الخطابة الوعظية
هي الخطب التي تُعنَى ببيان مبادئ الدين الإسلاميِّ، وتعاليمِه وأحكامِه، ودعوةِ الناس إليها، وتحذيرِهم من غيرها، كما تهتم ببيان حكم الشرع الإسلاميّ في الأمور المختلفة، فهي أمْرٌ بكلّ معروفٍ أرشد الإسلام إليه، ونهيٌ عن كل منكر حذر منه، وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون في جميع نواحي الحياة، وسائر شؤون الخَلق المعاشية والمعادية.
أهميته وضرورته:
هذا؛ وإن حياة الناس لا تستقيم بدون الوعظِ الدينيِّ، والدعوةِ إلى الخير، والتحذيرِ من الشر، ولولا وجودُه لاندرست معالم الدين، والتبس على الناس الحلال بالحرام، فحاجة الناس إليه مُلِحّة ودائمة، إذِ الغافلُ محتاجٌ إلى من يُذكّره، والجاهلُ مفتقرٌ إلى من يعلّمه، والمتذكِّرُ بحاجة إلى من يثبّتُه ويؤازره، والعاصي أشدُّ الناسِ احتياجا إلى من ينصحه ويقوِّمه، ومن هنا أوجبه الله عز وجل فقال سبحانه: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقد جعل الله الأمةَ الإسلاميةَ خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، بكوْنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقال سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
والأمة التي تترك هذا الواجب تستحق اللعن، قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].
فقد علل الله استحقاقَهم اللعنَ بترْكِهمُ النهيَ عن المنكر.
وعن دُرّةَ بنتِ أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أقرؤهم وأتقاهم، وآمرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلُهم للرحم" [1].
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجلُ يَلقَى الرجلَ فيقول: يا هذا اتق الله ودَعْ ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيدَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [المائدة: 78] إلى قوله:
﴿ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 78 - 81] "، ثم قال: " كلا والله لَتأْمُرُنّ بالمعروف ولَتنهَوُنَّ عن المنكر، ولَتأخذَنّ على يد الظالم، ولتأطِرُنَّه [2] على الحق أَطْرًا، ولَـتَقْصُرُنّه على الحق قَصْرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم " [3].
يقول الإمام الغزالي: " فإن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِي بساطُه وأُهمِل عِلمُه وعَملُه لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخرِبت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد " [4].
وهكذا تلوح لنا أهمية الوعظِ الدينيِّ الذي هو في جوهره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكانتُه في الشرع الحنيف، وضرورتُه في حياة العباد.
مكانةُ الخطابة الوعظية، وشرفُ الواعظ:
ثم إن للخطابة الوعظية مكانةً لا تدانيها مكانة بين الأقسام الأخرى للخطابة، ويكفي الواعظَ شرفًا أنه يقوم بما كان يقوم به صفوة البشر، وأفاضل الخلق، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين، فوظيفته امتداد لوظيفتهم، وعمله استمرارٌ لعملهم، ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن الواعظ الداعيةَ إنما هو نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ووكيل عنه في التبليغ والدعوة إلى الخير، وبيانِ شرع الله إلى الناس، لينصلح به أمر معاشهم وأمر معادهم، وليفوزوا بسعادة العاجل والآجل.
كما أن لخطب الوعظ الدينيِّ منزلةً خاصةً من بين سائر أنواع الخطابة، حيث إنها تتعلق بالدين، وتدور في فلكه، وتدعو باسمه وتهدي إليه، وتعمل على ربط الناس بالله ربِّ العالمين، وتعبيدهم له سبحانه دون سواه، وتبغي انتشالهم من أوحال المادية إلى إشراقات الروحانية، ومن مستنقعات الرذيلة إلى رياض الفضيلة، فهي " دائمًا ذاتُ مغزىً شريفٍ، وأغراضٍ سامية نبيلة، لأنها دائمًا تلفت الذهن إلى الجزاء الأخرويِّ، وتحذر من الحساب على الأعمال، وتذكر بالوقوف أمام الله تعالى، فهي بهذا ترفع الإنسان عن الأغراض المادية وتتسامى إلى المعنويات.
والخطبة السياسية تدور حول أعمال مادية بحتة؛ من إنشاء مشروعات مثمرة، أو تنمية الزراعة، وتنشيط التجارة وما إلى ذلك، والخطبة القضائية تدور حول تبرئة شخص أو عقوبته، وقل مثل ذلك في الخطب الأخرى، فهي جميعًا تدور حول أمور دنيوية، أما الخطبة الدينية فتشمل ذلك كله، ولكنها تربطه بجزاء أخرويٍّ من الله تعالى، وهذا ما عبر عنه الشراح بقولهم: الخطبة الدينية تتجه بالإنسان إلى السماء، حيث تربطه الخطب الأخرى بالأرض، وتسمو به إلى المعنويات حين تهبط به الخطب الأخرى إلى الماديات، والفرق بين الاتجاهين بعيد وواسع جدًا " [5].
والواعظ الديني - وخاصة إذا اتصف بالإخلاص والعلم والتقوى والإجادة - له مهابة في النفوس، وتوقير واحترام من الناس، لما فطرت عليه النفوس من احترام للدين، وميلٍ إليه، ولما للعقيدة الدينية من سلطان على المشاعر، حتى مِن غير الملتزمين بالدين والمتمسكين بتعاليمه، فتراهم في جملتهم يجِلّون الدعاةَ إلى الله، وأهلَ الصلاح والخير، ويقدرونهم.
وعلى من يقوم بالوعظ الديني، ويتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون ملمًّا بقواعد فن الخطابة، ويتزودَ بالثقافة الشاملة، ويتحلى بالأخلاق الفاضلة، وما ذكرناه في فصل مقومات الخطيب وعدته ينطبق على مقومات الواعظ الديني وصفاته، بل هو ما نعنيه بالدرجة الأولى، فليراجع ما ذكر هناك.
............................
[1] رواه أحمد في المسند 7/584، رقم 26888، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد
(7/203) وعزاه إلى أحمد والطبراني، وقال: ورجالهما ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر.
[2] أي تعطفوه على الحق: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (1/53) تحقيق طاهر أحمد الزاوي محمود الطناحي، دار الفكر بيروت.
[3] رواه أبو داود في ك الملاحم، ب الأمر والنهي رقم (4336، 4337)، والترمذي في ك التفسير، سورة المائدة رقم (3058، 3059)، وقال: حسن غريب، والطبراني من حديث أبي موسى، كما في مجمع الزوائد (7/369)، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
[4] إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، 2/333، دار الريان للتراث، القاهرة، ط الأولى 1407هـ 1987م.
[5] الخطابة د/ عبد الجليل شلبي (ص109، 110).
التعليقات