مهارة الخطيب في تناول المواضيع الخطيرة
يقسم المهتمون باللغة الأساليب اللغوية إلى سبعة أقسام رئيسة، يكون المعيار في التمييز بينها أحيانا قيمة الكاتب، وأحيانا المحل الذي يركز عليه الكاتب، وأحيانا حسب الموضوع، وأحيانا حسب العصر، ولذلك نجد الكثير من الكتاب يحاول الاقتراب من أسلوب كبار الكتاب، الذين تركوا بصمات واضحة في عالم الكتابة.
أما بالنسبة للخطيب فإن أهم ما يجب أن يهتم به هو أن يقترب من الأسلوب القرآني، الذي جاء لمخاطبة الإنسان في كل مكان وزمان، خاصة أنه أسلوب يخاطب البشر في كل ظروفهم وأحوالهم، ولا يؤثر في ذلك مصر أو عصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بهذا المخلوق وبظروفه بوما يناسبه، فتجد الأسلوب الذي يستعمله القرآن الكريم عند الحديث عن الجنة ونعيمها يختلف عن الأسلوب الذي يتناول النار وأهوالها –والعياذ بالله-، وتجد أن الأسلوب الذي يخاطب المؤمنين يختلف عن الأسلوب الذي يخاطب المنافقين، فاختلاف أحوال البشر يعني مخاطبتهم حسب أحوالهم، وتناول الموضوعات لا يمكن أن يكون على نسق واحد، بل إن أهمية الموضوع في حياة المخاطبين، ودرجة تأثيره عليهم تؤثر في نوعية الأسلوب الذي يجب أن يستعمله الخطيب في خطبته.
ومن الأساليب التي وردت في القرآن الكريم عند الحديث عن المواضيع الخطيرة والهامة والمؤثرة في حياة المسلم، أسلوب الخطاب المباشر، حيث عالج القرآن الكريم مواضيع معينة من خلال الأسلوب المباشر، دون أن يقدم لها بمقدمات ذات صلة بالموضوع المطروق.
وهذا الأسلوب يتوافق ونفسية الإنسان في المواضيع الخطيرة، فلو جئت تعاتب إنسانا قصّر في إنقاذ غريق، فإنك لن تحدثه عن أهمية الحياة، ولن تعدد له قيمة الروح الإنسانية، بل إنك تقرع سمعه بخطاب فيه توبيخ وتقريع شديد؛ لأنه الأنسب في هذه الحالة. ولو جئت تعاتب من فرّط في التبليغ عن حالة خطيرة، كانت نتائجها خطيرة، لوبخته أو خاطبته خطابا تحذيريا من عقوبة استهتاره بنتائج خطر حالٍ، كان يمكن أن لا تكون لو بلّغ عنها.
وهذا الخطاب المباشر يؤثر فيه تأثيرا بليغا، فهو من أوجه البلاغة العربية، التي من معانيها الإيجاز المناسب لحال المخاطب، ومن دواعي استعمال الإيجاز في اللغة العربية هزّ وجدان المتلقي، أو تحريك فكره الساكن، أو لفت انتباهه، وهنا يجب أن يتذكر الخطيب أن استعمال القرآن الكريم الخطاب المباشر في المواضيع التي يقرر فيها تقريرات معينة، هو أحد الأدلة على إعجاز القرآن الكريم، وأنّه معجزة ربانية خالدة لا يمكن لجميع البشر ولو اتحدوا أن يصلوا بلاغته وأسلوبه الخطابي، الذي يخترق النفوس، ويحرك الوجدان، ويسكن القلوب، ويصل الإنسان بالمعاني المقصودة بالخطاب المناسب.
وقد وردت في القرآن الكريم مواضيع عديدة تناولها الخطاب القرآني بالأسلوب المباشر، حيث طرح الموضوع على المتلقي للخطاب بأسلوب مباشر، ففي سورة التكاثر تحدث القرآن الكريم عن موضوع التكاثر المُلهي المُطغي مباشرة دون مقدمات، يقول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر].
