حسن اختيار موضوع خطبة الجمعة
إن موضوع الخطبة هو لبها وروحها، وبحسب الموضوع يكون أثر الخطبة، والخطيب الذي يُقَدِّرُ سامعيه ويحترمهم ويقدر أوقاتهم ويضَنُّ بها أن تضيع في غير فائدة يحرص غاية الحرص على موضوع الخطبة، ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يكون موضوعها نافعًا للناس، ويتبدَّى فقه الخطيب وحسن اختياره للموضوعات في الملامح التالية:
1 - استحضار الهدف: إنَّ من فقه الخطيب أن يكون مستحضرًا الهدف الذي يريد أن يتوصل إليه بخطبته ويكون ذلك الهدف مشروعًا، وبحسب ذلك الصف يبني خطبته وينظم عقدها، ويكون مقتنعًا بذلك الهدف فيكون اختياره للموضوع نابعًا من صلاحيته للعرض على الناس ومقدار النفع المتوقَّع لهم منه، لا أن يكون ناتجًا عن اندفاع عاطفي أو رغبة في إرضاء جمهور الناس إذ صار ذلك همّ بعض الخطباء - شعروا أو لم يشعروا - فهم يهتمون بطرح ما يرضي الناس وما يرغبون فيه، فيكون المؤثر في الخطيب الناس في حين المفترض العكس، ويمكن أن يكون هناك نوعان من الأهداف:
أ - أهداف بعيدة المدى: بحيث يجعل الخطيب في الحي أو البلدة أو القرية مجموعة من الأهداف يسعى لتحقيقها في حيه أو بلدته فيرسم معالم للتغيير الذي ينشده وطرائق لمعالجات الواقع في مجتمعه مراعيًا في ذلك الموازنة من جلب المصالح ودرء المفاسد، ويكون وضع هذه الأهداف في ضوء دراسته للبيئة التي يعيش فيها.
ب - الأهداف الخاصة بكل خطبة: بحيث يكون الخطيب قاصدًا لأهداف يريد تحقيقها وغايات وأغراض يريد الوصول إليها[1].
2 - أن تكون الخطبة صادرة من شعور قلبي صادق: إن أحسن الخطب وأفضلها وأكثرها نفعًا وفائدة ما كان صادرًا من شعور الخطيب، وإحساسه بأهمية الموضوع، وبمقدار حاجة الناس إليه، فالداعية رحيم بالناس، مشفق عليهم كأنه النذير العريان؛ لأنه ينذر الناس ما هم مقدمون عليه من العذاب، وهذا ما يفسر لنا تأثير النبي صلى اللّه عليه وسلم في الخطبة إذا ذكر الساعة، ففي حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللَه عنهما في الكلام عن خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم: وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه نذير جيش، يقول: ((صبَّحكم ومسَّاكم....))[2].
3 - اختيار الوقت المناسب للموضوع: إن من المداخل الجيدة للموضوعات الخطابية يوم الجمعة أن يكون السياق الزمني داعيًا لها وإذا استغل الخطيب ذلك الظرف كان لخطبته أثر كبير، مثال ذلك:
لو كانت الأمة في حالة خوف وفي خضم أمر عظيمٍ دهمها فركنت إلى القوى المادية، فخطب الخطيب عن التوكل على اللّه وأهميته، وأن اتخاذ الأسباب لا ينافي ذلك لوقع الموضوعُ في نفوسهم موقعه ولرسخ في الأذهان وردَّ الناس إلى الموقف الرشيد.
ومن مراعاة الوقت أن يختار لكلِّ موسم ما يصلح له، فلرمضان من الخصائص ما ليس لغيره من الشهور، وفيه من الوظائف الشرعية ما ليس في غيره؛ فتكون الخطب في جمعه مراعية للظرف، وليس من الحكمة في شيء أن يخطب الإنسان بعد نهاية الظرف المناسب للموضوع عن الموضوع (فقد خطب أحد الخطباء في إحدى عواصم الدول الإسلامية عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان وليس هناك أمل بإدراك هذه الليلة)[3].
