أضواء على خطبة الجمعة وصفات الخطيب الناجح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإنّ الخطابة هي فن مشافهة الجماهير والتأثير عليهم، وخطبة الجمعة كانت ولا تزال لها أثر كبير إذ أُدِّيت على الوجه الصحيح.
والخطيب ثلاثة أنواع:
النوع الأول: خطيب قارىء بمعنى أن الخطيب يقوم بإعداد الخطبة من المصادر المعتمدة ومن ثم يقوم بقراءتها على جمهور المصلين, والخطبة المعدة والمقروءة لها إيجابيات منها: تحقيق وحدة الموضوع في الخطبة وهذا أمر هام, عدم تشتيت أذهان السامعين, الالتزام بالوقت المطلوب, اطمئنان الخطيب أثناء إلقاء الخطبة. وفي المقابل لها سلبيات منها:عدم التأثير في نفوس السامعين إذ أن التركيز يكون منصبا على الورقة لا على وجوههم, وبالتالي إحداث ملل فيهم, لذا نرى كثيراً منهم يغالبه النوم.
النوع الثاني: خطيب حافظ وهذا بدوره يحتاج إلى ذاكرة قوية، لأنه يعتمد على حفظ نص الخطبة بالكامل فإذا ما خانته ذاكرته وقف حائرا لا يدري كيف يتصرف، وفي هذه الحالة يضع نفسه في مأزق حرج، ويصبح عرضة لنقد السامعين، بالإضافة إلى أن تأثيره في مستمعيه يكون ضعيفاً.
النوع الثالث: خطيب مرتجل وهذا النوع من الخطباء هو المفضل، لأن تأثيره في المستمعين يكون قوياً وواضحاً. وهذا النوع يتطلب ممن يختاره حفظ المزيد من نصوص القرآن والسنة، وأقوال السلف الصالح، كما يحتاج هذا النوع إلى قدرة واضحة على صياغة العبارات بصورة مبسطة وميسرة، بحيث يراعى في صياغتها المستوى الثقافي للحضور، بالإضافة إلى حسن الأداء وتوزيع النظرات على الجميع، واستعمال الحركات المعبرة عن المعاني المطروحة، فإذا لم يكن الخطيب المرتجل مؤهلاً لهذا الفن فسيكون خطيباً فاشلاً يثير الملل والسأم في الحضور، ومن سلبيات الخطيب المرتجل: نسيان نفسه فقد يطيل الخطبة ويشتت الموضوع.
وأرى أن يلجأ الخطيب في الإلقاء إلى الارتجال إذا كان يحسنه ويجيده، أو إلى الاستعانة بكتابة العناصر والشواهد، أو بحفظ المواضيع ابتداءً، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً في طريق الارتجال، ليصير ذلك في نفسه ملكة وعادة، وهذا ممكن جداً إذا استمر في التدريب، ودرج على الممارسة.
كما أن التحضير والتهيئة للخطيب والداعية أمر واجب ولازم لهما، فعلى كل من نذر نفسه لحمل راية الدعوة إلى الله تعالى أن يسعى ويجتهد ويقارب ويسدد، ليصل إلى أعلى مراتب البيان، وإلى أسمى آيات التعبير والفصاحة، يهز النفوس بسحر بيانه، ويحرك أوتار القلوب ومجامع العقول بجمال أسلوبه وروعة حديثه، ليكون من الشهداء على الناس، ويكون الرسول عليه شهيداً.
وأما صفات الخطيب الناجح، أو الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يخطب الجمعة، فمن الممكن أن نلخصها في الأمور الآتية:
أولاً: يجب أن يشعر الخطيب بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة إيصالها إلى الناس، لا يكل ولا يمل.
والمشكلة الآن أن الخطابة أصبحت وظيفة فقط عند الغالبية العظمى في كل البلدان، وهذا ما ضيَّع كثيرًا من فائدتها. والحقيقة إذا ما توفر هذا الشعور في نفس الخطيب فإن النجاح سيكون حليفه، وسيكون من أحسن الناس قولاً. قال الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 33 – 35].
فلا أحد أحسن قولاً ممن حمل مشعل الدعوة إلى الله وإلى إتباع منهجه والالتزام بأحكامه وتعاليمه، والواجب على الداعية أو الخطيب أن يعلن هويته وانتمائه بقوله: إنه من المسلمين بعيداً عن الفئوية الضيقة، والنظرة المحدودة. لأن الإسلام هو الأصل وهو الأعم والأشمل.
