دواعي قوة الخطيب
تنقسم دواعي قوة الخطيب إلى قسمين: أساسي، وفرعي.
القسم الأساسي منها كالآتي:
1/استعداده الفطري: ويمكن له أن يقوي هذا الاستعداد وينمِّيه بالتدريب، وكثرة مزاولة الخطابة.
2/اللسَن والفصاحة: ومنه حسن المنطق، وصحة إظهار الحروف، ثم قوة التعبير، واختيار الألفاظ.
3/التزود بالعلوم من شتى الفنون: وهذا يساعده على الذي قبله ويمده في كل موقف وعلاج كل موضوع.
4/حضور البديهة: وهي الَّتي تعينه على مواجهة الطوارئ حسَب مقتضيات المواقف المختلفة.
5/معرفة نفسيَّة السَّامعين: ليتجاوب معهم ما أمكن؛ ولهذا العنصر أهمية كبرى؛ لأنه آذان السامعين، والنافذة الَّتي ينفذ منها إلى القلوب.
6/العواطف الجياشة بمعاني الموضوع الذي تتناوله الخطبة: وإيمان الخطيب بفكرته، وثقته بنجاحه.
والعاطفة خاصة هي الطاقة الَّتي تحركه، والقوة الَّتي تدفعه، كما أن إيمان الخطيب بفكرته هو الأساس الذي يرتكز عليه، والدعامة الَّتي يقوم عليها بين الجماهير، وثقته بالنجاح هي الرابطة بين موضوعه وشعور الجماهير.
أما العوامل الفرعية، فهي عوامل شكلية تكسب الخطيب هيبةً ووقارًا تدعم موقفه منها:
1/حُسن سَمْتِه: مما يَلفِت الأنظار إليه ويُعلِي قدره قبل تحدثه.
2/رَوعة إلقائه: وتكييف نبرات صوته، وحُسْن جَرسِه مما يستولي على أسماع الحاضرين.
3/حسن إشارته: ومجيئها في مواضعها عند الحاجة.
4/إخلاصه، وسمو أخلاقه، وحسن سيرته: وخاصَّة في الخطابة الدينية، وقد سمع الحسَن البصري – رحمه الله – خطيبًا، ولم يتأثر به فقال: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي".
وأخيرًا؛ مراعاة كل ما يلزم قبل الإقدام على الخطابة.
عيوب الخطابة، وما ينبغي للخطيب تجنُّبه:
تنقسم العيوب في الخطابة إلى قسمين:
1 – قسم خَلْقي: في الخطيب يتعلق بالنطق، كاللثغ، والفأفاة، والتأتأة./
أ – واللثغ: هو تغيير بعد الحروف كالراء ينطقها غينًا أو ياء أو بينهما، ويرى كبار العلماء أنه أخفها بل ويستعذبها بعض الناس ويعدها الجاحظ من (محاسن النبلاء والأشراف)، وواصل بن عطاء من كبار الخطباء وكان ألثغ في الراء، فكان يحاول مجانبتها باستعمال كلمات خالية من الراء بدلاً مما هي فيها.
ومن طريف ما ينقل عنه في بشار بن برد يرد عليه قال: "أما لهذا الأعمى الملحد المشنَّف المكنَّى بأبي معاذ مَن يقتله، أما والله، لولا أن الغيلة سجيَّة من سجايا الغالية لبعثت إليه من يَبْعَج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله أو في حفله"، فتراه قد جانب الراء في (بشار)، وفي (المرعث)، وفي (ابن برد) واستبدلها بأوصافه المشنَّف، أبي معاذ، واستعمل (الملحد) بدلاً من (الكافر)، واستعمل (بعثت) بدلاً من (أرسلت)، و(يبعج) بدلاً من (يبقر)، و(مضجعه) بدلاً من (فراشه)، و(منزله) بدلاً من (داره).
ومثل ذلك ما حُكِيَ من أن بعض الناس أراد إحراجه وهو يخطب فناوله ورقةً مكتوب فيها: "أمَرَ أمِيرُ المؤمِنِين بِحفر بئر على قارعة الطريق؛ ليرِدَه الجائي والرائح"، فتناولها وعلم المقصود منها لكثرة الراء فيها، فقال: "حكم الخليفة بشق جب على جانب السبيل ليتزود منه الجائي والغادي"، ومثل ذلك وإن كان لا يخلو من الصنعة إلاَّ أنه يعطي صورة لمحاولة تجنُّب اللثغة في الخطابة.
ب – والفأفأة: كثرة ظهور الفاء في الكلام لثقل في اللسان، ومثلها التأتأة، وبعض الناس يظهر ذلك في نطقه العادي، فإذا أخذ في الخطابة، قل ظهوره في كلامه، إما لحماسة، أو لسرعة إلقائه، أو لشدة عنايته.
2/وقسم عارض أثناء الخطابة: كالحصر، والإعياء، والاستعانة.
