كيف تكون خطيبًا مقنعًا؟ (6) اخلق لديه الرغبة في الاقتناع والتغيير(الجزء الثاني)
فرق شاسع بين سلمان الفارسي الذي هرب من أبيه ومن عبادة النار باحثًا عن الحق وساعيًا إليه، فهو يحمل الاستعداد الكامل أن يتدبر في كل جديد ويعتنقه إن اقتنع به، وبين أبي لهب الذي قال لابن أخيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟إنه لم يسأل حتى عن التفاصيل، ولم يترك لنفسه فرصة ليَفْهم أو يُفَهَّم! ولم يكن مستعدًا أن يتغير أو يقتنع بغير ما هو عليه.
وقد تناولنا هذا الموضوع في الجزء الأول من هذا المقال، وقلنا: إن الإنسان لن يقتنع بما لا يحب أن يقتنع به، ولن يتغير ما دام لا يرغب في التغير، وأنه ما دام لا يحمل الاستعداد للاقتناع والرغبة فيه، فقد أغلق على نفسه منافذ السمع والبصر والفؤاد وعطَّل الحواس والأركان، فلو اقتنع الجماد لما اقتنع هو!
ولذلك فقد أشرنا ساعتها أن نبدأ بتخليق الرغبة في الاقتناع في قلبه وعقله، فإن نجحنا فقد أنجزنا نصف المهمة، وقد تساءلنا وقتها: وكيف نخلق ذلك الاستعداد للاقتناع والرغبة فيه داخل نفس السامع؟ وأجبنا: من خلال استراتيجية مكونة من أساليب كثيرة، وذكرنا منها أسلوبين:
الأسلوب الأول: اجعله يدرك أنه على خطأ.
الأسلوب الثاني: تحييد عناده:
وحان الموعد الآن لنكمل ما بدأنا ونقدم باقي أساليب تلك الاستراتيجية؛ “استراتيجية خلق الرغبة في الاقتناع”:
الأسلوب الثالث: إشعاره أن نفعه ومصلحته فيما تدعوه إليه:
هي فطرة في الإنسان أن يميل للشيء إذا ما أحس أن فيه نفعه ومصلحته، يقول الإمام الخازن في تفسيره: “إن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر مال بطبعه إليه وقويت رغبته فيه، فتسمى هذه الحالة: سعة النفس وانشراح الصدر، ويحلو لي أن أسمي هذه الحالة: “الرغبة في الاقتناع” أو “إرادة التغير”.
لذا فقد تكرر في القرآن الكريم قول الله -تعالى-: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أو (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)… إشعارًا للمخاطبين أن منفعتهم فيما يدعوهم إليه، فتتخلَّق عندهم إرادة الاقتناع، من ذلك قول شعيب -عليه السلام- لقومه: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 85]، فقد ذيَّل خطابه لهم بقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، فلو أدركوا ذلك حقًا وصدَّقوه لما توانوا في الاقتناع بما دلهم عليه، ومثله ما حكاه الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام- قائلًا: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 16]، وذلك في القرآن كثير.
وشبيهًا به قول نبي الله هود -عليه السلام-: (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52]، فقد أشعرهم أن الخير الذي هم عليه يحرصون موجود في الهدى الذي هم منه ينفرون، ولو كانوا صدقوه لانبعثت في قلوبهم الرغبة في الاقتناع بالدين الذي يحقق مصالحهم.
ومنه كذلك قوله -تعالى- لقريش عن القرآن الكريم: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]، يعني: يا معشر قريش قد أنزلنا إليكم القرآن الذي فيه شرفكم وفخركم، ولو أدركوا أن في القرآن عزهم ومجدهم ورفعتهم لانفتح أمامهم الطريق على مصرعيه للاقتناع بكل ما فيه.
ومنه أيضًا قول مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 38]، إلى قوله: (وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ…) [غافر: 41]، فقد حاول بكل طريقة أن يشعرهم أن فيما يدعوهم إليه نفعهم ومصلحتهم؛ إذ أنهم لو شعروا بذلك لانغرست في قلوبهم “إرادة الاقتناع”.
