مقتضى الحال في الوعظ
أذكر أنه في يوم عرفة في أحد مواسم الحج قام أحد أهل العلم الأكابر، وألقى كلمة بعد الظهر في أحد المخيمات الكبيرة، وكانت كلمة موجزة جامعة اشتملت على وعظ الحاضرين، وتذكيرهم بعمل ذلك اليوم، وتوصيتهم باغتنامه بالدعاء، وقوة الرجاء، والانكسار لله، والتذلّل بين يديه. وكانت تلك الكلمة مُعَدَّة من قبل القائمين على ذلك المخيم.
وبعد أن انتهى ذلك العالم من كلمته قام شخص آخر قليل العلم، وشرع يتكلم، وأطال، وكرر، وخرج عن الموضوع، مما جعل كلمته تَزِلُّ عن القلوب؛ فَعَرَّض نفسه للذم، وجعلها في موقف لا ينبغي؛ حيث تكلم بعد ذلك العالم، وأسهب في الكلام، مع أن كلمته لم تكن مدرجة من قبل في برنامج القائمين على المخيم. ولو أنه اكتفى بالكلمة التي كانت قبله لكان خيراً له، ولا عِطْر بَعْدَ عروس -كما في المثل السائر-.
وفي أحد مواسم الحج قام أحدهم، وألقى كلمة عَصْرَ يومِ عرفة، وأطال فيها، حتى انتصف العصر دون أن يراعي أن ذلك الوقت هو لُبُّ الحج، وأنه ليس موضعَ إطالةٍ وتشعيب. وأذكر أن أحدهم ألقى كلمة صبيحة المزدلفة بعد صلاة الفجر، وأطال فيها، وتشعب في الحديث بما لا ينبغي الحديث عنه في مثل ذلك اليوم، حتى اقترب وقت طلوع الشمس، ونسي أو جهل أن هذا الموضع موضع دعاء، وفَوَّت على نفسه وعلى الحاضرين تلك الفضيلة العظيمة. ولو أنه ذكَّرَهم بعمل ذلك اليوم تذكيراً موجزاً لكان خيراً له وللحاضرين.
وفي أحد أيام التشريق ألقى أحدهم كلمةً، وصار يرمي الحجاج الحاضرين أمامه بسياط من اللوم والتقريع حتى أصابهم الملل، والضيق. وأولى لهذا ثم أولى له أن يذكرهم بسعة رحمة الله، وأن يُقَوِّيَ رجاءهم به -عز وجل- فإذا لم يقوَ رجاؤهم في تلك الأيام فمتى يقوى؟! ثم إن الناس الذين يستمعون لمن يتكلم ليسوا على درجة واحدة من جهة العلم، والثقافة، والمزاج، بل هم مختلفون متباينون، ولكن ذلك يغيب عن بعض المتكلمين.
فهذه المواقف وما جرى مجراها تُبِيْنُ عن قلة فقه ومراعاةٍ لمقتضيات الأحوال؛ فلقد غاب عن أولئك ضيق المكان، والزمان، وغاب عنهم ملاءمةُ الكلام لأحوال السامعين، وأن طرائقه تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ ولهذا عُرِّفت البلاغة بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى حال السامعين.
ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن يتعرف المرء على أحوال الناس، وأن يراعي عقولهم، فذلك دليل على حسن التصرف، وسبب في القوة والتأثير؛ فالخبرة بما للطوائف والبيئات من أحوال نفسية، وإلقاء الدعوة بالثوب الملائم لهذه الأحوال موكولٌ إلى ذكاء المتكلم.
وهكذا يتبين لنا أن مراعاة مقتضيات الأحوال من أمضى أسلحة المتكلم، فإذا اجتمع مع ذلك براعة الأسلوب كان نوراً على نور؛ فذلك مما يأخذ بالألباب، ويجعل الموعظة تأخذ طريقها إلى القلوب؛ فالعمل على إنقاذ النفوس من أودية الغواية، والإقبال بها إلى مطالع السعادة مسلك وعر، ولا يمرّ فيه على استقامة تامة إلاّ من بلغ في صناعة البيان أمداً قصِيّاً.
