استراتيجية التعامل مع المناسبات الدينية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فإن المناسبات الدينية بأنواعها كنز لا يحسن استغلاله كثيرٌ من الخطباء، فهي جزء مميز من السيرة النبوية، ولست أبالغ حين أقول: أن السيرة النبوية هي القرآن الكريم مفسرًا ومفصلًا ومحكَّمًا، وهي الإسلام واقعًا عمليًا مشاهَدًا، وهي الشريعة حيةً نابضةً مفعمةً بالنشاط، وهي السنة متحركة متفاعلة متواثبة… والمناسبات الدينية هي تلك اللحظات الفريدة من السيرة النبوية التي تبلغ فيها الأحداث ذروتها وتصل فيها الأمور غايتها.
وليستقيم كلامنا فلا بد من تقسيم المناسبات الدينية إلى أنواع خمس:
النوع الأول: المناسبات الدينية المرتبطة بميعاد سنوي: وإن حصل في تحديد ميعاد بعضها خلاف فقد اصطلح على تعيين يوم معين لإحيائها، وهذا النوع له نماذج عديدة، ومنها: الهجرة النبوية التي اصطلح على إحيائها يوم غرة المحرم، والإسراء والمعراج وجمهور المؤرخين وأصحاب السير على أنه يوم السابع والعشرين من رجب، وتحويل القبلة وكثيرون على أنه كان في النصف من شعبان…
ومن هذا النوع أيضًا: الغزوات والسرايا: فهي معلومة الميعاد والتوقيت، وهي مشهورة معروفة كغزوة بدر وأحد والخندق والحديبية وفتح مكة وحنين… وكذلك المعارك الإسلامية الشهيرة في التاريخ الإسلامي كالقادسية واليرموك وعين جالوت وحطين… ومن هذا النوع أيضًا: العيدين؛ عيد الفطر وعيد الأضحى.
النوع الثاني: مناسبات غير معلومة التاريخ: أو لم يشتهر علم تاريخها، أو غير متصلة بالإسلام اتصالًا مباشرًا، ومن أمثلة هذا النوع: محاولة أبرهة هدم الكعبة المشرفة، وحادثة شق صدر النبي -صلى الله عليه وسلـم- وقد تكررت، وهزيمة الروم على يد الفرس والتي ذكرها القرآن، ويوم نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلـم- في غار حراء وابتداء بعثته نبيًا، ويوم الجهر بالدعوة وانتهاء المرحلة السرية، وكذا زيجات النبي -صلى الله عليه وسلـم-، وكذا يوم إسلام عمر وأبي ذر وغيرهما من الصحابة…
النوع الثالث: مناسبات شعائرية تعبدية: فهي وإن كانت معلومة التاريخ، فإنها متكررة دوريًا، ويغلب عليها الطابع التعبدي؛ فهي مناسبة تعبدية شعائرية، لن نبحث في الدروس المستفادة منها -كما في النوعين السابقين- بقدر ما نحث الناس على اغتنامها بالعبادة والتقرب إلى الله فيها.
ومن أمثلة هذه النوع من المناسبات: شهر رمضان، وليلة القدر منه خاصة، ولقد أفردته باستراتيجية خاصة للتعامل معه وحسن استغلاله([1])، وموسم الحج وأيامه، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وشهر الله المحرم والصيام فيه، ويوم عرفة ويوم عاشوراء، وشهر شعبان كمقدمة لرمضان والإكثار من الصيام فيه، وكذا العيد الأسبوعي للمسلمين؛ يوم الجمعة…
النوع الرابع: وقائع ومواقف طارئة في السيرة النبوية: كذلك الرجل الذي بال في المسجد، وكواقعة بريرة حين أعتقها أصحابها واشترطوا لهم الولاء، ويوم قدمت جنازة فامتنع -صلى الله عليه وسلـم- من الصلاة عليها لما علم أن على صاحبها دين… وقد أفردت لمثل هذه الوقائع استراتيجية خاصة كذلك([2]).