وهو أسلوب طالما استخدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن محمد بن عمر الأسلمي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول لقبائل العرب: “يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا، وتملكوا العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة"، فحاول -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم على الاقتناع بالإسلام بإشعارهم أن مصلحتهم فيه في الدنيا والآخرة، ولو صدَّقوا ذلك لتولدت عندهم الرغبة في الاقتناع.
وقد صاغ القرآن الكريم ذلك في قاعدة من كلمتين تقول: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54]، فلو أيقن كل سامع أن الهدى في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- لخلق ذلك في قلبه وعقله استعدادًا دائمًا وإرادة مستمرة للاقتناع بكل ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو حال المسلم بحق.
وهذا الأسلوب الذي نحن بصدده من أساليب توليد الرغبة في الاقتناع يستغله المفسدون ويدركه البطَّالون ليقنعوا الناس من خلاله بما يريدون، فهذا فرعون يقول لقومه: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29]، وكذا كل مغرور يقول لمن اغتروا به: “إن الخير لكم في اتباعي”، “إن اطعتموني تحققت مصالحكم ومنافعكم”… ولولا أنهم صدقوه لما اتبعوه!
فعليك -أخي الخطيب- أن تعمل على إشعار الناس بأن منفعتهم ومصلحتهم فيما تدلهم عليه، ومعك القرآن ومعك السنة، ولا شيء أصدق عند المسلمين منهما، وليكن صوتك أعلى من أصوات المبطلين؛ فلو أوهموا الناس أن الخير في التحرر من الدين ومن الحجاب ومن الفرائض!… فافضح مزاعمهم وفنِّد حججهم واكشف للناس أن في ذلك هلاكهم…
ولا يخلُوَن حديثك أبدًا من إشعار الناس -بالآية والحديث والحجة- أنما سعادتهم وصالحهم في الدنيا والآخرة في اتباع القرآن والسنة، بشرط أن تتنوع الأساليب كي لا يمل الناس.
الأسلوب الرابع: إشعاره أن هلاكه في مخالفة ما تقول:
فكما يسعى الناس ويستجيبوا للشيء إذا ما شعروا بأن فيه منفعتهم، فإنهم كذلك يستجيبون له إذا ما أدركوا أن في عدم الاستجابة هلاكهم أو تفويت منفعتهم، وكما يحرصون على المصلحة فإنهم يفرون من الضرر، تلك أيضًا فطرة عند الناس، فاستثمرها.
ولقد استثمرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحاول أن يرسخ في أذهان الناس أن الهلاك في الإعراض عما جاء به، وأن النار من نصيب من كذبه، وأن الجنة حرام على من عصاه…
وقد كرر -صلى الله عليه وسلم- ذلك بأساليب شتى، منها ما رواه أبو موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق"، فهذا نموذج رائع لما نقول؛ فالنجاة لمن اتبع، والهلاك لمن خالف، وهذا هو المراد.
ومنه تلك القاعدة التي رواها ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"، وهل من عاقل يخالف أمره -صلى الله عليه وسلم- بعد أن سمع تلك القاعدة؟!
وقد أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يولِّد عند عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- إرادة الاقتناع، وذلك لما أُخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه يبالغ في قيام الليل وصيام النهار، فأي الطرق سلك في صنع ذلك؟ إنه قد عمل على إشعاره أن الضرر والأذى في تلك المبالغة، قائلًا: “فإنك، إذا فعلت ذلك، هجمت عيناك، ونفهت نفسك، لعينك حق، ولنفسك حق، ولأهلك حق، قم ونم، وصم وأفطر"، وما نراه إلا قد وُجدت عنده الرغبة في دفع الضرر فاقتنع؛ فإنها لفطرة في الإنسان أن يدفع عن نفسه ما يضره.
