كيف تستمع إلى خطبة الجمعة؟
الحدث الأهم في يوم الجمعة بالنسبة للمسلم هو خطبة الجمعة، وهي عبادة لها أهدافها، يتعاون الخطيب والمستمعون؛ لتحقيقها، وكما أن أداء الخطيب لخطبة الجمعة فنٌّ، كذلك طريقة استماع الحاضرين للخطبة فنٌّ آخر.
ويرتبط هذا الفنّ بالأحكام والآداب الشرعية المتعلقة بالحضور، وحتى تؤتي الخطبة أُكُلَها وتؤدي دورها ويكون لها أثرها لا بد من تكامل طرفَيْ المعادلة (الخطيب والمستمع) في الوصول إلى الأهداف الموضوعة للخطبة.وكثيراً ما يتم توجيه النقد إلى الخطيب باعتباره الجانب الأهم في المعادلة، بينما يتم إغفال الدور الهام للمستمع، حتى ظنَّ بعض الناس أن على الخطيب إمتاع المستمع، وتشنيف آذانه بما لم يسمع به من قبل، بل أن يعطي أكثر مما يستطيع، كأنه ليس ابن مجتمعه ويسري عليه ما يسري على المستمع من عوامل البيئة الاجتماعية، وقد تمَّ تكوين تفكيرهما بنفس الطريقة. إلا أن الخطيب له رسالة عليه أن يؤدِّيها تختلف عن رسالة المستمع.
ونلاحظ أن الآيات والأحاديث الواردة المتعلقة بخطبة الجمعة موجّهة -في الغالب- إلى الجمهور الحاضرين، باعتبارهم الجهة الأكثر عدداً في طبيعة الحال.
إن للخطاب القرآني والتوجيه النبوي أهدافاً شرعية وحِكماً متوخاة من خلال أحكام وآداب الجمعة المستنبطة، كالأمر بالسعي وترك البيع ووجوب الإنصات، تُخرجها عن الصورة الشكلية التي اعتادها الناس إلى حقيقة أهداف هذه الأحكام بالتفاعل الحقيقي مع خطبة الجمعة تعلُّماً وفهماً وتعليماً وتطبيقاً.
وقد يكون للخطيب دور فيما يظهر من الخلل في إقصاء الخطبة عن دورها، إلا أن للمستمع دوراً في ذلك لا يقل أهمية عن دور الخطيب.
ونظراً إلى أن المستمع لا يقيم لخطبة الجمعة تلك الأهمية المطلوبة ويجهل دوره فيها فإنه يتحمّل المسؤولية في بعض مظاهر الخلل، فترى البعض يجعل وقتها فرصة للاسترخاء أو النوم، أو يجعل أكبر همّه إحصاء أخطاء الخطيب للحديث عنها بعد الانتشار في الأرض، وترى آخرين يصدرون حُكْماً مسبقاً على الخطبة بناء على معرفتهم بتوجّهات الخطيب أو أدائه السابق فلا يجدون فائدة في حكمةٍ يتلقّونها، أو فكرةٍ يستمعون لها وإن كانت جديدة عليهم.
معيار نجاح خطبة الجمعة:
معيار نجاح الخطبة هو أداء العبادة على وجهها الصحيح؛ ولأدائها على وجهها الصحيح لا بد من تحقيق أهدافها، وأهم هذه الأهداف:
ما تتركه من أثر في حياة المجتمع من زيادةِ علم، أو تجديدِ فكر، أو أمر عملي، كإحياء سُنَّة أو إحداث توبة، أو تغيير في جانب من جوانب الحياة، وبمقدار تحقيق أهدافها يكون نجاحها. وأما حسن أداء الخطيب واستمتاع الحضور بالخطبة فهو من عوامل نجاح الخطبة لا من معياره.
وفن استماع الخطبة يحيط بعمل المستمع قبل التوجُّه إلى الجمعة وأثناء حضوره وبعد خروجه وانتشاره في الأرض، كما يشمل الجانب الجسدي للإنسان والنفسي والفكري.