النوع الخامس: مناسبات دينية فردية شخصية: كأن يخرج أحد رواد المسجد إلى أداء العمرة -مثلًا- فهي بالنسبة له مناسبة تحتاج إلى تعليم وتوجيه وإرشاد، أو كأن يُرزَق أحد رواد المسجد بمولود فيأتيك -أيها الخطيب- سائلًا عما يجب عليه تجاه مولوده من تأذين في أذنه وحلق لشعره والتصدق بوزنه ذهبًا أو فضة، وتسميته، والعقيقة التي تذبح عنه، ويسألك عن أحكام النفاس… إلى غيرهما من المناسبات الخاصة.
إذا علمنا هذا، فإليك بنودًا أقترحها عليك أراها تمثل أفضل استراتيجية للتعامل مع أغلب هذه المناسبات الدينية:
البند الأول: إحياء مواتها:
يقصد بـ “بالموات” عند الفقهاء: “ما لا ينتفع به من الأراضي؛ لانقطاع الماء عنه، أو لغلبة الماء عليه، أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة”([3])، وإحياء الموات يكون “بتفجير ماء وبإخراجه وببناء وبغرس وبحرث وتحريك أرض وبقطع شجر وبكسر حجرها وتسويتها”([4])، قال –تعالى:(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5].
ولكننا نقصد بالموات هنا: المناسبات الشرعية التي فقدت جوهرها ومعناها وصارت لا يستفاد منها عبرةً، ولا يُستقى منها درسًا، وأصبح إحياؤها بالطعام والشراب والإنشاد والزينات والابتهالات والخطابات المكررة الرتيبة التي خلت من أي روح، ثم… لا شيء غير ذلك.
ونقصد بإحيائها: بعث الحياة في تلك المناسبات الشرعية التي ماتت المعاني الحقيقة لها، وإلباسها ثوبًا قشيبًا يليق بمكانتها، عن طريق استخراج مضمونها الأصلي والاستفادة منها… ومن وسائلك -أيها الخطيب اللبيب- لبعثها حيةً بعد أن أماتها الناس ما يلي:
أولًا: أعد إليها الروح لترجع حيةً نابضةً: بمعنى: أن تُخرِجَها من الكتب والسطور لتجعلها تمشي وتتحرك في الطرقات والدور؛ فاحكي أحداثها إلى رواد مسجدك -حين تحكيها- كأنهم يعيشونها؛ كأنهم يخرجون مستخفين ليلة الهجرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وحبات التراب التي ينثرها -صلى الله عليه وسلـم- على رءوس المشركين تمر بجانبهم وتتساقط من حولهم… أشعرهم بأنفاس أبي بكر الحارة وهو يرقب كفار مكة وقد تبعوهم… اجعلهم يرون قوائم فرس سراقة وهي تغوص في الرمال… أوصل إلى قلوب مستمعيك فرحة الأنصار إذ أبصروا الموكب النبوي يَقْدُم من بعيد… أشركهم في روح المؤاخاة والمواساة التي أحاطت بالمهاجرين والأنصار…
وإذا ما قصصت عليهم قصة بناء المسجد فإياك أن يحسوا منك أنها مجرد حكاية تروى للتسلي، بل اجعل الطين الذي يخلطه الصحابة يمس ثياب سامعيك، دعهم يحسون بثقل الأحجار التي ينقلها الصحابة لمكان البناء… وإن تكلمت عن حفر الخندق فاجعلهم يتخيلون حجم المحنة والتهديد والخوف الذي كان يحياه أهل المدينة، واجعل غبار الحفر يزكم أنوفهم…
باختصار: أيها الخطيب الفصيح أحسن العرض والتصوير والتأثير حتى تنتقل بأرواحهم فتطيف بتلك الأحداث وتحياها مع أبطالها، كن دقيقًا في وصفك واحرص على التفاصيل المؤثرة التي تترك في القلب أثرًا وتعمل في الوجدان عملًا…
ثانيًا: ترجم لأبطالها: بمعنى: أن تُعرِّفهم -بشكل مختصر- على كل صحابي -أو مشرك- اشْترَكَ في أحداث المناسبة التي تتكلم عنها؛ فكلمهم عن دار الندوة وكفارها والقبائل من حولها إذ اجتمعوا للخروج لحرب المسلمين يوم الخندق، وعرِّفهم بعمرو بن ود؛ من كان بين العرب! وكيف بارزه عليٌ فقتله عليٌ… وعرِّفهم بأشهر قتلى بدر من المسلمين ومن الكافرين، وعرّفهم بنعيم بن مسعود بن عامر؛ من كان وكيف أصبح وماذا قدَّم للإسلام… ولا تترك -أخي الخطيب- شخصية بارزة مسلمة أو كافرة إلا عرفتهم أهم الأشياء عنها.
