تجربة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني الخطابية (2)
اتفقنا في الجزء الأول من هذا المقال على تقسيم هذه التجربة الخطابية للشيخ علي القرني إلي قسمين، القسم الأول في بيان نقاط القوة وعوامل التميز، والقسم الثاني في بيان المآخذ والاستدراكات.
لكن الوريقات لم تسعفنا ساعتها، فلم نذكر إلا خمسة فقط من عوامل التميز ونقاط القوة، وكانت كالتالي:
أولًا: بلاغة الألفاظ، ومتانة اللغة، وطلاقة اللسان:
ثانيًا: جودة التحضير:
ثالثًا: تكثيف العناصر الإقناعية:
رابعًا: التمكن من تطويع الصوت:
خامسًا: استغلال الأسلوب القصصي:
***
وها نحن نُتِمُّ ما بدأنا وننجز ما وعدنا، فنقول:
سادسًا: صنع اللوازم بقصد ترسيخها:
ونقصد باللازمة: "جملة أو أكثر يلتزم الخطيب أو المحاضر بتكرارها في ثنايا كلامه لغرض من الأغراض"، وقد اهتم الشيخ بصنع هذه اللوازم، وذلك مثل قول فضيلته: «هكذا علمتني الحياة في ظل العقيدة» فقد كررها في الجزء الأول من تلك المحاضرة ثماني عشرة مرة، وفي الجزء الثاني مثلها، فاصلًا بها بين كل نقطة والتي تليها، وقد وضَّح فضيلته مراده من تكرار هذه اللازمة قائلًا: «أي حياة تُعلِّم، وأي حياة تُدرِّس، وأي حياة تُربِّي أيها الأحبة؟ أهي حياة اللهو واللعب؟ أهي حياة العبث واللعب؟ أهي حياة الضياع والتيه؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية…»([1])، ومن نماذج ذلك أيضًا تكراره لجملة: «حروف تجر الحتوف» مرات عديدة، والأمثلة لذلك من كلام الشيخ كثيرة واضحة.
وهكذا يصنع الخطيب الأريب؛ فيتخير أهم فكرة يريد إبرازها والتركيز عليها فيجعلها لازمة لخطبته يكررها ويفْصِل بها بين عناصرها ونقاطها، فمثلًا: إن تكلم عن التجار وكثرة أخطائهم في زماننا فله أن يجعل لنفسه لازمة تقول: "لماذا يحشر التجار يوم القيامة فجارًا؟"، مقتبسة من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى وبر وصدق»([2])، ثم يجيب على هذا السؤال إجابة مختلفة في كل مرة، فيقول مرة: لأنهم يطففون الكيل والميزان، ومرة: لأنهم يخفون عيوب السلعة، ومرة: لأنهم ينشغلون بتجارتهم عن الصلاة وذكر الله… وهكذا، فهو أسلوب ما أروعه!
وقد يأتي خطيبنا باللازمة غير قاصد بها سوى الفصل بين كل فكرة وفكرة، كتكرير فضيلته للازمة: «يا رب ثبتنا على الإيمان، ونجنا من سبل الشيطان» مرات عديدة في محاضرة: "إياك والتلون".
ومن الخطباء من يخلط العناصر بعضها ببعض حتي يتوه السامع ويتحير، ولو فصل بين كل فكرة وأخرى لكان عونًا للسامع على فهمه.
سابعًا: التشويق:
فاستمع إليه وهو يقول: «فإلى صور من حياة رجل من أولئك الأخيار، رجل عظيم القدر رفيع المنزلة، عَبَدَ الله متأسيًا برسول الله، وجاهد في الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، بخسوه حقه، وهضموه منزلته، ولم يقدروه قدره…»([3])، ثم يواصل فضيلته التشويق لهذه الشخصية التي لم يكشف إلا بعد كلام طويل أنها: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، ومثل هذا فليفعل الخطيب الحاذق.
