كيفية التحضير والإعداد للخطبة
هناك حالات بعينها لا بد فيها من التحضير والإعداد للموضوع بشكل جيد، ومن ذلك:
إذا كان الخطيب مبتدئًا فهو أحوج الناس إلى الإعداد والتحضير، فإذا كان حريصًا على طرد الخوف، والتخلص من التهيب من مواجهة الجمهور، وحريصًا على أن يحوز على أكبر قدر من الثقة والثبات، وقوة الشخصية، فإن حاجته إلى التحضير أشد من حاجة غيره إليه، وإن إقدامه على الحديث - مهمِلًا التحضير - لَهُو لَوْن من القتل البطيء لمقدرته الخطابية، وأجدر أن يُعرِّضه لفقد الطمأنينة والثقة، أثناء مخاطبة الجمهور.
وكذلك الخطيب الذي يريد أن يخطب في موضوع ليس له به علم سابق، ولا معرفة تامة بجوانبه، لا بد له أيضاً من التحضير، وإلا فهو كساعٍ إلى ميدان الحرب دون سلاح.
وقد يوجَد الخطيب في بيئة معاندة مخاصمة تتلمس له الهفوات والأخطاء ويتتبعون زلاته ليجعلوا منها مادة للنقد والهجوم عليه، فمثل هذا الخطيب لا غنى له كذلك عن التحضير الجيد لموضوعه، كي يفوّت الفرصة على خصومه، ويتفادى هجومهم عليه وانتقادهم له.
وقد يعمد الخطيب إلى تناول موضوع غريب على جمهوره، خارج عما يألفون، فعليه في هذه الحال أن يستعد بالتحضير، ويتسلح بالإعداد الجيد، حتى يتمكن من الإقناع والاستمالة، ويأمن منازعةَ الجمهور له.
ثم إن هناك مواقف بعينها لا يصلح فيها إلا الإعداد والتحضير بعناية فائقة، مثل: الخطب القضائية التي لا بد فيها من الرجوع إلى نصوص القانون أو الدستور، ودراسة القضية محل المرافعة دراسة واعية تامة، ومثل الخطب السياسية، خاصة ما كان منها يشتمل على بنود ونصوص ملزمة كالمعاهدات والاتفاقيات ونحوها، "وكان سعد زغلول مع قدرته على الارتجال، وعظيم إلمامه بما يقول؛ يكتب خطبه إذا كانت رسمية أو شبه رسمية، حتى لا يسبق لسانه تحت تأثير الحماسة إلى ما لا يريد أن يقيد نفسه به" [1].
فكل تلك الحالات وأشباهها مما يدعو الخطيب ويحتم عليه أن يهتم بإعداد موضوعه، وتحضيره بشكل جيد.
وحقًا ما يقوله الأستاذ البهي الخولي: "لا بد للخطيب الذي يحترم نفسه ويقدر واجبه، أن يعرف ما سيقول، لا بد أن يعد لموقفه مادته من الأفكار والخواطر المناسبة، وأن يهيئها في نفسه، وأن يجيلها في ذهنه أكثر من مرة فإذا وقف الداعية ليتكلم؛ وقف وهو رابط الجأش، ثابت النظرات، مالك لزمام نفسه وزمام موضوعه، مستندًا إلى ما أعد من ذخيرة، فإذا فُتح له في موقفه عن جديد من الخواطر والمعاني فبها ونعمت، وإلا فحسبه أن ينفق مما لديه" [2].
ولعلنا نلحظ الآن ضعفًا باديًا لدى كثير من الخطباء في مجال الدعوة الإسلامية، وما هذا إلا لأن كثيرًا منهم يهملون في إعداد الخطبة، ولا يهتمون بتحضيرها على الوجه اللائق بها، فلا عجب أن غدت الخطابة والحالة هذه في وضع لا تحسد عليه، وأمست شاحبة هزيلة شكلًا ومضمونًا.
طرق التحضير:
وللتحضير طرق مختلفة، وصور متعددة، وقد ذكر الأستاذ الشيخ أبو زهرة من هذه الطرق ستًا، نشير إليها موجزة على النحو التالي [3]:
1- فمن الخطباء من يكتفي في تحضيره بدراسة الموضوع دراسة تامة، ثم جمع عناصره في خاطره، وترتيبها بينه وبين نفسه، ويستحضر الألفاظ اللائقة بالمقام، والعبارات الجديرة بالموضوع، وهذه طريقة لا يتبعها إلا المتمرن على المواقف الخطابية الذي اندرج في سلك الخطباء، ويظهر أن خطباء العرب كان على هذه الشاكلة.