ولا يكفي في الدعوة أن يكون في يد القائم بها حجة، أو موعظةٌ يلقيها في أي صورة شاء؛ ذلك أن المخاطبين يختلفون ذوقاً، وثقافةً، واختلافَ زمنٍ وبيئةٍ -كما مر-.
ومن اللائق أن تُصاغ دعوةُ كلِّ طائفةٍ في أدب يليق بأذواقها وثقافتها؛ ذلك أن الموعظة ثقيلة على السمع، مُسْتَحْرَجة على النفس؛ لاعتراضها الشهوة، ومضادتها للهوى، حتى قال يونس بن عبيد: "لو أُمرنا بالجزع لصبرنا". يشير إلى ثقل الموعظة على السمع، وجنوح النفس على مخالفتها. ولكنَّ صَوْغَها بأسلوب رائع يجعلها خفيفةً على السمع، سهلة النفوذ إلى القلب.
ولا يعني ذلك أن يتكلف الواعظ السجع، ويتحرى دقائق الإعراب، ووحشيَّ اللغة. وإنما المقصود أن يلبس موعظته ثوباً جميلاً يُفهم، ويُستحسن، ويَقَعُ موقعه في القلوب. فها هو ذا ابن الجوزي –رحمه الله- -وهو الإمام المتمرس في الوعظ وأساليبه- يقول: "فالتحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بِمُرِّ الحقِّ، إلاّ أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم، بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه. وهذا يحتاج إلى صناعة؛ فإن مِنَ العوام مَنْ يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقاد ببيت شعر. وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ؛ ليجمع مطالبهم. ولكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر المِلح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق".
ولقد كانت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك؛ فإنها كانت محفوفة بما يقرب العقول إلى قبولها، وتألف النفوس إلى سماعها؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- يراعي في إبلاغها الطرق الكفيلة بنجاحها؛ فيورد لكل مقامٍ مقالاً يناسبه، ويكسو كل معنًى من المعاني ثوباً يليق به، ويخاطب كل طائفة على قدر عقولهم، ويلاقيهم بالسيرة التي هي أدعى إلى إقبالهم، وأسرع أثراً في صرفهم عن غوايتهم. وخلاصة القول أن الوعظ عمل جليل، وله -في نظر الشارع- مقام رفيع.
فالوعظ هو الدعوة إلى ما فيه خير وصلاح، والتحذير مما فيه شر وفساد. والواعظ هو الذي يرشد الجاهلين، وينبه الغافلين، ويعالج النفوس الطائشة مع أهوائها؛ ليعيدها إلى فطرتها السليمة من الإقبال على الفضائل، والترفّع عن الرذائل. ولكنَّ القيامَ بهذا العمل جهادٌ يحتاج إلى ألمعيَّة مهذبة، ودراية بالطرق الحكيمة، علاوة على العلم الذي يُميَّز به بين الحق والباطل، ويفرَّق به بين المعروف والمنكر.
ثم إن العلم والنباهة، وحكمة الأسلوب لا تأتي بثمرتها المنشودة إلاّ أن يكون الواعظ طيب السريرة، مستقيم السيرة. كما أن الواعظ يحتاج إلى لين الجانب، وترك الترفّع، ويحتاج إلى أن يكون معتنياً بمظهره، آخذاً أهبته، وأن يكون قويَّ الملاحظةِ، حاضر البديهة، مراعياً ظروفَ المكان، والمدة الزمنية للكلمة. كما يحسن به مراعاة مشاعر الحاضرين، وأن ينوّع في أساليبه، وأن يحسن الاستفتاح، ويترسل في الكلام، ويحسن الختام. فهذه آداب الموعظة، وأدواتها على سبيل الإجمال فإذا أخذ بها الواعظ أثمر وعظه، وعَظُمَ في النفوس وَقْعُهُ.
التعليقات