ثامنًا: حسن الاستنفار:
من مهمات الخطيب الأساسية أن يستنفر الناس إلى فعل الخير أو إلى مقاومة الشر… وشيخنا القرني يجيد فن الاستنفار؛ فيعلم كيف يستنفر من أمامه للعمل وكيف يرفع من همته، فتكاد وأنت تسمعه تتوثب توثبًا لتكد وتجهد في الدعوة لدين الله، بل ينتابك شعور أنه لا يمنعك من القيام في لحظتك للعمل إلا أن ينتهي الشيخ من كلماته، تحس بطاقة تتفجر داخلك، وببركان يلتهب في قلبك حرقة على دينك… وهذا عين ما نريد من كل خطيب وما يتمنى كل خطيب أن يصنع كلامه في سامعيه.
واستمع إليه الآن وهو يقول مستنفرًا الدعاة أنفسهم للتلاحم وسلامة الصدر: «إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزخرفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فرد أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها! أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يُعدُّ جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات.
فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟! أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟! أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟! إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يُبك ميت ولم يُفرح بمولود.
لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة بنيان، واغتياب وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين»([4]).
تاسعًا: ضرب الأمثال:
فإن ضرب المثال يوضح المراد ويقويه ويهبه الروح بعد أن كان ميتًا، ويجعل المعقول في منزلة المحسوس، وشيخنا من المجيدين في صنع ذلك، فانظر كم مثالًا ضرب في هذا المقطع الصغير الذي يقول فيه: «فوالله الذي لا إله إلا هو لا أرى مثلًا لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون على القمم الشماء، إلا كذبابة حقيرة سقطت على نخلة عملاقة، فلما همَّت بالانصراف قالت باستعلاء: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة فهل شعرت بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟!
ألم تر أن الليث ليس يضيره *** إذا نبحت يومًا عليه كلاب
لا يضير السماء العواء ولا أن تمتد لها يد شلاء، وإطفاء ضوء الشمس أدنى لراغب وأيسر من إطفاء نور الشريعة.
وكم من حروف تجر الحتوف! أرسلها لمن نشأ وتربى في حجر الأفاعي -أعني عدوه- فهو آلة صماء في يد عدوه يديره كيفما يشاء، ويريده على ما شاء فيجده أطوع من بنانه، يحركه للفتنة فيتحرك، عقرب لا تلدغ إلا من يتحرك ولا غرابة:
من كان في جحر الأفاعي ناشئًا *** غلبت عليه طبيعة الثعبان
وكم من حروف تجر الحتوف! أهديها بلا ود؛ لمن يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معًا.
بل إلى من جعلوا الفرع سلمًا للأصول، بل للوصول؛ على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادمًا له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم دارًا تؤوي الجميع، أكلًا للعنقود حبة فحبة مع لحافٍ وجبة.
فإنهم كقطيع لا عقول لهم *** يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف
وكم من حروف تجر الحتوف! اعرضها على من يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومة فيها بزرع جراثيم، كطبيب يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضًا، ثم يعيش على أمراضهم التي مكَّن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها»([5]).
فقد ضرب فضيلته في ثلاث دقائق فقط أثر من تسعة أمثلة، الأول: بالنخلة والذبابة، الثاني: بالليث والكلاب، الثالث: بضوء الشمس، والرابع: بحجر الأفاعي، والخامس: بالآلة الصماء، والخامس: بالعقرب، والسادس: بأبي دلامة، والسابع: بالعنقود الذي يؤكل، والثامن: بقطيع الغنم، والتاسع: بالطبيب.
عاشرًا: تقعيد القواعد:
فإنك تلمح في كلام الشيخ ما حقه أن يجري مجرى الأمثال، من قواعد يقررها في أماكنها ومقاماتها ينبغي أن تحفظ فلا تنسى، وقواعد ينقلها من كلام العلماء فيسقطها على أحوالها، فمن ذلك قوله في «حروف تجر الحتوف» نقلًا عن ابن حجر -بعد تبسيطه ليسهل حفظه-: «والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب»([6])، وما بنى محاضرته «هكذا علمتني الحياة» بجزئيها إلا على ست وثلاثين قاعدة، منها: «الأذى لا يهزم دعوة»، «إرضاء الناس غاية لا تدرك»، و«الدهر دول»، و«العصا أداة للتقويم»، و«البناء جد صعب، والهدم سهل جد سهل»، و«من عرف الحق هانت عنده الحياة»…
وحري بكل خطيب يود النجاح في مهمته أن يقعِّد القواعد في مواطنها؛ فإنها سهلة الحفظ على السامع، عظيمة الأثر فيه، وقد ينسى السامع ما قال الخطيب من كلام وقصص ومواعظ لكن تعْلَق في قلبه وعقله تلك القاعدة فلا ينساها، حتى وإن تفلتت منه ألفاظها، فإن معناها وفحواها منطبعان في وجدانه.