وهو أيضًا أسلوب استغله المبطلون؛ فإنهم يحاولون جاهدين أن يطبعوا في عقول الناس أن الشر والتخلف والرجعية والفقر والحرب… في اتباع المصلحين، وهذا مثال: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) [الأعراف: 90]، وأمثالهم قالوا: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) [المؤمنون: 34]، فهذا صنيعهم في كل زمان ومكان.
إذن، فمهمتك -أيها الخطيب- مكونة من شقين، الأول: أن تتسلل في مهارة إلى عقول السامعين وقلوبهم وتغرس داخلها أن الخسران والبوار والضياع والهلاك في الدارين لمن أعرض عن شرع الله أو خالف شيئًا منه، والثاني: أن تنزع عن تلك العقول والقلوب تزيف الظالمين الذين يدَّعون أن الشر يجلب النفع وأن الخير يجلب الضرر! وأنه يخرج من بطن البقرة ذئب، وتُنتج الحية من بين أنيابها عسلًا وشهدًا! فافضح الكيد وأظهر العوار.
الأسلوب الخامس: الاتفاق معه على ترك هوى النفس والسعي خلف الحق:
إننا -معشر الدعاة والخطباء- لنثق تمام الثقة في صحة وخيرية ما نحمل، ونوقن يقينًا جازمًا أنه الحق وما سواه باطل، ونعي تمام الوعي أننا -والناس معنا- إن تجردنا من قناعاتنا وأهوائنا ثم سعينا سعيًا مخلصًا إلى الحق، فليتضحن للجميع أن الحق معنا نحن لا مع غيرنا، لذا فإننا لا نرهب ولا نحجم أن نتجرد ونطرح التعصب، بشرط أن يفعل ذلك مخاطبونا، فنحن على ثقة أن الدولة ستكون لنا لا علينا.
وإنك -أيها الخطيب- حين تطلب من أحد أن يطرح الهوى ويتجرد في السعي إلى الحق، فإنك -في الواقع- تطلب منه أن يتخلى عن قناعاته لبعض الوقت، وأن يسلمك عقلًا خاليًا عن كل معارضة لما تقول، وأن يتجرد من كل دوافعه ومواقفه المسبقة ضدك، وكذا تصنع أنت… ولا يخفى عليك -أخي الخطيب- أن هذا صعب عسير، إن لم يكن مستحيلًا.
لكننا عندما نطلبه من مخاطَب أو معانِد إنما نطلب من ذلك قدرًا معينًا؛ فإنه -إن تظاهر بالاستجابة- سيعطيك أذنًا صاغية وفرصة للكلام وتسامحًا ظاهريًا، ربما لن تحصل عليها بأي وسيلة أخرى، مما يتيح لك أن تعرض ما لديك عرضًا متأنيًا وافيًا، فلربما أصابت كلمة قلبه أو عقله فيقول في نفسه: “ولما لا أسمعه وأفكر في كلماته”، فإن فعل فقد قطعتَ شوطًا كبيرًا في طريق إقناعه.
وقد حاول القرآن الكريم مرارًا أن يجرد المخالفين من هوى أنفسهم وأن يصل بهم إلى درجة التفكر بلا هوى ولا تعصب ولا مواقف مسبقة وأن يحتكم إلى المنطق والعقل، فقال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ: 46-47]، “يقول: إنما أطلب منكم أن تقوموا لله قيامًا خالصًا لله، ليس فيه تعصب ولا هوى ولا عناد، فيسأل بعضكم بعضًا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضًا، (ثم تتفكروا) أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك.
ولا نشك أن من فعل ذلك منهم؛ فتجرد من الهوى والعصبية والعناد، ثم طلب الحق، أنه قد اهتدى واقتنع وظهر له طريق الصواب، وأدرك أنما محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: “نذير بين يدي عذاب شديد”.
ومرة أخرى يخاطب القرآن أهل الكتاب قائلًا: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64]، “فالنداء هنا لأهل الكتاب عامة، لا لطائفة خاصة منهم؛ لأن العيب عام فيهم، والدواء واحد؛ ذلك أن عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبًا أعماهم عن الحق عند غيرهم، والدواء واحد أيضًا، وهو: طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية.