ثالثًا: صف مكان حدوثها وأسبابها وحدد نتائجها: فكم تبعد حنين عن مكة؟ وأين هي القادسية؟ وأين الصخرة التي ربط فيها النبي -صلى الله عليه وسلـم- البراق؟ وما عين جالوت؟ وأن تقع حطين؟ ومن كان المنتصر في معركة “البويب” وبين من كانت؟ وهل وصل المسلمون المجر وبم كانت تسمى؟ ومتى فُتحت “النوبة” ومن فتحها؟…
فإن أعطيتَ -أيها الخطيب- جميع التفاصيل المؤثرة في الواقعة أو المناسبة، وأحسنت العرض حتى عاشها مستمعوك ونسوا ما حولهم من دنياهم -كما يشدهم الفيلم والمسلسل والمباراة- فقد استطعت أن تحييها في قلوبهم حياة ترافقهم أعمارهم كلها، لا موت لها إلا بموتهم هم.
البند الثاني: إسقاطها على الواقع:
في البند الأول تَعَرَفْنا كيف نحي المناسبة داخل كيان المستمع وقلبه وعقله وفؤاده، وهنا نتعرف كيف نجعله يطبقها في ليله ونهاره وروحاته وغدواته، كيف يستفيد منها في واقعه وحياته، كيف يحيها في مجتمعه وأسرته ومعاملاته… ومن وسائل تحقيق ذلك:
أولًا: استحضار المناسب منها في الأزمات: ففي واقعنا الذي نحياها، ومع تكالب الأعداء علينا واضطهادهم للإسلام وشعائره وتضييقهم على دعاته وحصارهم لكل نوافذ النور والهداية… في هذه الظروف نستحضر ظروف غزوة الأحزاب؛ حيث تكالب على المسلمين جميع قبائل شبة الجزيرة العربية وتعاهدوا على استئصال الإسلام والمسلمين من المدينة المنورة، تلك الشدة التي وصفها القرآن قائلًا: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا…) [الأحزاب: 10-12]، ثم التأمل كيف انقشعت تلك الغمة بخفيٍ من جند الله؛ تلك هي الريح التي اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم… فكذلك سيأتينا فرج الله بجند من جنده نعلمه أو لا نعلمه بشرط: أن نتقي ونصبر.
وفي حال الفقر والضنك والغلاء نستحضر في نفس الغزوة ما رواه جابر -رضي الله عنه- قائلًا: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: “أنا نازل”، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا… فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي -صلى الله عليه وسلم- والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: “كم هو” فذكرت له، قال: “كثير طيب”، قال: قل لها: “لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي”، فقال: “قوموا”، فقام المهاجرون والأنصار… فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية…([5])، فلنر كيف حلت البركة في الطعام، وذلك الأمر قابل أن يتكرر -ولو بنسبة أقل- إذا اتقى الناس ربهم؛ قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96].