حادي عشر: عَدُّ النفس من المخاطَبين:
فمن الخطباء من إذا تكلم تعالى -بأسلوبه- فوق من يخاطبهم؛ يتكلم فيقول: "إنكم تقترفون كذا، وإنكم تخطئون في كذا، وأنتم قد حدتم عن الحق حين ارتكبتم كذا، وإن فعلتم كذا فسيصيبكم كذا…"، عازلًا نفسه مترفعًا بها فوقهم!
لكن خطيبنا اليوم -وكذا كل خطيب متواضع لبيب- يعدُّ نفسه فردًا من السامعين لا فضل له عليهم، فنسمع فضيلته يقول: «اللهم أعذني واخوتي من قول الزور وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون واخوتي مستكثري حجج كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:103-104]»([7]).
وهكذا ينبغي أن يكون الخطاب، ولا ننسى قولة أبي بكر في خطبته المشهورة: «وليت أمركم، ولست بخيركم».
ثاني عشر: بركة الإخلاص:
الإخلاص شيء داخل القلب، فما لنا عليه من اطلاع، لكن للإخلاص علامات وأمارات وإننا لنراها حاضرة مشعة متزاحمة في خطيبنا اليوم؛ وأقصد ذلك الشعور الذي ينطبع في قلبك ويظلل نفسك إذا استمعت إلى إحدى محاضرات الشيخ أو خطبه، تلك الهمة للعمل والتوثب إلى الاقتداء بما عرض الشيخ من النماذج التي يُكثر منها.
وكذا ذاك القبول الواسع، والبركة التي تسكن كلماته التي ما نزلت منزلًا -مسموعة أو مكتوبة أو منقولة- إلا ملأته خيرًا وهمةً وبكاءً على التفريط وطلبًا للجنة وخوفًا من سوء المصير، ونحسب ذلك كله من علامات إخلاصه، والله حسيبه.
ثالث عشر: شمول خطبه ومحاضراته جميع المجالات:
فإننا نجد من الخطباء من يحصر نفسه في نوع أو مجال ضيق من أنواع ومجالات ومواضيع الخطابة الرحبة، لا يتحدث إلا فيه، فترى جل خطبه في الرقائق أو العقيدة مثلًا، أو فقهية فقط، أو يحصر نفسه في السيرة لا يبارحها، أو يشغله تجدد الوقائع والحوادث عن التأصيل…
أما خطيب اليوم فما ترك مجالًا نعلمه إلا طرقه بخطبه ودروسه ومحاضراته؛ فمن الواقعيات: «غزة منك وإليك»، و«من أسباب تخلف المسلمين»، و«صراع الدعاة مع المنافقين»… وفي التقويم وتعديل السلوك: «عوامل بناء النفس»، و«كيف تبني نفسك»… وفي الرقائق والإيمانيات: «عقوق الوالدين»، و«الجنة ونعيمها»… وفي السير والغزوات والتراجم: «نظرات في غزوة تبوك»، و«أبو بكر الصديق»… ومن الوصفيات: «وصف الجنة»… فإنه مما يعاب على الخطيب مبالغته في جانب على حساب آخر.
——
([1]) من محاضرة: «هكذا علمتني الحياة»، الجزء الأول، الدقيقة: (5:17).
([2]) الطبراني في الكبير واللفظ له (4045)، وابن ماجه (2146)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1458).
([3]) من محاضرة: «أبو بكر الصديق»، الدقيقة: (6:22).
([4]) من محاضرة: «حروف تجر الحتوف»، الدقيقة (2:19).
([5]) نفس المحاضرة السابقة، الدقيقة (18:25).
([6]) وهذا نص كلام ابن حجر: «والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب»، فتح الباري (10/496)، دار المعرفة – بيروت، 1379.
([7]) من محاضرة: «حروف تجر الحتوف»، أول الدقيقة الثانية.
التعليقات