ففي الجانب الجسدي يستعدُّ المستمع للخطبة بأمور عدّة، منها:
أولاً: أخذ قسط معتدل من النوم ليلة الجمعة، حتى لا يغلبه النعاس أثناء الخطبة، وذلك باتخاذ الأسباب المؤدية إلى ذلك، كالنوم المبكر وترك السهر الذي اعتاده الناس اليوم، فقد ورد النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام وهو عبادة فكيف بمن يفعل محرَّماً أو مكروهاً!!، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم”. قال الإمام النووي -رحمه الله -: “والحكمة في النهي عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة، فاستحبّ الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة".
ثانياً: الاعتدال في الطعام والشراب، فلا يخصص يوم الجمعة بصيام، ولا يثقل معدته قبلها بأنواع الطعام، ويجعل وقتاً بين تناول الطعام ورواحه إلى الصلاة، ويجعل للطعام بعد الصلاة نصيباً، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: “كانت فينا امرأة تجعل على أربعاءَ في مزرعة لها سِلْقاً، فكانت إذا كان يوم جمعة تنزع أصول السِّلْق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السِّلْق عَرْقَهُ، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرِّب ذلك الطعام إلينا فنلْعَقُه، وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك”. وقال في رواية أخرى في البخاري: “ما كنا نقيل، ولا نتغذى إلا بعد الجمعة”.
قال الحافظ ابن حجر: “فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيّؤ للجمعة ثم بالصلاة، وينصرفون فيتداركون ذلك”.
ثالثاً: العمل بالسنن الواردة، كالغسل وهو من آكد السّنن والطيب، والسواك، ولبس الحسن من الثياب المناسب لطبيعة المكان ودرجة الحرارة، فإنها أمور مساعدة على الاستيعاب وتفتّح الذهن وحُسن الاستماع وعدم الانشغال عن الخطبة، وتمنع النعاس أو النوم، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: “أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً إن وجد”، وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- عند أبي داود وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته”، وبوّب البخاري (باب: يلبس أحسن ما يجد).
رابعاً: عدم التشاغل قبل الجمعة بأمور الدنيا التي تشغل الفكر، كالبيع والشراء وأنواع العقود واللّهو، وقد جاء النهي عن البيع بعد النداء ويلحق به أنواع العقود، ولعل الأذان الذي يسبق أذان الجمعة في السوق للتذكير بهذا الأمر. كما جاء الأمر بالتبكير إلى الجمعة، والانشغال بأمور الآخرة، كقراءة سورة الكهف والصلاة قبلها تطوّعاً، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9]. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “يحرم البيع حينئذ”. وقال عطاء: “تحرم الصناعات كلها”.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً أَقْرَن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر”.
خامساً: اختيار المكان المناسب في المسجد بحيث يدنو من الإمام، ولا يستند إلى سواري المسجد وجدرانه إلا لعذر؛ ليكون شديد الانتباه متيقظاً مشدوداً لكلام الخطيب، وعليه أن لا يتخطى الرّقاب فيشغل غيره ويؤذيه، ولا يقيم أحداً ليجلس مكانه، ولا يجلس مقابلاً بوجهه الناس فينشغل بالاهتمام بهم ويشغلهم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحوّل من مجلسه ذلك”.
وعن أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثمّ بكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سَنَة أجر صيامها وقيامها”.
ولقوله -صلى الله عليه وسلم- للذي جاء يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة: “اجلس فقد آذيت وآنيت”.
آداب أثناء الخطبة:
أولاً: ينصت للخطبة ولا يلغو بالكلام مع غيره أو حتى بالإشارة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا قلت لصاحبك: أنصتْ، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت”.
ثانياً: يتوجّه بوجهه إلى الخطيب، فإنه أدعى للاستيعاب والفهم؛ لاشتراك أكثر من حاسّة في الإصغاء.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا".
ثالثاً: يجلس المستمع بشكل مناسب فلا يضطجع أو يحتبي أو يمدّ رجليه إلا لعذر، فقد ورد النهي عن الاحتباء يوم الجمعة، فعن سهل بن معاذ -رضي الله عنهما- عن أبيه: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب”.
رابعاً: لا يتلهى عن الخطبة بما حوله، كالعبث بالأشياء مثل: الحصى والملابس والأظافر، وفرقعة الأصابع، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا”.
