سجناء بين يدي الخطيب
مما لا شكَّ فيه أن الخطيب له دورٌ كبير في ترسيخ السلوك القويم في نفوس المتلقِّين والمستمعين؛ لذا فإن الخطيب المؤثِّرَ في الناس قد يَكسِبُ رضا الله كما يكسب احترامَ الناس بقدر ما يجتهد في أسلوب التبليغِ والنُّصح والإرشاد.
ولقد غدا الآن من الصعب جدًّا التأثيرُ في نفوس الناس؛ لما يُعرف من انتشار المعلومة والنصيحة والموعظة عبرَ الشبكة العنكبوتية والوسائل الحديثة...
من ثَمَّ كان انتهاج الوظيفية والاختصار والتدقيق أمرًا لا مندوحة عنه؛ حتى تتحقَّق الإفادةُ بشكل جيد، وحتى يكون كلام الخطيب مقبولًا عند جميع الحاضرين بمختلف تكويناتهم الثقافيةِ والعِرقية، وكذا فوارقهم العقلية.
على مستوى الاختصار والوظيفية:
إن تراثنا الإسلاميَّ زاخرٌ بما يحتاجه الخطيب، ولا أدلَّ على ذلك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يختصر الكلامَ اختصارًا، وذلك ما وسَم صفةَ كلامه بأنه من جوامع الكلم، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّل الناسَ بالموعظة، ومعنى ذلك أن وظيفية الكلام كانت حاضرةً في منهجه الدعوي، ولقد نُقل أنه نهى أحد الصحابة عندما عيَّر صاحبَه بالسواد، وعلَّق صلى الله عليه وسلم على ذلك بأنه من أمر الجاهلية، ولو تتبَّعْنا الأمر لوجدنا توظيفَ المثال حاضرًا في السُّنة، وهو يشير إلى الوظيفية بكل وضوح، وأما طرحُ السؤال بصفة مبهمة، فإننا نستشفُّ منه أن الخطيب لا ينبغي له أن يشير إلى جهة أو إلى شخص بعينه، وذلك استفادة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال قوم)).
كما ثبت أن الخُطبة ينبغي أن تكون مختصرة، والصلاة مُطولةً نوعًا ما، على عكس ما نَلمِسُه الآن، وذلك يستفاد منه أن التطبيق ينبغي أن يكون أكثرَ حضورًا من التنظير والكلام، وإذا كان النهي ورَد بشأن الافتتان بالصلاة في قصة معاذٍ رضي الله عنه، فإن افتتان الناس قد يطغى في الخطبة أكثرَ، فيحمل الخطيب الناسَ على الاستماع مدةً قد تشغلهم عن مصالحَ كثيرة، وقليلٌ يكفي خيرٌ من كثير يلهي.
إن الحاجة أصبحت ماسةً إلى تكوين خطباء لهم من الكفاءات والمهارات ما يخلخل النفوسَ التي يصيبها التعبُ الذي تتشربه على طول الأسبوع، فتكون الخطبة بمثابة الترياق والبلسم الشافي لبعضِ المنغِّصات المكدِّرة لصفو الإيمان.
وقد لا نغالي إذا ما أرجعنا جودةَ الخطبة إلى ثلاثِ كليات جامعة، هي:
المستوى العلمي والثقافي الموسوعي للخطيب:
إن العلم ضرورةٌ ينبغي تحقُّقُها في الخطيب؛ فالإلمام بجملة من أمور الفقه وأصوله وعلوم القرآن والسُّنة، وما أجمع عليه العلماءُ في كل عصر - أمرٌ ينبغي التنبه إليه، والاطلاعُ عليه، ولقد جاء عن الإمام عليٍّ رضي الله عنه أنه منع واعظًا مِن وعظ الناس؛ لأنه لا يعلم الناسخَ من المنسوخ؛ لما لهذا المبحث من خطرٍ على تنزيل الأحكام، أضفْ إلى هذا ينبغي للخطيب أن يكون له قدرةٌ على استخدام اللغة العربية، وإن حصَّل لغة إضافية فذلك أفضَلُ، وهذا يتطلب منه أن يكون "مهووسًا" بقراءة الكتب الدينية والأدبية والثقافية...
غياب المنهجية في سوق الخطب المنبرية:
ينبغي للخطيب أن يكون حاضر البديهة، مواكبًا للعصر وما يحدُث فيه، وهذا بطبيعة الحال يتطلب منه أن يكون كثيرَ البحث والتنقيب؛ ليُشعِر المستمعين أن هذا الخطيب يعاصرُهم، ويعاني بمعاناتهم، ويفرح لفرحهم، فإذا تحقَّق هذا الأمر، علِم ما ينبغي تقديمه، أو تأخيره، أو الإعراض عنه...وغالبًا ما تجد الخطبة في وادٍ وحال الناس في آخرَ؛ كمن ينصح الناسَ بإخراج الزكاة وهم في حاجة إليها أكثرَ من غيرهم، ومن ثم كانت ضرورةُ الالتفات إلى القاعدة التي ورثناها من تراثنا، حيث تقول: "خاطِبوا الناسَ على قدر عقولهم"، والعقولُ لا انفكاك لها عن الأحوال.
عدم مراعاة ربط القديم الموروث بالواقع المعيش:
وهذا هو عين الانفصام الذي يقع فيه أغلبُ الخطباء، فإما تجدهم ينقُلون حال الأوائل ويحاولون إسقاطه على الواقع جملة وتفصيلًا، مع التباكي المتواصل على المفقود، وإما تجد آخرين "تعصرنوا" حيث عند سماعك للخطبة تتخيل أن مهتمًّا بالأدب يقرأ نصًّا أدبيًّا على ورقة؛ لتفقد تلك الخطبةُ في الأخير هيبتَها ومكانتها، أو في أحسن الأحوال تُسرَد مشاكل وأمراض الأمة سردًا، دون محاولة ربطِ حلها بما كان عليه أولُها.
والوسطية هي أن نجتهد لننظر إلى ما يصلُح للواقع فنتشبَّث به مع الاستشهاد والتعليل...، ونترك ما لا يصلح لواقعنا، وقد نذكُرُه على سبيل الاستئناس فقط.
هذه الكليات الثلاث، قد تتفرع عنها تفصيلاتٌ كثيرة يصعُب حصرها في مجرد مقال، منها ما هو متعلِّق بشخصية الخطيب؛ كالتحصيل والموهبة والشعور بالمسؤولية، ومنها ما هو متعلقٌ بالظروف والإملاءات التي يفرضها عليه الواقع، هذه الأخيرة هي التي ينبغي للخطيب أن يتعامل معها بذكاء؛ ليفُكَّ أَسْرَ جميع المصلِّين؛ لأنهم سجناء بين يدَيْه.
التعليقات