وإنَّ فاعلية الخطبة في نفوس السامعين تزداد إذا قرن موضوعها بشيء من الواقع الذي يعيشونه فيستخدم الأحداث التي تقع وسيلة لإيصال الحقائق التي يريدها.
4 - التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية: ومن فقه الاختيار التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية، وعدم تضخيم الجزئيات على حساب الكليات الأصول، قال ابن القيم رحمه اللّه "وكذلك كانت خطبته صلى اللّه عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار وما أعد اللّه لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت، فإن هذا أمرٌ لا يُحَصِّلُ في القلب إيمانًا باللّه، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلي الترابُ أجسادَهم فيا ليت شعري أي إيمانٍ حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟[4].
ومع أنَّ هناك بعض الجزئيات أو الفروع التي قَد يرى الخطيب وجوب بيانها للناس، إلا أنه لابد من التأكيد على ربط تلك الجزئية بالكليات العامة، وهذا الربط له أثره في بيان حكم الأمر والنهي والحض على الالتزام بالأمْرِ، واجتناب النهي، وإذا جعل الخطيب مدخله إلى الجزئيات أمورًا كلية كان ذلك أدعى لقبول القول.
مثال ذلك: تكلم خطيب عن حلق اللحية وحرمة ذلك بالنصوص، ونقل أقوال أهل العلم، وتكلم آخر عن نفس الموضوع جاعلاً المدخل من خلال قضيتين:
الأولى: وجوب تعظيم السنة والتزام أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: حرمة التشبه بالكفار، وعزة المسلم بمظهره ودينه وشعائره الظاهرة، ودلف إلى موضوع اللحية بعد أن أصَّل هذين الموضوعين فكان لخطبة الثاني من الأثر والقبول ما ليس لخطبة الأول.
وهذا الربط موجود في النصوص ذاتِها فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في أمر اللحية: ((جُزّوا الشوارب وأرخُوا اللحى وخالفوا المجوس))[5]. فأكد على موضوع المنع من التشبّه.
5 - الحرص على عدم التكرار إلا لحاجة: ينزع بعض الخطباء إلى تكرار خطبهم كل سنة، ميلاً إلى الدعة ورغبة عن البحث والاطلاع "فيقع أسيرًا لبضعة مواضيع قد تكون هامة وقد لا تكون، ليَطْلُعَ بها علينا كلَّ أسبوع، مما يحدث الملل لدى الجمهور الذي يعاني تكرار الخطب التي لا جديد فيها، ويؤدي إلى إهدار قيمة هذا المنبر الخطير"[6].
وهذه الظاهرة وإن كانت قلت - وخصوصًا في المدن والحواضر الكبرى - إلا أنها لها وجهان لا زالا باقيين:
الأول: تكرار الخطبة الثانية: إذ يلتزم البعض خطبة واحدة محفوظة لا تتغير ولا تتبدل طوال العام وفوق هذا لم يرد في السنة فهو أيضًا أخذ لوقت الناس بدون فائدة، بل يسمعون كلامًا حفظوه لكثرة ترداده[7].
نعم من المشروع أن يذكر في خطبه بعض الجمل الجامعة التي كان يكررها النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل قوله: ((فإن خير الحديث كتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))[8].
ولكن ذلك لما تحويه هذه الجمل من الوصايا الجامعة الشاملة وأما ترديد غيرها مما لم ترد به السنة فغير محمود.