وأما بعد الخطبة:
أولاً: الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله؛ لتتحول المعاني إلى تطبيق (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]، إتمـاماً للعبودية لله.
ثانياً: الإكثار من ذكر الله والصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتحرّي ساعة الإجابة، حتى يبقى المنصرف من الصلاة على صلة بما أفاد من خطبة الجمعة.
وفي الجانب النفسي:
أولاً: تعظيم شأن الخطبة في نفسه، فهي أمر من أوامر الله، وعدم الاستخفاف بها أو التهوين من دورها في حياته، تبعاً لواقع معين عند الناس ألفوه، حتى تتحول من عادة إلى عبادة.
ثانياً: بذل الجهد للاهتمام بها بما يستطيع، بالتعاون مع الناس والخطيب والحثّ على حضورها وإظهار أهميتها، وتعلّم وتعليم أحكامها، وتهيئة الظروف في البيوت لهذا الحدث؛ ليظهر له هيبة في بيئته الإسلامية.
ثالثاً: عدم إصدار حكم مسبق على الخطبة بفشلها من خلال تصور مسبق أو معلومة عن توجّهات الخطيب الفكرية أو العلمية.
رابعاً: ألا يوجّه اهتمامه إلى جانب معين يخصّه في الخطبة دون الجوانب الأخرى؛ لتحقيق غاياته النفسية، أو تغطية؛ لنقص معين في علمه، فإن كان يعاني من مشكلة اجتماعية أو كان على خلاف مع أحد، كالجار ونحوه فلا يتصور أن الخطيب سيطرح مشكلته دون غيرها، حتى إذا لم يجد اهتمامه أعرض عن الخطبة وقلّل من شأن ما يطرحه الخطيب وإن كان مفيداً لغيره.
خامساً: عدم التقليل من دوره في إنجاح الخطبة، أو التقليل من شأن الخطيب وإن كان أقل منه علماً، بل يجعل من نفسه قدوة للآخرين.
سادساً: إغفال أيّ علاقة سلبية بالخطيب، كونه يخالفه في بعض الفروع أو التوجهات الاجتهادية أو الفكرية؛ لأن هذا من شأنه حرمانه من الفائدة.
سابعاً: أن يكون تقييمه المباشر للخطبة موضوعياً وبنّاءً لا سلبياً، كأن يتلقط الهفوات، ويتسقط الزلات.
أما في الجانب الفكري:
أولاً: استقبال الأفكار بتمعّن وإيجابية وإنزالها على الواقع، فإذا سمع الآيات القرآنية والأحاديث وهو يحفظها أو يسمعها دائماً فلا يعرض عن الإصغاء لها والتفكّر في معانيها، فإنه سيجد فيها معاني لا تنضب.
ثانياً: اتهام نفسه بالتقصير؛ لتدارك أخطائه، فإن من الملاحظ أن بعض المستمعين إذا سمع توجيهاً في نقص معين قال في نفسه: هذا فلان يفعل وفلان، ويبرِّئ نفسه من التقصير.
ثالثاً: محاولة التركيز على المفاهيم والمعاني المطروحة وفهم مقاصد الخطيب حتى وإن كان الأسلوب -أحياناً- ضعيفاً، ولا يجعل خطأ الخطيب في الأسلوب أو طول خطبته مانعاً من الفهم.
رابعاً: نقل مضمون الخطبة إلى غيره ممن حضر في مسجد آخر، وللنساء في البيوت، وكذا أهل الأعذار، أو تسجيل الخطبة وتداولها؛ لتعميم الفائدة.
خامساً: مناقشة الخطبة مع بعض من حضر؛ للاستفادة منها، والبحث عن كيفية التطبيق العملي للخطبة، وإبراز الإيجابيات والتناصح مع الخطيب في شأن السلبيات.
وأخيراً: فإن خطبة الجمعة أمرُها جِدّ وليس بالهزل، وهي وسيلة تغيير وتجديد، وهي من عوامل حياة هذه الأمة، فالاهتمام بها من الخطيب والحضور جزء من إحياء الأمة ومن ثم واجب على المكلف بأدائها.
التعليقات