ثانيًا: الخطابة فن، ولذا ينبغي لمن يتصدى لها أن يكون ذا موهبة، يثقلها بالعلوم والمعارف المختلفة، ذات الصلة الوثيقة بعلم الخطابة، فسعة الإطلاع خير معين للخطيب في أداء خطبته بقوة وتأثير. وما أحوجنا اليوم إلى من يفهم الإسلام ويحسن عرضه. فكثيراً ما تأتي الإساءة من قبل الذين لا يفهمون الإسلام وفي نفس الوقت لا يحسنون عرضه على المسلمين ولا على الآخرين. ويتوجب على الخطيب عدم الخوض في الأمور التي لا علم له بها، كما يتوجب عليه الاتصاف باللين والرفق والتلطف مع الناس لأن ذلك أدعى إلى استمالتهم وإقناعهم، أما أسلوب العنف والغلظة والشدة فقد أثبت الواقع فشله وعدم جدواه، لقد خاطب الله تعالى رسوله محمداً r بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]
وها هو الحبيب محمدصلى الله عليه وسلميقول: ( إنّ الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا ينزع من شيء إلاّ شانه).
ثالثًا: الناس ينظرون إلى سلوك الخطيب، ويدققون النظر فيه، ولذا ينبغي أن تتطابق أفعاله مع أقواله، فالتزام الخطيب بأحكام الإسلام بوجه عام، وتطبيق ما يدعو إليه في خطبته، يجعل كلامه مقبولاً عند المستمعين، أما مخالفة العمل للقول، فإنه يجعل المستمعين لا يثقون به ولا بكلامه.
قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة : 44]
ويقول أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)[ الصف : 2]
رابعًا: أن يكون الخطيب شجاعًا في قول الحق، مع التحلي بالحكمة وحسن التقدير للموقف، بعيدًا عن التهور والاندفاع غير المحسوب، فالشجاعة في قول الحق صفة أساسية لابد وأن يتحلَّى بها الخطيب؛ لأنه سيتعرض لأمور كثيرة فإن لم تكن عنده الشجاعة الكافية فلن يستطيع الوصول إلى الهدف والغاية المرجوة، وكما نطالب الخطباء بالشجاعة، فعلى الحكومات والوزارات المعنية أن توفر جانبًا من الحرية للخطباء، كما توفر هامشًا – قل أو كثر – للصحافة وأجهزة الإعلام.
خامسًا: أن يكون وثيق الصلة بجمهوره، أقصد مستمعيه، وأن يحدث تقاربًا بينه وبينهم، فيعود مرضاهم، ويسأل عن غائبهم، ويشارك في وضع الحلول لمشكلاتهم، وكلما اقترب من المدعوين ووقف بجانبهم في أزماتهم، كلما كان ذلك أدعى إلى التفافهم حوله، والقرب منه.
مع ملاحظة أن يعف نفسه عما في أيدي الناس، وكما ورد في الحديث الشريف: (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك).
سادسًا: أن يكون على قناعة تامة بما يدعو إليه، حتى يكون قادرًا على الإقناع والتأثير، فالإيمان بقضية ما يجعل صاحبها يدافع عنها بكل ما يملك. فإذا لم يكن الخطيب على قناعة بما يدعو إليه، فلا يستطيع إقناع الآخرين بذلك، فإذا دعا الخطيب في خطبته الناس إلى دفع زكاة أموالهم وهو في نفس الوقت لا يدفع زكاة أمواله، أو دعاهم إلى ترك الغيبة وهو يفعل ذلك، أو دعاهم إلى إلزام بناتهم وزوجاتهم باللباس الشرعي، وبناته وزوجته لا يلتزمن بذلك، إلى غير ذلك، فإن الكثير من الناس سوف لا يلتفتون إلى أقواله ولا إلى خطبه.
سابعًا: اختيار موضوع الخطبة من واقع الحياة التي يحياها الناس، ومناقشة المشكلات الاجتماعية المتعددة، ومحاولة طرح الحلول لها، أما الموضوعات السلبية التي لا تعالج أمراض المجتمع وعلله المختلفة، فإن الاستفادة منها تكون قليلة. فالخطيب الناجح هو الذي ينظر إلى واقع الناس ليتحدث عنه، فليس من الحكمة عدم مراعاة واقع الناس، فمثلا إذا ما حصلت حادثة وفاة فليس من المناسب أن يذهب الخطيب فيتحدث عن الزواج، إذ المناسب التحدث عن الموت من حيث كونه حقاً لا مفر منه ومن حيث أخذ العبرة منه، ودعوة الناس إلى الاستعداد له، وبيان أن الإنسان لا يدري متى يأتيه الأجل وهكذا. كما يتوجب عليه أن يكون مطلعاً على ما يجري في العالم من أحداث ومتغيرات ومستجدات، ليطلع جمهوره على ذلك مع بيان حكم الإسلام في ذلك.