ثانيًا: الاستعداد لتقليدها عند الاحتياج: فمثلًا: قد هاجر النبي -صلى الله عليه وسلـم- فرارًا بدينه من مكة إلى المدينة، فالهجرة: هجرة حقيقية من بلاد الكفر إلى بلاد الاسلام، فإن كنت في بلد غربي أو شرقي أو حتى عربي ولم تستطع إقامة شعائر دينك فطبق الهجرة العملية، وفي بلادنا هذه يبث الخطيب في سامعيه الاستعداد للفرار بالدين وتقديمه على الوطن والأهل إن تحتم ذلك في زمن من الأزمان… فإن لم يتحتم ذلك ولم نحتج إليه، فإن الجميع محتاجون إلى هجرة معنوية؛ هجرة من المعصية إلى الطاعة ومن الكسل إلى النشاط ومن التسويف إلى الحزم…
وإن لم نستطع فعل ذلك -حقيقةً- في بعض المناسبات كتحويل القبلة مثلًا؛ فإن الكعبة قبلتنا إلى يوم القيامة، فإن في الإمكان تحويل قبلتنا القلبية من التوجه إلى أهل الغرب أو أهل الشرق -نبتغي هدايتهم!- إلى التوجه إلى الإسلام وحده جملةً وتفصيلًا، وكذا تحويل الانتماء من العروبة والقومية والقبلية إلى الإسلام ولا شيء سواه، وكذا تحويل الاعتزاز بالعائلة والمنصب والثروة… إلى الاعتزاز بالإسلام، وأيضًا تحويل النية القلبية من طلب الدنيا إلى طلب الآخرة…
ثالثًا: الاحتفال بالقلب بما لا يصح الاحتفال به بالجوارح: فمثلًا، قد أفتى المحققون من العلماء أنه لا يشرع الاحتفال بالمولد النبوي وأن الاحتفال به من البدع، لكنني لا أتصور أن يفتي أحد بأن الفرح القلبي بيوم ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلـم- محرم! فلو تكلمت في يوم ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلـم- بأنه كان يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع فلما سئل عن ذلك أجاب: “ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت – أو أنزل علي فيه-“([6])، ولو قلت: هي فرصة جيدة لكتابة ميلاد جديد للنفس؛ من خلال توبة تتطهر بها من أوزار الذنوب فتعود نقيًا بريئًا طاهرًا فكأنما ولدت من جديد…
ولو قلت في تلك المناسبة: أن النبي -صلـى الله عليه وسلم- ولد ولم يمت؛ فهو حي بيننا بذكراه فمن الذى ينساه، وهو حي بسنته ودينه، وهو حي في الأذان لكل صلاة؛ “وأشهد أن محمدا رسول الله”، وهو حي بصلاتنا عليه؛ “ما من أحد يسلم علي، إلا رد الله -عز وجل- إلي روحي حتى أرد عليه السلام”([7])، فكأن روحه -صلـى الله عليه وسلم- لا تفارقه، وهو حي بأمته وعلمائها الذين هم ورثة الأنبياء… لو قلت هذا وما شابهه فلا أظن أن يقول أحد بمنعه، بل هو من الأمر بالمعروف المأمور به.
——————
([1]) ينظر: مقال: “استراتيجية الخطيب في رمضان”.
([2]) ينظر: سلسلة: “احتواء الوقائع والأزمات – الأزمات النفسية الوجدانية”، ونشر منه إلى الآن جزئين.
([3]) الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (4/383) الناشر: دار احياء التراث العربي بيروت لبنان.
([4]) التاج والإكليل لمختصر خليل لمحمد بن يوسف المواق (7/516)، دار الكتب العلمية.
([5]) البخاري (4101)، ومسلم (2039).
([6]) مسلم (1162).
([7]) أحمد (10815)، وأبو داود (2041)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 2266).
التعليقات