علاج ظاهرة الانفصال الموضوعي لخطبة الجمعة
تكلمنا-في الجزأين السابقين-عن أهم المظاهر لمشكلة الانفصال الموضوعي لخطبة الجمعة، وبعضٍ من الأسباب المؤدية لظاهرة الانفصال الموضوعي، وفي هذه المقالة نكمل-بإذن الله-ما تبقى من تلك الأسباب ونختم ببعض العلاج لها.
أولاً: الأسباب المؤدية لظاهرة الانفصال الموضوعي:
1/قلة الوعي، قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل :78]. فالحواس هي أدوات التعلم، وإذا عطلها الإنسان أثناء السماع والإلقاء؛ خف وعيه، وضاق فكره، وعمي بصره. فقلة الوعي نتيجة بارزة من قلة الانتفاع؛ لأنَّهُ لا وعي بلا انتفاع، كما أنه لا انتفاع بلا اتصال ومعاينة.
والوعي عبارة عن نباهة قلبية، يقذفها الله في قلوب من يشاء من عباده؛ فيدركون أسرار الدين والدعوة، ومعالم العداء والسطوة، وإن الخطيب يباشر رسالة عالمية عظيمة، وجماهير كثيرين مختلفين؛ فحق ذلك الوعي بما يقول، وبما ينصح، ويوجه ويسدد، وأبعاد ذلك ومراميه ومقاصده. فَسِرُّ العلم الفهم، ولب الفهم هو الوعي، وبتخلف الوعي؛ يقع الفصام النكد بين الخطيب وخطبته، قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا…) [الأعراف: 179]، وقال: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 12].
إننا في أمس الحاجة إلى الأذن الواعية، والقلب الفقيه، واللسن الفطن، الذي يحسن سرد الكلام ورصه، ويدرك عواقبه ونتائجه، ويتخير أطايبه ومعاطره، ويفقه إقبال الناس وإدبارهم، وحاجتهم وشئونهم. لكن للأسف قد يعجز الانفصال الخطابي عن تلكم الثروة الروحية والدعوية، فيحدث ضدها من التبلد وضعف الوعي، وانطماس البصيرة، فيفئ المتحدث كالببغاء المردد للكلام دون أدنى وعي وانتباه. وإن من بركات العلم الشرعي؛ إحياء الوعي وتجديده، وهو شئ آخر، غير العلم يُدرك بالتفوق العلمي، وتدريب الفكر، وتوسم الأحداث، وتدبر القرآن، والآثار، والقصص، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) [يوسف :111]. وقال: (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176].
إننا بحاجة إلى هذه الفطنة الواعية بحال الناس دعوياً واجتماعياً وإصلاحياً، وإن كان الوعي الإيماني والأدبي هو المطلوب أولاً، ولكننا إذا أصلحنا ما بيننا وبين الله؛ أصلح أحوالنا مع الناس، ومنحنا النباهة، تجاه كل ما يعترينا من مشاكل ومنازعات، وانظر كيف مدح الله بعض عباده: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ) [ص: 45] أي القوة في العبادة، والبصيرة في القلوب، التي تعرف وتُميَّز بها الأشياء.
2/الجمود، ولا نقصد به الجمود الفقهي الذي يورث التعصب، ولكن الجمود الدعوي، بالتسلق على هامات الآخرين، ومحاكاتهم دون نظر وتبصر، والاهتمام بأعمال يزعم أنها مؤسسية نافعة، على حساب الارتقاء المنبري، والسمو الدعوي المطلوب، والجمود عن معرفة الواقع ومتغيراته ومتطلبات البشر المتجددة، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60]، فهو من أسباب الانفصال، ومن آثار قلة الانتفاع، وضعف الوعي، حيث يجمد الداعية، ويتبلد سعيه، ويجفو فكره، ولم يعد لديه من جديد ومفيد يقدمه للناس؛ ولهذا يكثر معه التكرار والاجترار، ويستصحب السطحية في كثير من أحواله، وما ذاك إلا بسبب هوان ثقافته، وضعف اطلاعه؛ الناتج عن انفصاله عن المنبر الخطابي، ولو لبس أحسن ملابسه، وتعطر بأزهى أعطاره، فالمشكلة قائمة، والجمود حالٌّ في أدائه وعطائه. ولذلك قد يخطب في موضوعات مهجورة، وربما استخدم مصطلحات غير مفهومه، أو قد انقضى شأنها، ولا يرى عليه وعي للعصر، ولا القضايا المستجدة، ولا يتواصل مع مبدعي الخطباء والمكتبات، والمواقع الالكترونية النافعة. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي…) [يوسف: 108].
