجودها هناك، وقد أدرك هذا الطريق وأبعاده، كما خشي أن يهرب منه أهل حمص إذا وصل من خلال الطريق الصحراوي الأبعد، فاتجه إلى بعلبك الواقعة في سهل البقاع بين سلسلتي جبال لبنان..
وهي مدينة مبنية فوق جبل داخل سهل البقاع، فهي مدينة حصينة جدًّا طبيعيًّا، كما أنها مزودة بأسوار وحصون مادية عديدة، بقي منها آثار حتى اليوم.
ويبدأ أبو عبيدة في تنظيم جيشه، فيرسل عمرو بن العاص بجيشه إلى فلسطين، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويبقى هو ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في دمشق.
يصل خالد بن الوليد إلى أطراف بعلبك، فتواجهه قوة رومية صغيرة، يبدو أنها كانت إحدى فرق الاستطلاع، وليست الجيش الأصلي، فيرسل إليها خالد خمسين فارسًا بقيادة ميسرة بن مسروق، فيهاجموها، وينتصروا عليها، ويقحموها داخل حصن بعلبك، ويتقدم الجيش الإسلامي كله لمحاصرة بعلبك، وفي أقل من يوم واحد، يعلن أهل بعلبك الاستسلام، وطلب الصلح مع المسلمين.
وكان هذا الأمر عجيبًا جدًّا، إذ إنها مدينة حصينة جدًّا، فما الذي يدفعها للاستسلام بهذا اليسر؟!! وكيف يتخلَّى عنها الروم بهذه الصورة رغم أنهم كانوا يستطيعون اتخاذها قاعدة لقتال المسلمين، ومن ثَمَّ يزيدون في تحصينها لتصمد أمام هجوم المسلمين!!
دخل المسلمون وعاهدوا أهل بعلبك وجاء في نص المعاهدة: (هذا كتاب أمان لأهل بعلبك: رومها وفرسها وعربها (ويبدو أنه كان فيها فرس وروم، وهذا أمر عجيب للخلاف الذي بين الدولتين!!) على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم، ودورهم داخل المدينة وخارجها، وعلى رحائهم ( طواحينهم )، وللروم أن يرعوا سرحهم، ما بينهم وبين 15 ميلاً، فإذا مضى شهر ربيع (أي ربيع الثاني) وجمادى الأولى، ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم، فله ما لنا، وعليه ما علينا (أي أنهم أعطوهم شهرين مهلة) وعلى من أقام منهم الجزية.
ونلاحظ في هذه المعاهدة السماحة الإسلامية الواضحة، على الرغم من أن الدولة الإسلامية منتصرة، إلا أنها تعطي المهزومين، أو المستسلمين كثيرًا من الصلاحيات: أولها مهلة الشهرين للخروج من المدينة، أو الجزية، أو الإسلام، كما أنهم سمحوا لهم بالتجول حول بعلبك لرعي الماشية مسافة 15 ميل (أي نحو 22 كلم) حرصًا على حياة ماشيتهم؛ لقلة المرعى داخل المدينة، على الرغم من أنهم في حالة حرب مع المسلمين!!، وأن ذلك قد يكون فيه خطر على المسلمين، كما يستطيع تجار هذه المدينة الذهاب إلى أي مدينة من المدن التي صُولح عليها المسلمين وهم لا يزالوا على دينهم.
وهذا كله يوضح لنا كيف تعامل المسلمون في فتوحاتهم، ويرد على أي شبهة يبثها المستشرقون في محاولاتهم الدائمة لتشويه صورة الفتوحات الإسلامية.
بدأ الجيش الإسلامي بقيادة خالد بن الوليدفي الاتجاه نحو مدينة حمص التي يقول الإصطخري (أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين) في المسالك والممالك عنهـا:
من أصح بلاد الشام تربة، في أهلها جمال مفرط، وليس بها عقارب ولا حيات، ولها مياه وأشجار وزروع كثيرة، وبها كنيسة من أعظم كنائس الشام، ويأتي القزويني بعده بـ 400 سنة في القرن السابع الهجري ليصفها في (آثار البلاد وأخبار العباد) بأنها: "مدينة حصينة بأرض الشام، أصح بلاد الشام هواءً وتربة، وهي كثيرة المياه والأشجار، وأهلها موصوفون بالجمال المفرط"، ويذكر ابن بطوطة في (تحـفـة النـظـار) أنها: "مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة، وأهل حمص عرب، لهم فضلٌ وكرم".
اتجه الجيش الإسلامي من بعلبك إلى حمص، وعلى أبواب حمص يُخرِجُ لهم الروم قوة كبيرة نسبيًّا، تقابل المسلمين في بلدة تسمى (جوسيه) على بعد 30 كلم جنوب غربي حمص، فيقابلهم المسلمون، ويحمسهم خالد بن الوليد، قائلاً: يا أهل الإسلام الشدة، الشدة.. فانطلقت أسياف المسلمين تعمل في رقاب الروم، فهُزِمَ الرومُ هزيمةً نكراء، وفروا إلى داخل الحصن، فتتبعهم المسلمون.
بعد أن حقق المسلمون هذا النصر على هذه القوة الرومية التي قابلتهم على أبواب حمص، وفَرَّ بقية الروم، إلى داخل الحصن، ذهب المسلمون وحاصروا حمص، وكان حصنًا شديدًا منيعًا، وعلى قوته، فقد حاصره المسلمون 18 يومًا، ثم أعلن أهل حمص الاستسلام للمسلمين، وقبول المعاهدة، ودفع الجزية وسلموا حمص للجيش الإسلامي، وتخلت بذلك الحامية الرومية مرة ثانية عن مدينة من أقوى المدن الشامية التي ظلت حصينة حتى القرن السابع الهجري, ولا بد أن يكون لذلك تفسير، ومبرر، إذ كيف يستسلمون هكذا بكل يسر، وقد قاتلوهم من قبل بشدة في أجنادين، وصبروا على حصارهم 4 أشهر في دمشق!! وقاتلوهم في أجنادين وبيسان، فكيف يتركون لهم هذه المدن الحصينة؟
بعد أن دخل المسلمون مدينة حمص، قدموا معاهدة لأهلها، كما فعلوا مع أهل بعلبك، وطالبوهم بدفع الجزية، التي بلغت 170 ألف دينار في السنة، (4 دنانير لكل شخص، مما يدل أنه كان بها أكثر من 40 ألف نسمة) وقد كانت من البلاد الكبيرة.
التعليقات