2- ومن الخطباء من يدرس الموضوع ويهيئ معاني الخطبة، ويرتبها ترتيبًا محكمًا، ثم يكتب عناصرها وأجزاءها في مذكرة يستصحبها عند الخطبة لتكون مرجعًا له وضابطًا، ولِيحفظ المعاني والأفكار من أن تضيع بضلال الذاكرة، وذلك النوع من الخطباء كثير، وهي كسابقتها لا يتجه إليها إلا الخطباء الذين مرنوا على القول، يتجهون إليها من غير قصد، بل بمقتضى الإلف والاعتياد، ولكنها تمتاز عن سابقتها:
أ- بأنها تفيد ضعيف الذاكرة ولا يحتاج إليها قوي الذاكرة.
ب- وبأنها تَحسُن إذا كانت الخطبة طويلة، جمعًا لأشتاتها ولكيلا يقع في التكرار الممل.
3- ومن الخطباء من يطّلع على الموضوع، ويدرسه بعناية، ثم يتكلم فيه بينه وبين نفسه بصوت مرتفع في غرفة انفرد فيها، أو في مكان خلويّ، أو يتكلم على بعض الناس، وعندي أن هذه الطريقة يعمد إليها من يريد أن يربيَ في نفسه طريقة إلقاء خاصة، ويمرن عليها حتى تصير له ملكة وعادة.
4- ومن الخطباء من يكتب الخطبة، ويتحرى في الكتابة أبلغ الأساليب التي توصله إلى غايته، وتؤدي به إلى ما يريد، ويُحكِم معانيَها، ويحمّلها كل ما يبغي من وسائل التأثير، وطرق الإقناع التي يصوبها نحو هدفه، وبعد الكتابة يقرأ ما كتب مرارًا، وينقحه في كل مرة وبهذه القراءة التي يتحرى بها جودة الإلقاء، وحسن النطق، تعلق معاني الخطبة مرتبة الترتيب التام بذاكرته، ويحفظ كثيرًا من ألفاظها وعباراتها، وهذه الطريقة يتّبعها كثير من المحامين في القضايا ذات الشأن، التي تحتاج إلى تحضير كبير، وجمع لعدة نصوص قانونية، أو عبارات جاءت على ألسنة الشهود.
5- ومن الخطباء من يكتبون خطبهم ويحسنون تحبيرها، ثم يحفظونها حفظًا تامًا، ومنهم من يتحلل أحيانًا مما حفظ، إن وجد المقام يدفعه إلى غيره، ومنهم من يكتب ويحفظ بدون أن يغير شيئًا.
6- ومن الناس من يكتب الخطبة ثم يلقيها بالقراءة في القرطاس الذي كتبها فيه، وأكثر المحاضرين في موضوعات علمية في مصر على هذه الطريقة، ويحسن لمن يسلك ذلك المسلك سواء أكان خطيبًا أم محاضرًا أن يقرأ ما كتب قراءة جيدة قبل إلقائه، وعند الإلقاء يجتهد في أن يلقيَ بعض المحاضرة أو الخطبة من غير المكتوب، ليكون في ذلك تجديد في الإلقاء، وأن يكون في قراءته مشرفًا على السامعين بنظره وقتًا بعد آخر، وذلك يتيسر له بالقراءة الجيدة المكررة قبل الإلقاء.
ثم يقول الشيخ أبو زهرة: والطريقة المثلى لطالب الخطابة:
1- أن يبتدئ بكتابة الخطبة وإلقائها كما حفظ.
2- ثم يأخذ بالتغيير شيئًا فشيئًا فيما حفظ، حتى إذا شدا في الخطابة وتقدم في المران عليها، كتب الخطبة، وعُنِي بأن تعلق كل معانيها بقلبه، وأكثر ألفاظها بذاكرته، ثم يتقدم لإلقائها، وقد تحصن بذلك التحضير.
3- فإذا صارت له الخطابة ملكة وعُدّ في صفوف الخطباء، اكتفى بدراسة الموضوع دراسة وافية، ثم كتب العناصر، أم لم يكتبها إن أسعفته ذاكرة قوية، أو كانت الخطبة قصيرة، لا عناصر لها، وألقى الخطبة مكتفيًا بذلك التحضير الذي يعد أقل أنواعه كلفة، ولا يكتفي به إلا أعظم الخطباء قدرة [4].
.........................
[1] الخطابة، أبو زهرة. ص138.
[2] تذكرة الدعاة. ص 267.
[3] راجع الخطابة. ص139- 142.
[4] السابق، ص 142.
التعليقات