وعند الرجوع إلى الدرس البلاغي الذي حوته السورة، نجد من أسرار القرآن الكريم وإعجازه الشيء الكثير والعجيب، فالمراحل التي يعيشها الإنسان لا تخرج عن خمس مراحل، مرحلة الطفولة واللعب، ثم ما بعد الطفولة ويتميز الإنسان فيها باللهو والبحث عما يلهيه عن الحياة في طابعها الجدي، ثم مرحلة الشباب؛ وتمتاز بالقوة والعنفوان وعشق الحياة وزينتها، وطلب ما فيها بحماسة وإصرار، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ما بعد الشباب، وقد يكون الإنسان فيها ممن حقق الكثير من رغباته، فحصّل مصدر رزق ثابت، وأسرة وأولادا، فيشعر أنه قد تمكن من الحياة وأمسك بها من تلابيبها، ثم تأتي المرحلة الأخيرة أو ما بعد الكهولة، وهنا يفترض أن يشعر الإنسان بقرب الرحيل، فإذا تم الشيء كان ذلك علامة على اقتراب النهاية، غير أن البشر في هذه المرحلة يشتغلون بالتفاخر بما حصلوه من مكونات التكاثر، فيتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد والجاه والمناصب، ويغرقون في طول الامل وحب الدنيا، ما يورثهم قسوة في القلب، وغفلة عن حقيقة النهاية التي تنتظرهم، تقول أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-: “لا يزال الكبير صغيرا باثنتين حب الدنيا وطول الأمل”.
إذن الخطاب القرآني هنا لم يركز على المراحل السابقة، بل ركز على المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة الأخطر، لقربها من الموت عادة، والدليل على ذلك أن الخطاب القرآني هنا ربط بين المرحلة الأخيرة من مراحل الحياة الإنسانية وبين الموت، وذكر ما يشير وما يرمز إليه؛ أي القبر.
وهذا ما جعل الأسلوب المباشر هو الأنسب في مخاطبة الإنسان في هذه المرحلة، فالذي يكون واقفا على حافة الجبل يجب أن يصرخ في وجهه حتى يتنحى ويسلم، ومن كان يمسك شخصا يريد خنقه ليقضي عليه، كان الواجب على من يريد نهيه وردعه أن يصرخ في وجهه ويقرعه ويهدده، لا أن يذكره بأهمية الحياة وقدسيتها في الإسلام.
كما أن السورة استعملت الخطاب المباشر أيضا عند استعمال الضمائر، فلم يكن الحديث بضمير الغائب، بل كان بضمير المخاطب ( ألهاكم التكاثر)، (زرتم المقابر)، (تعلمون)، هنا يلحظ الخطيب أن الحديث عن التكاثر لم يتناول تعريف التكاثر وحقيقته، ثم جاء الخطاب بصيغة المخاطب ليجعل الخطاب شديد الوقع في نفس المتلقي، وليشعر بقوة التقريع، وهيبة التوبيخ، وقسوة الإدانة، وجسامة الاتهام. ورهبة التقريع.
وبعد ترسيخ شدة الخطاب جاء الزجر الشديد، فتكرر لفظ ” كلا” مرات ثلاث، ومتتالية، ويقع الزجر في أذن المستمع وقعا عظيما، ثم يأتيه خطاب زاجر يتبعه خطاب زاجر آخر، ما يثير الرهبة في نفس المستمع.
وبعد الخطاب المباشر والزجر، جاء التوكيد، ومن إعجاز القرآن في هذه السورة، أن التوكيد جاء بكل أنواعه هنا، فنجد فيها التوكيد اللفظي (كلا ستعلمون)، والتوكيد المعنوي، (لترونّ) فكانت النون مؤكدة، ثم جاء باللام (لتسألنّ)، ثم بالاسم (عين اليقين)، ثم جاء بأسلوب القسم ( لترون الجحيم). والتوكيد يحاصر النفس في المعنى الذي تريد السورة إيصاله إلى المتلقي.