الثانية: تكرار الخطب في المناسبات: ففي رمضان يخطب الخطيب في الأول عن البشارة برمضان، ثم يثُني بالكلام عن أحكام الصيام، ثم يثُلّث بالكلام عن العشر الأواخر وفضلها ويختم بالكلام عن أحكام صدقة الفطر، وكل ذلك خير ولكن يمكن أن ينوع الإنسان بين السنين فيخطب مثلاً عن القرآن ورمضان، وعن غزوات الرسول في رمضان، وعن استثمار رمضان في إصلاح الذات، وعن استثمار رمضان في إصلاح الآخرين، فيُنوع في خطبه ليتحقق بذلك استفادة الناس، خصوصًا أنهم يسمعون الكلام عن الأحكام من خلال أحاديث بعد صلاة العصر في المساجد.
6 - التبكير بالاختيار: إنَّ الخطيب إذا بكر في الاختيار كان ذلك أدعى لضبط الموضوع إذا يصبح همًّا للخطيب طوال الأسبوع، يبحث عن مراجعه، ويدون بعض الملاحظات عنه، ويستفهم، ويسأل أهل العلم عن جوانبه المستغلقة، فيخرج الموضوع وقد تم نضجه واستوى على سوقه.
ويزداد الأمر جودة إذا كان الخطيب قد وضع سلمًا لأولويات ما يخطب عنه، وحرص على إيجاد دفتر ملاحظات خاص يدون فيه ما يأتي على باله من موضوعات يراها جديرة بالطرح ويُدون مع تدوين العنوانات جملة من مراجع، وما كتب فيه من كتب مقالات.
7 - الشمولية: إن الإسلام دين شامل ينظم الحياة كلها، وهذا الشمول سمة من سماته الرئيسة، وخطيب الجمعة حين يختار موضوعاته للناس يجب أن يراعي هذه السمة فلا يكون موغلاً في بيان جانب من الجوانب يركز عليه ويغفل ما سواه.
إن الناس يحتاجون إلى بيان أمور الاعتقاد، ويحتاجون إلى تعليم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، كما يحتاجون للوعظ والرقائق، بل وإلى بيان أحوال الأمم السابقة وما جرى بينهم وبين أنبيائهم واستخلاص عبر تلك الأحداث ﴿ لَقَدْ كَانَ في قَصَصهمْ عبْرَةٌ لأُولي الْأَلْبَاب ﴾ [9].
واللّه عز وجل ساق قصصهم في القران الكريم ليكون في ذلك العبرة والذكرى للمؤمنين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس بأيام اللّه فقال: ﴿ وَذَكّرْهُمْ بأَيَّام اللَّه ﴾[10].
ومن الملاحظ أن الخطيب قد يكون متخصصًا في أمرٍ أَوْ مُهتمًا بأمر فيركز عليه، كأن يكون متخصصًا في الفقه فتكون خطبه كلها فقهية، أو واعظًا فتكون جل خطبه عن المنكرات، وقَد تكون نفسه مائلة إلى جانب فيركز عليه، فتجد من الخطباء من هو دائم الترهيب والتخويف ومن هو دائم الترغيب، ومن حكمة الخطيب أن يجمع في خطبة بين الترغيب والترهيب وبين التعليم والوعظ وببن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
...............
[1] ينظر يحيى سالم الأقطش، هدي الإسلام، عدد 4 مجلد 32 ص 52.
[2] رواه مسلم 2 / 592 - 593 ورواه النسائي 3 / 188.
[3] محمد الدويش كيف نستفيد من خطبة الجمعة، مجلة البيان عدد 65 ص 24.
[4] ابن القيم: زاد المعاد 1 / 423 .
[5] رواه مسلم.
[6] د/ محمد عماد محمد، خطبة الجمعة في العالم الإسلامي (ملاحظات لابد منها) ص 58.
[7] ينظر محمد الخولي، مجلة المنار 5 ص 342.
[8] رواه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) والنسائي 3 / 188، 189 في العيدين باب كيفية الخطبة بزيادة ( وكل ضلالة في النار ) وإسناده صحيح.
[9] سورة يوسف آية 111.
[10] سورة إبراهيم آية هـ.
التعليقات