ثامنًا: فصاحة اللسان، وسلامة مخارج الحروف، مع مراعاة حسن الإلقاء، قوةً ولينًا، فلا يكون الإلقاء على وتيرة واحدة، حتى لا يمل السامع، أو يعتمد أسلوب السجع الممقوت، فإن من شأن ذلك إضاعة المعنى، والتركيز على اللفظ.مع ضرورة مراعاة قواعد اللغة العربية، لأن عدم مراعاتها يحدث خللاً في المعنى.
فمع الأسف كثيراً ما نشاهد بعض الخطباء أو المتحدثين لا يراعون في خطبهم أو كلماتهم قواعد اللغة العربية، ولا يقيمون لها وزناً، ويظنون أن ذلك ليس من الضرورة بمكان، وهذا خطأ كبير وجهل فاضح، فتغيير حركة واحدة في الكلمة من شأنه أن يقلب المعنى رأساً على عقب، والأمثلة على ذلك كثيرة.
تاسعًا: حسن الهندام والمظهر، فينبغي عليه أن تكون ملابسه وهيئته حسنة. لأن ذلك أدعى إلى الالتفات إليه والانجذاب نحوه والإنصات له. مع مراعاة عدم المبالغة في اللباس إلى حد التكلف والتعقيد.
عاشرًا: مع الإعداد الجيد، ومع كل ما سبق: ضرورة التوكل على الله، وطلب العون منه، كما فعل ذلك نبي الله موسى u، حينما دعا ربه قائلاً:( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي)[ طه:25 – 28] وأنبه إلى ضرورة تجنب الخطيب الغرور والإعجاب بالنفس، فإن ذلك محبط للعمل والأجر والثواب.
حادي عشرة: البعد عن التقليد الممقوت والمتكلف، وتقمص شخصيات الآخرين، نشاهد بعض الخطباء يقومون بتقليد خطباء مشهورين بصورة متكلفة تثير في النفوس عدم الارتياح والرضى، مع التنبيه بأنه لامانع من الاستفادة من أسلوب الآخرين بصورة مقبولة وغير متكلفة، لأن المستوى الثقافي والقدرة العلمية لكل من المقلد والمقلد غالباً ما تكون متفاوتة وغير متقاربة، ومن هنا يأتي الخلل وعدم التوفيق والنجاح في أداء الخطبة.
ثاني عشر: عدم الإطالة في الخطبة مراعاة لأحوال وظروف المستمعين، فيكون من بينهم المرضى وأصحاب الحاجات والمهمات، وأحياناً طبيعة الجو تلعب دوراً أساسياً في تحديد وقت الخطبة، فيجب على الخطيب مراعاة ذلك بصورة معتدلة.
بالإضافة إلى كل ذلك أقول: إن الخطيب الناجح هو الذي يغشى مجلسه الكرماء، والصلحاء والبسطاء، فيعمر الحديث بالفكر والذِّكر، فتحل بركة السماء في الزمان والمكان. وهو الذي له في القلوب مكانة، ولدى النفوس منزلة؛ لأنه عنصر من عناصر الخير والنماء. وهو إفراز أصيل، يدرك عظمة الأمانة وقدر المسئولية وتبعة العطاء، ينبوع متدفق من الخير والعطاء؛ لأنه يحب ويعطي عن أريحية ورضى، سيّما وأن الشفقة على الخلق إحدى سماته وصفاته، يرى المنكر فلا يسكت عليه، بل يصوغه في قالب خطابي تربوي مؤثر، يوقظ الوسنان ويروي الظمآن، ويؤنس الرجفان، ويقود العميان إلى دروب الحق وميادين المعرفة.
وأخيرا أقول: إن الخطيب الناجح لا تؤثر فيه الأحداث، بل هو الذي يؤثر فيها، ويحولها إلى إشراقة من الفأل الحسن، والثقة المبتغاة، فلا يزيد ه القهر إلا إرادة صلبة قوية، لا تتفتت أو تلين، ولا يزيده الظلم إلا عفوًا وعزّا، ولا تزيده المكاره إلا مضاء وعزمًا. يستلهم الحَدَث ليربي به تلك الجموع الغفيرة التي قدمت إليه، وانساقت له، ورغبت فيه، فلا يمكن أن يمر حدث على الخطيب الناجح دون حسّ تربوي مؤثر، أو موعظة بليغة، أو ربط جيد بالآخرة، أو استنفار وبعث بالأمل بامتداد أنفاس الحياة، والتهوين من أمر الدنيا. وهو الذي يسأل نفسه عندما يقوم بإعداد مادته: ما الذي أريده من عرض هذا الموضوع دون غيره، والغاية من سرد هذه القضية، وما هي الوسيلة المثلى لبسطها وعرضها؟ وبمعني آخر يسأل نفسه: هل أريد معالجة فكرة جديدة؟ أم تثبيت مبدأ أصيل؟ أم محاربة عادة مقيتة ذميمة والعالمين.؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
التعليقات