الخطيب المؤثر: صفاته ومؤهلاته
إن الخطابةَ منصبٌ مرموقٌ رفيع، وشرفٌ لا يعرفه الدنيء والوضيع، فهي مرتقى صعبُ المنال، لا يتحمَّل شدته إلا أولو القوة من الرجال.
وتهدفُ الخطابة إلى استمالةِ جموعِ الحاضرين والتأثير عليهم؛ من خلال ترغيبهم في الإتيان بالفضائل، وترهيبهم من الوقوع في مستنقَع الرذائل، فدعوةُ الخطيب للناس دعوةٌ ربانية في مصدرِها ومنهجها وغايتها، وكذا في أساليبها وطرقِها، وهنا نطرحُ إشكالية أساسية:
مَن هو الخطيب المؤثر؟
وما هي صفاته ومؤهلاته؟!
يلعب الخطيب دورًا مهمًّا في بناءِ الفرد والمجتمع، فهو عنصرٌ مؤثِّرٌ في عملية الإصلاح، فوعظُه وإرشاده وتوجيهُه من أهمِّ روافد تزكية النفس وتربيتِها، وكلما كان الخطيب قدوة في فعاله، تأثر الناس كثيرًا بمقاله!
أيها الخطباء الأدباء:
اتقوا الله في أنفسكم وأهلِيكم، تصلُحِ الأممُ على أيديكم، تُوبوا من الخطايا وطلِّقوا الذنوب، تُغفَرْ لكم الزلات وتَدِنْ لكم القلوب.
إن الخطيب هو مَن يقوم على الخطبة كتابةً وإلقاءً، كفاءةً وأداءً، فهو داعٍ إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم إن الخطباء يختلفون؛ فلكلٍّ نشأتُه وتربيته وثقافته، فمنهم المتردِّد والجريء، وفيهم المُتقِن والمسيء! وللهِ في خلقه شؤون!
يا روَّاد الكلمة:
اعلَموا أن الخطابة لن تعطيَكم القياد؛ حتى تأخُذَ مِن جفونكم الرقاد، فالإتقانُ مرحلةٌ متقدِّمة لا تكون إلا بالممارسة والتدريب، فاحرِصْ على أن تتعرَّف مِن خلالها على فقه الخطابة والخطيب، واعمَل على زيادة الإيمان يا أيها الأخ الحبيب، فمناعتُك المعرفية والإيمانيَّة، سياجٌ منيع من اختراق الأفكار الوافدة التغريبيَّة.
فاللهَ الله يا إخواني في الثوابت!
فمَن ضيع الأصول، لم يُرْجَ له وصول!
اعمَلْ جاهدًا على التوازن في خُطَبك، وإياك والعَرَج والانحراف، والظُّلم والإجحاف، وكن عدلًا ضابطًا ثقة ذا إنصاف، تخرُجْ بفضل الله من كلِّ خلاف! ولتكن خطبُك المؤثرةُ ذاتَ شكلٍ فني، ومضمونٍ ثري، وتكلَّم بالميسور الجَلِي.
إن الخطيب المؤثِّر هو فارس المنابر، ومرشد الحائر، بخطبِه المدبَّجة تستنيرُ البصائر، وتنشر الهدايات والبشائر، فيبتعِدُ الناس عن الصغائر والكبائر.
الخطيب المؤثر هو نوعٌ فريد من الدعاة، والعلماء الثقات، فهو يُسهِم بحظٍّ وافر في بناء المجتمعات، وتغيير القناعات، وتعديل السلوكيات، وصناعة القدوات.
الخطيب المؤثِّر يجمَعُ بين التأصيل الشرعيِّ، والتنزيل الواقعي، والتسهيل اللُّغَوي، فتراه يُوظِّف الآيات والأحاديث والآثار، وينتفع بالشِّعر والقصص والأخبار، في معالجة المشكلات الواقعيَّة، بلغة واضحة نقيَّة.
إن الخطيب المؤثر هو مَن له ثقافةٌ واسعة، واطِّلاعٌ واسع مُدهِش، فيُؤهِّله ذلك أن يُقنِع الطبيب والمهندس والعالم، وغيرهم من فئات المجتمع المختلفة الذين يحضُرونَ خُطَبه كل جمعة.