وبعد الخطاب المباشر والزجر والتوكيد، جاء التصعيد، فقوله تعالى ( لترون الجحيم) تهديد ظاهر بالعقوبة التي تنتظر الغافلين المباهين أنفسهم وغيرهم بالتكاثر، أما قوله تعالى: ( ثمّ لترونها عين اليقين)، هنا يتحدث القرآن الكريم عن حقيقة العذاب والتلبس به.
إذن على الخطيب أن يتبع الأسلوب القرآني المباشر في مثل هذه المواضيع، أي المواضيع الخطيرة، التي تؤثر في مصير المسلم في الدنيا والآخرة، وأن يكون بليغا، وتقتضي البلاغة مطابقة المقال للحال، وهذا يتحقق بثلاثة أشياء: أن يكون الخطيب متمكنا من اللغة العربية وأساليبها؛ لأن رصيده المتين في هذا الجانب يوفر له خيارات كثيرة، ثم العلم بالموضوع والواقع الذي يريد الحديث عنه، ثم التمكن من ربط الموضوع بالأسلوب المناسب، وهذا متحقق في المثال الذي سقناه هنا، أي سورة التكاثر.
وعليه فإن مهارة الخطيب في تناول المواضيع الخطيرة الهامة يجب أن تكون قصيرة، أسلوبها مباشر، مع استعمال الزجر والتوكيد، وإنهائه بالتصعيد، ولو أن خطيبين أرادا الخطابة في موضوع القتل مثلا: فقام الأولى إلى خطبته فأطال فيها، وجاء بمقدمات طويلة، ثم عريض طويل وخاتمة تشبههما في الحجم، لما أثر في المستمعين مثل التأثير الذي يتركه فيهم خطيب قام إلى الخطبة فخاطب المصلين حطابا مباشرا قصيرا، بليغا، يزلزل كيانهم، ويهز وجدانهم.
وهذا منهج قرآني خالد يُعلم الإنسان الكلام أو الحديث في المواضيع الخطيرة بأسلوب خطابي مباشر ودون مقدمات؛ لأن ذلك يظهر للمستمع خطورة الموضوع المطروق. ويوقظ نفسه الغافلة ويردعها.
وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن الكريم مرات عدة، مثل: سورة الكافرون ، حيث يتحدث القرآن الكريم عن حسم قضية لا تقبل المساومة ولا القسمة على اثنين، فعندما طلب الكفار من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعبد أصنامهم سنة، ويعبدون ربه سنة مقابل ذلك، نزل القرآن الكريم حاسما الموضوع، وكان الأسلوب الخطابي المباشر هو الأسلوب المستعمل، يقول الحق تبارك وتعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: 1-6]، وفائدة هذا الأسلوب تظهر في جعل المتلقي ينفذ المطلوب دون تردد.
ويستعمل القرآن الكريم الأسلوب الخطابي المباشر أيضا عند الحديث عن النماذج السيئة والحسنة، فعندما تحدث عن مصير أبي لهب باعتباره أحد الد أعداء الدعوة الإسلامية استعمل خطابا مباشرا، يقول جلّ جلاله: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) [المسد: 1-5].
فتأمل كيف بدأت السورة: تحدثت مباشرة ودون مقدمات عن نهاية أبي لهب، وعن مصيره المحتوم، ولم يتقدم هذا الخبر أي مقدمات، وهذا ما يجعل النفس تستمع إلى الخطاب وتتلقاه بنفس متلهفة، وآذان مصغية، فيورث ذلك أثرا بالغا في النفس.
وهناك أمثلة أخرى، كقوله عزّ وجلّ : ( ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: من 1-6].