فعليك -أخي الخطيب- أن تحاول أن تصل بالمخاطبين المعاندين إلى هذه النقطة؛ نقطة التبرؤ والتجرد من الهوى والعناد والتعصب، نقطة السعي خلف الحق أيما كان قائله، فإن وُفقْت في ذلك فقد نجحت في إنبات الرغبة في الاقتناع داخل نفسه، ولا يبقى إلا أن تُحسِن الطرح والعرض فيقتنع من شاء الله -تعالى- له ذلك.
ولستُ أرى طريقًا تصل به بمخاطبيك إلى ترك الهوى وطلب الحق، إلا أن تُخلص لله أنت، وإلا أن تتجرد من الهوى أنت، فبقدر إخلاصك وتجردك يكون تأثيرك فيمن أمامك، وأنت أهل لذلك.
ولك أيها الخطيب -بل عليك- أن تقدم للمخاطب المخطئ المعاند برهان تجردك للحق، وهو ما أمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يفعله فيقول لهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ: 24-26]، فأشعره أنك تسوي بينك وبينه، بل بين ما تحمله أنت وبين ما يحمله هو، فذلك من براهين التجرد، ثم أحسن عرض ما تحمل، فإن فعلت فحري أن يقبله.
الأسلوب السادس: زرع شجرة المعالي:
وهذا أسلوب رائع من أساليب خلق إرادة الاقتناع والرغبة في التغيير؛ ذلك هو بث الطموح والتطلع إلى القمم في قلوب مخاطبيك، فلو تتطلعوا إلى المعالي لوصلوا -لا شك- إلى الحق؛ فإن غاية إدراك المعالي هي الوصول إلى الحق الذي يقود إلى العُلى في الدنيا والآخرة.
فما الذي يدفع المرء أن يقدم روحه ودمه إلا أنه يطمح إلى مكانة الشهيد في سبيل الله؟! (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]، وما الذي يجعله يبذل ماله المحبب إلى نفسه إلا تطلعه إلى أضعاف أضعافه في الجنة؟! (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة: 245]، وما الذي يحمله إلى تكبد المشاق في صلة رحم أو في خدمة أبوين إلا ما يرجوه من الذكر والعرفان عند الله -تعالى-… فالتطلع إلى المعالي هو المحفز إلى الاقتناع بفعل الشاق والعسير والصعب، فاجهد أن تعلقهم بها.
وكم سمعنا القرآن الكريم يقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران: 133-134]، فبعد أن شوَّقهم إلى علياء الجنة التي عرضها السماوات والأرض أمرهم بأشياء كلها عسير على النفس؛ إنفاق المال الذي جبلت النفس على حبه، وكظم الغيظ ومعلوم كم هو صعب، والعفو وذلك أصعب، والنماذج لذلك أكثر من تُحصر.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا أن يعلق أصحابه بمعالي الأمور، فيقول -صلى الله عليه وسلم- لهم صراحة: “إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها"، ولما جاءه سلمان الفارسي الباحث عن الحق قال قاصدًا إياه: “لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء"، فرغَّب -صلى الله عليه وسلم- السامعين في أن يسلكوا مسلك سلمان في طلب المعالي.
فعلى الخطيب الحصيف الأريب أن يُطمع السامعين في سعة الدنيا بالدين قبل أن يأمرهم بالكد في العمل، ويشوقهم إلى الحور العين قبل أن يأمرهم بغض البصر عن النساء، ويعلقهم بنعيم الجنة الأبدي قبل أن ينهاهم عن أكل المال الحرام… وبقدر ما تنجح -أيها الخطيب- في تعليقهم وتشويقهم لمعالي الأمور بقدر ما يستجيبون لك وتتخلق في قلوبهم وعقولهم الرغبة والاستعداد للاقتناع بما تطرح عليهم.
التعليقات