الخطيب المؤثر له جودةُ القريحة، وحضورُ البديهة، وقوة المنطق، وجودة الأسلوب، فمرونتُه تُسعِفه في الأزمات والمشكلات.
الخطيب المؤثر هو مَن يتحكَّم بدقة في مسألتين اثنتين:
ضبط إشكالية الموضوع وأفكاره الأساسية.
وضبط الوقت الكليِّ والجزئي المتاح لهما.
الخطيب المؤثر هو مَن يُحسِن توظيف معارفه بما يخدُمُ فكرته، فلا يستعمل كلَّ الآيات والأحاديث والآثار المتعلِّقة بها، فهو ينتقي ما يُحقِّق الغرض، ويُغني عن كل عَرَض!
الخطيب المؤثر هو في أصله ذكيٌّ أريب، قد صُقِلت خبرته بالتكوين والتدريب، فهو يجمَعُ بين أصالة المعلومات، وإتقانِ توظيف المهارات، ومِن هنا فقد تكون متمكنًا من اللغة أو الفقه أو التفسير، ولا تصلح أن تكون خطيبًا مؤثرًا؛ لغياب الموهبة، أو لنقص التجرِبة، أو لضعف المهارة!
فالدرس شيءٌ، والخطبة شيء آخر؛ فلكلٍّ طريقتُه وأسلوبه!
الخطيب المؤثِّر هو مَن يملِكُ رسالةً ورؤية واضحة وأهدافًا، فالصورة الذهنية واضحة، فهو مُدرِك لأبعاد التخطيط الإستراتيجي الشخصي، وهو على درايةٍ كافية بنقاط قوَّته وضعفه، وفرصه وتهديداته.
واسمَحوا لي أن أقول:
"أما الخطيب الذي لا يدري ما يخطُب، وعمَّن يخطب، وكيف يخطب، فهو ليس بخطيب أصلًا قبل أن يكون مؤثرًا، فخطيبٌ ليس عنده دفترٌ يُسجِّل فيه الخطة المجمَلة لعناوين خطبه وأفكارَها الأساسية في عامِه، والخطة المفصلة لعناوين خطبه وأفكارها الأساسية في شهره - ليس خطيبًا مؤثرًا، فأفضل الخطب ما ناسَبَتِ الحال والمقال، فخطبةٌ عن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، خطبةٌ مناسبة للزمان والمكان والإنسان".
الخطيب المؤثر هو إنسان لُغَوي أُصُولي، فقيهٌ مؤرِّخ مقاصدي، فهو مُطَّلِع على الخريطة العامة للعلوم الشرعية والنفسيَّة، والعقلية والاجتماعيَّة، وله مِن الدراية ما يمنعه من الوقوع في الشطط والغلط.
الخطيب المؤثر معارفُه متجدَّدةٌ، وإسهاماتُه متعدِّدة، فهو دائم التمحيص والتنقيب، والتطوير والتجديد، فهو خطيب مجدِّد يعتزُّ بأصالته، ويعيش عصره وتقنيته، فله موقعٌ وله حساب في شبكات التواصل الاجتماعي، ونشاطاته يتفاعل معها الكثيرون، فيا له من خطيب مؤثر!
ليس خطيبًا مؤثرًا الذي يُعيد الخطب باستمرارٍ، ولا يبذُلُ جهدًا في تحيينِ معلوماته، ولا في تحديث معطياته، فدَيْدَنُه التلاوةُ من الصحف الصفراءِ، وقد علا عليها الغبارُ، وأكلَتْها الأكَلة، وعضَّها الدهر، فهي متروكة زائلة!
صدقوني يا إخواني:
الخطيب المؤثر هو مَن يتابع أحدث التطورات، ويُواجِه أصعب التحديات، وكله ثقةٌ وثبات!