ولأن الخالق تبارك وتعالى أعلم بما يناسب الإنسان، وبما يؤثر فيه، فإنه يعلمنا أن مخاطبة الإنسان في المواضيع الخطيرة بأسلوب مباشر أبلغ في التأثير، خاصة إذا كان لهذا الموضوع تأثير على مصيره في الدنيا والآخرة، فالآيات هنا –بدايات سورة العنكبوت-تتحدث عن تقرير حقيقة أو سنة من سنن الكون وهي سنة الابتلاء، وأن المسلم إذا اعتنق الإسلام فإنه ينتظر الابتلاء مباشرة، وأنه بمجرد إعلانه إسلامه يصبح هدفا مؤكدا لأعداء الملة، وعندما يتلقى المسلم هذا الخطاب فإنه يوطن نفسه على الصبر والجلد، على ما سيقع في حياته من محن وابتلاءات، وهذا بفضل الأسلوب المباشر الذي يترك أثارا واضحة على الوجدان والعقل المتلقي.
وقد استعمل النبي –صلى الله عليه وسلم- الأسلوب الخطابي المباشر في عدة مواضع ووقائع وخطب، مثلا في أحد الخطب، فقد صح في السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر وقال: “آمين، آمين، آمين”، وفي رواية : صعد رسول الله المنبر فلما رقي عتبة قال: آمين. ثم رقي أخرى فقال: “آمين”. ثم رقي عتبة ثالثة فقال: “آمين”.
قيل : يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين. فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له، فدخل النار ؛ فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما، فلم يبرهما، فمات، فدخل النار؛ فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده، فلم يصل عليك، فمات، فدخل النار؛ فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين” (صححه الألباني). في روايات أخرى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- طلب إحضار المنبر، وارتقاه وخطب هذه الخطبة.
وفائدة الأسلوب المباشر وصول المعنى المراد تبليغه للمستمع، والتأثير عليه، حتى يتحقق المراد من الخطاب؛ ولذلك يكون خطابا خاليا من التشبيه والاستعارة مثلا، ويكون فيه التكرار والتوكيد والزجر مقابل ذلك.
إن الخطيب إذا رأى أن الموضوع الذي يريد الحديث فيه من المواضيع الهامة والخطيرة، ومما يمس دين وأخلاق المسلم، فإن عليه اللجوء إلى هذا الأسلوب، وإن وجد صعوبة فيه عند البداية، فإن مرور الأيام والسنوات، والدربة عليه، وممارسته، ستجعل الخطيب يملك ملكة الخطاب المباشر المؤثر، وسيجد لذلك أثرا في الواقع، وفي نفسه، وفي نفوس المصلين.
وحتى يتمكن من ذلك فإن عليه البحث في موضوع الأساليب اللغوية التي وردت في القرآن الكريم، حتى يقترب من الخطاب القرآني المعجز في بلاغته، والمعجز في معرفة ما يناسب الإنسان من أساليب تؤثر فيه.
كما أن المواقع المهتمة بالخطابة، وكذلك وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في العالم العربي مدعوة إلى تدريب الخطباء على هذه الخطب، فقد يكون الخطيب متمكنا من الجانب النظري فيما يتعلق بالأساليب القرآنية الواردة في القرآن الكريم، إلا أنّه يعاني في الجانب العملي والتطبيقي، وبالتالي يكون رصيده النظري غير مساعد له في أداء واجبه الخطابي أداء راقيا، يرتقي إلى الآفاق العليا للقرآن الكريم.
ولو أردنا أن نرتقي بالخطبة في العالم الإسلامي فإننا مطالبون بالتوقف عن سياسة الترقيع، أو الاكتفاء بالمجهودات التي تعتمد على الحماسة والمزاج، والعشوائية، وعلى الخطيب الصادق البصير الرجوع إلى القرآن للنهل من معينه والانتفاع بالأساليب الواردة فيه، حتى يكون سببا في هداية الناس ونجاتهم من النار.
التعليقات