أما الحصر: وهو احتباس اللسان عن الكلام، فقد يطرأ على الخطيب بسبب الدهشة مما يفجأ نظره أو سمعه، أو بالحيرة مما يواجهه أو يتوهمه، قال أبو هلال العسكري: "الحيرة والدهشة، يورثان الحبسة والحصر، وهذا من أخطر المواقف على الخطيب، سرعان ما تظهر آثاره على وجهه، فيشحب لونه، ويتصبَّب عرقه، ويجف ريقه، وربما دارت رأسه، وطنَّت أذنه، وخارت قواه، وقل أن يوجد لهذه الأزمة حلٌّ إلاَّ جَلَدَ الخطيب وقوة شخصيته، وخير وسيلة لتدارك موقفه، إما بالجلوس وتناول شيء من الماء، أو طلبه إن لم يكن موجودًا، ولو لم تكن لديه شدة حاجة، وإما بتناوله كتابًا أو جريدةً أو أوراقًا يقلب صفحاتها، أو قلما يتأمل فيه، أو أي شيء يتشاغل به نسبيًّا، حتى تذهب عنه الدهشة، وهو في أثناء ذلك يعالج بفكره افتتاح الكلام، ولو أن يقرأ فاتحة الكتاب، ومن هنا كانت قوة شخصية الخطيب وإعداده للخطبة أقوَى عدة لنجاح الخطابة.
وقد يسعف الخطيب عبارة موجزة تغطي الموقف فيكتفي بها، وكأنه ما أراد إلاَّ هي فيحسن التخلُّص من المأزق بها.
صور من ذلك:
1/في أول خلافة عثمان – رضي الله عنه – صعد المنبر ليخطب الناس فأرتج ، فقال: "أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن أَعِشْ تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا"[1]، هكذا يروي علماء الأدب، وابن كثير يقول: "لم أجد ذلك بسند تسكن النفس إليه"[2].
2/ما ينقل عن ثابت بن قطنة على منبر سجستان يوم الجمعة، وقد أحصر، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عِيٍّ بيانًا، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوَّال:
فَإنْ لا أكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإنَّنِي *** بِسَيْفِي إذَا جَدَّ الْوَغَي لَخَطِيبُ
فكان اعتذاره أبلغ من خطابة غيره، حتى قال خالد بن صفوان لما بلغه خبره: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه".
3/وقال المبرد: حُدِّثْتُ أن أبا بكر – رضي الله عنه – ولَّى يزيد بن أبي سفيان رَبْعًا من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأُرْتِجَ عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عي بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال"، فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: "هن مخرجاتي من الشام، استحسانًا لكلامه".
4/وقد يسعف الخطيب نفسه بحسن تصرفه في مال أو نحوه، كما فعل عبدالله بن عامر بالبصرة، لما أرتج عليه يوم العيد، فقال: "والله، لا أجمع عليكم عيًّا ولؤمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي".
وعلى الخطيب أن يحتال ليخلص نفسه ولا يُرمَى بما يجري على لسانه بدونه أن يزنه، فقد يوقع نفسه في أسوأ مما هو فيه، كما وقع من مصعب بن حيان، دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه، فقال: "لقنوا موتاكم (لا إله إلاَّ الله)"، فقالت أم الجارية: "عجل الله موتك، ألهذا دعوناك".
وقريب منه ما وقع لعبدالله العشري لما أرتج عليه، وهو على المنبر، فقال: "أطعموني ماء"، فعُيِّر بذلك؛ لاستعماله أطعموني بدل اسقوني.
أما الاستعانة، فهي: ما يتحيَّل به الخطيب لاستجداء فكره وكلامه، وقد يصبح عادة، وهو لا يدري.
من ذلك أن يعبث بأصابعه أو مسبحته أو أنفه أو لحيته أو عمامته… إلخ، أو أن يأتي بعبارات ليست ذات معنى جديد: إما إعادة لعبارات مضت، أو قوله كمثل: "علمتم، أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أفهمتم ما مضى؟" قال رجل للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل ما أفهمك حاجته من غير إعادة، ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ، قال: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني، واستمع إلي.
قال المبرد (1/ 19): أما ما ذكرناه من الاستعانة فهو: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه؛ ليصحح به نظمًا أو وزنًا إن كان في شعر، أو ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة، مثل قولهم: ألست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيِيُّ بفتل أصابعه، ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح، وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء:
مَلِيءٌ بِبَهْرٍ وَالْتِفَاتٍ وَسَعْلَةٍ *** وَسَمْحَةِ عَثْنُونٍ وَفَتْلِ الأصَابِعِ
وقال رجل من الخوارج يصف خطيبًا منهم بالجبن، وأنه مجيد لولا أن الرعب أذهله:
نَحْنَحَ زَيْدٌ وَسَعَلْ *** لَمَّا رَأى وَقْعَ الأسَلْ
وَيْلُمِّهِ إذَا ارْتَجَلْ *** ثُمَّ أطَالَ وَاحْتَفَلْ
قوله (ويلمه)، أي: ويل لأمه، عبارةُ تعجب، أي: إذا ارتجل كان فصيحًا وأطال واحتفل، ولكنه نحنح وسعل لما رأى وقع السلاح.
وقد يتعود الخطيب بعض تلك الأشياء، فتصبح ملازمة له بدون حاجة، فليحذر المتكلم التعود عليها، وأحسن طريق لتجنُّب هذه العيوب، هو حسن التحضير، والإيجاز في التعبير، والتمهُّل في الإلقاء، حتى يكون كلامه بقدر ما يسعفه تفكيره.
التعليقات