ليس خطيبًا مؤثرًا مَن لا يهتمُّ بالجديد من الأفكار والمقولات، والملتقيات والمنتديات، والبرامج على الفضائيات، وهو يظنُّ أن العلم قد جُمِع له في كتاب أو كتابين، فتراه يعيد خطب المواسم، ولا يُحدِث فيها أدنى تغيير بما يتناسب ومستجدَّاتِ زمانه.
فيا له مِن خطيب تقليديٍّ غيرِ مواكبٍ لروح العصر!
إن الخطيب المؤثر هو الذي يُراعي المقام، وكما يقولون: "فلكلِّ مقامٍ مقالٌ".
فالخطيب المؤثر يعرِفُ ما تحتاجه شريحتُه من موضوعات، وهو يفقَهُ بعمقٍ مداركَهم وطرق التأثير عليهم، فالمُدخَلات والمُخرَجات والعمليات التي تكون بينهما واضحةٌ في ذهنه، فهو - بما آتاه الله من فهمٍ - يتفنَّن في تعبيد الناس لرب الناس.
الخطيب المؤثر مَن يحترم جمهورَه، ويتواصل معهم، ويستفيد مِن ملاحظاتهم واقتراحاتهم، فله من العيون ممَّن يحضرون عنده، فيُفِيدونه بما هو كائنٌ، وبما ينبغي أن يكون؛ من خلال آرائهم التي يستفيد منها الخطيب المؤثر في بناءِ ذاته، وتطوير قدراته.
إن الخطيب المؤثر لا يدَّعِي الكمال في خطبه، فهو بشرٌ، والبشر يُخطئون، لكنه يجتهد قدر استطاعته، فهو مَرِنٌ بالدرجة التي تجعله يتكيَّف مع وضعيتِه ومنطقته واحتياجاتهم واهتماماتهم.
الخطيب المؤثر يؤمِنُ بموضوعه، ويحترق من أجله، فهو أشبه بمحامٍ يدافع عن قضيته الشخصية، فهو محترقٌ من داخله.
الخطيب المؤثر له مُؤهِّلات لُغَوية وشرعية، وعقلية ونفسية واجتماعية، جعلت له المهابة، وأكسبته الاحترام والتقدير.
أيها الخطباء البلغاء:
إن الخطيب المؤثر له صفاتٌ ومواصفات؛ منها الأخلاقية؛ كالصدق والأمانة، والحياء والعفو، والبشاشة وطلاقة الوجه، ومنها المِهْنيَّة؛ كأن يكون موظفًا في رتبة خطيب جمعة، فعليه الالتزام والجدية، والاتزان الانفعالي والحكمة والموضوعية.
الخطيب المؤثر إنسانٌ له هيبةٌ خاصة، فكلما ارتقى المنبر اشرأبَّتِ الأعناق، وارتعَدَتِ الفرائس، وخرستِ الألسنةُ، وانفتحت مغاليق القلوب لتستقبل أنوار الهداية الربَّانية.
الخطيب المؤثر متميِّزٌ في كل شيء؛ في لغته وأسلوبه، ملبسه وهيئته، وطريقه ومِشْيَته، فقد ألقى الله عليه المهابةَ، فلا يراه أحدٌ إلا أحَبَّه، ولا يسمع منه أحدٌ إلا تأثَّر به.
الخطيب المؤثِّر هو مَن تترُك خطبتُه أثرًا في نفوس المصلِّين، أطال أو قصَّر، وذلك بسبب إخلاصه ونيته، وجمال عرضه وبلاغته، وبجهده وحماسته!
الخطيب المؤثر مَن يراعي المنهج العقلي والوجداني والحسي في تبليغ دعوته، وإيصال رسالته.
الخطيب المؤثر هو صاحبُ شخصية قويَّة، وعقيدة صافية نقيَّة، ونفس متوثِّبة أبيَّة.
وختامًا، أقول بكل مرارة:
إن خطيبًا ليس عنده إمكانيات، ولا يحمِلُ شهادات، ولا يمتلِكُ أساسيات المهارات، ولا يرغب أَلبتةَ في التحسينات، ولا يتابِع ما استجدَّ من الدراسات، ثم لا يتفاعل مع الدورات، ولا يتقن اللغات - لَهُو أشبه بأرضٍ موات!
التعليقات