تنسيق الخطبة (2/2)
ومِن أحسن ما آذن بالختام؛ خاتمة سورة إبراهيم: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِه…ِ) [إبراهيم: 52]، ومثلها خاتمة سورة الأحقاف، وكذا خاتمة سورة الحجر بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، وهو مفسر بالموت فإنها غاية في البلاغة، وانظر إلى سورة الزلزلة كيف بدأت بأهوال القيامة؟
المطلب الثاني:في الإثبات:
وفيه مبحثان:
هو في اللغة: التمكين، يقال: أثبت الأمر: جعله مكينًا، وفي الاصطلاح: تأييد القضية بالبرهان، وهو قطب الخطابة وعِمادُها، فإن كان معقولاً متين الدَّعائم؛ تلقَّاها الناس بالقبول، وإن كان ضعيفًا واهيًا؛ سَقَطَتْ كما يسقط البناءُ القائِم على أساسٍ ضعيف، وهو نوعان:
إيجابِي:وهُو ما اشْتَمَل على تصديق القضيَّة وتعزيزِها بالأدِلَّة الواضحة، والحُجَجِ الدَّامِغة، ويُسمَّى التبيان.
وسلبي: يفنِّد به الخطيب حجج الخصم.
المبحث الأول:في بيان القضية:
وطريق التبيان معرفة البحث والجدل على ما هو مبسوط في علمي المنطق وآداب البحث، وأمرهما هين عليك، إلا أن القياس المنطقي يختلف عن القياس الخطابي من وجهين:
الأول: أن المنطقي يتبع اليقينيات، أما الخطابي فيستند إلى المقبولات والمظنونات؛ لكفايتها في الإقناع كما علمت.
الثاني: أن المنطقي عادة لا يتصرف في القياس بخلاف الخطابي، فإنه يتصرف في المقدمات بالتقديم والتأخير على ما يراه أقرب لغايته، وأوفق بمقصوده.
المبحث الثاني:في التفنيد:
ويسمى-أيضًا-النقض، وهو في اللغة: التكذيب والتجهيل، وفي الاصطلاح: هو قسم من الخطابة يخطِّئ به المتكلم رأي خصمه، ويرد على حججه، والمطلوب تفنيده في الخطابة أصناف ثلاثة:
الأول: ما يسبق إليه توهم السامع، والأولى أن يفنده الخطيب في صدر خطابه كما لو أراد حمل الجند على الجهاد، فإن توهم الجند الخوف من العدو فلا ينجح كلامه فيهم ما لم يبطل خوفهم منه في مبدأ كلامه ببيان تفوقهم عليه ولو من بعض الوجوه.
الثاني: ما يورده الخطيب على نفسه؛ لكثرة علوقه بأذهان الناس؛ ليبطله، ويبين خطأهم فيه، كتفنيد حجج من يتهاون بالمعاصي؛ اتكالاً على حلم الله، وكرمه، وسعة رحمته، أو من يرجئ التوبة رجاء أن ينيب إلى ربه في آخر حياته.
الثالث: ما يأتي به الدفاع أمام القضاء في المنازعات، وهذه المحاجة تقدم أو تؤخر بحسب مقتضيات الأحوال.
المطلب الثالث:في الختام:
هو آخر ما ينتهي إلى آذان السامعين من كلام الخطيب، ويسمى حسن الانتهاء وحسن المقطع، وكما يجب التألُّق في المطلع تَجِبُ البراعة في المَقْطعِ، إذْ هُوَ الأَثَرُ الباقي في نُفُوسِ السَّامعين بعد الإتمام، وآخر ما يتردَّدُ صداه في قلوبِهم، وبه تتم الفائدة، وأحسنه ما آذن بانتهاء الكلام، بأن يشير المتكلم في كلامه إلى ما يشعر بانتهاء الغرض المقصود، وأمثلة حسن الختام كثيرة في القرآن الكريم، وخطب البلغاء.
انظر في خواتِمِ السُّوَرِ تَجِدُها غاية في الحسن، ونهاية في الإبداع، فقد جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع إيذان السامع بانتهاء الكلام؛ حتى لا يبقى معه للنفوس تشوف إلى ما يذكر بعد؛ لأنها بين أدعية ووصايا، وفرائض وتحميد، وتهليل ومواعظ، ووعد ووعيد، وما إلى ذلك، كالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، والوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحسن الختام لما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي، والتبجيل والتعظيم الذي ختمت به سورة المائدة، والوعد والوعيد الذي ختمت به سورة الأنعام، والتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الأعراف، والحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختم به سورة الأنفال، ووصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ومدحه، وتسليته، ووصيته بالثقة بالله-تعالى-، والتهليل بالتفويض إليه -سبحانه- الذي ختمت به سورة براءة، وتسليته -صلى الله عليه وسلم- التي ختمت بها سورة يونس.
ومثلها خاتمة سورة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به سورة يوسف، والوعد والوعيد والرد على من كذب الرسول-صلى الله عليه وسلم-الذي ختم به سورة الرعد، ومِن أحسن ما آذن بالختام؛ خاتمة سورة إبراهيم: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِه…ِ) [إبراهيم: 52]، ومثلها خاتمة سورة الأحقاف، وكذا خاتمة سورة الحجر بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، وهو مفسر بالموت فإنها غاية في البلاغة، وانظر إلى سورة الزلزلة كيف بدأت بأهوال القيامة، وختمت بقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 – 8].
والغاية من حسن المقطع أمران: أن يتم إقناع السامعين حتى لا يبقى للنفوس بعده تطلع، وذا يكون بذكر مجمل ما أتى به مفصلاً، وأن يقوي فيهم الرغبة في العمل بما أذعنوا له، وذا يكون بإفراغ ما في الوسع في تحريك العواطف والمهارة في التأثير، وعلى الخطيب-إذا لخص الخطبة-أن يعمد إلى أهم ما جاء فيها من البيانات؛ فيبرزها في صورة جديدة، وأسلوب رشيق؛ لئلا تذهب طلاوتها، وحتى لا يكون إعادة أدلتها-مثلاً-من باب التكرار الممل المعيب.
التعليقات