ومن البصيرة؛ وعي الشرع والواقع المعاش، وانسجام ما يطرح مع حاجة الناس ومستجداتهم، فعلى الخطيب والواعظ أن يعيش عصره، وأن يتفهم مستجدات الواقع وارتقاء الزمان؛ لأن ذلك يعينه على فهم الدعوة، وحسن عرضها، وتوظيف التقنية الحديثة لمقاصد الدعوة بالأفكار المطروحة، ودراسة العلم. وطرق الوعي والفهم إنما تكتسب بالسؤال والبحث والطلب، ومداومة القراءة، والجد، وأما العجز والاستسلام؛ لنصل إلى أداء دعوي ضعيف، فلا ريب في خطئه، وربما جنايته-أحياناً-على الدعوة وتقصيره الإصلاحي والحضاري.
3/ضعف التدين القائم على التقاعس والتقصير في الواجب، والتلطخ بمنكرات ومخالفات من شأنها أن تهز الروح، وتكدر الصدر، وتورث النفس إدانة واحتقاراً للذات ، وازدراءً للفعل، قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ…) [البقرة: 44]، فالأصل أن إقامة الحجة تتناول المستمعين والمخاطبين، عندما يدعوهم ويذكرهم بأوامر الله، لكن حينما يناقض الخطيب نفسه، ولا ينتفع بمقاله، فإنه يقيم الحجة على نفسه وهو ما يسمى (بالإدانة)؛ لأن هذه الإدانة إنما وقعت بسبب تقصيره وهوان سلوكه، وضعف تأثيره في الناس، فصار كالذي يصب على نفسه نذر الترهيب والتخويف، وإذا أضيف إلى ذلك تقاعس واضح، وتقهقر في الواجبات؛ كانت الحجة قائمة لاصقه بذاته، لا انفكاك إلا بالتوبة والتصحيح قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
ولا محل حينئذ للمكابرة حتى ولو كنت خطيباً مشهوراً، أو ذا وجاهة ورأي، أو حسب ومال، فإن الله يقول: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 13] فجعل الظالم قسيم التائب، ولا ثالث بينهما. وليستحضر المسلم خطورة ترديد الكلمات دون عمل ومشاركة، فهي تزيد من الحجج القائمة، والبراهين الثابتة التي يدين نفسه بها، والله المستعان.
وفي مسند أحمد، وأبي يعلى، عن أنس-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: "لما أُسري بي مررت برجال تُقرض شفاهم بمقاريض من نار، قال: فقلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء خطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب …". وهذا الوعيد الشديد خليق بالخطباء أن يعوه، ويستحضروه كل ساعة من ليل أو نهار، وفي كل ذكرى وموعظة، إذا هم قصروا، وقالوا ما لا يفعلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
4/قلة الإخلاص بتلوث النية؛ حيث لا يبين-من ارتقائه الخطابي-حب الدعوة، وابتغاء ما عند الله، ونصرة الدين، بل همه المجد والشهرة، وحب الظهور، وهي أراء خطرة تهد العزم، وتورث الكبر والخيلاء. لذلك جاء في بعص الأثار: "أن خطباء الأمة هم أول من تسعر بهم النار…"؛ لكثرة تخليطهم. والمرء إذا كان في دائرة الصدارة والبروز وتسلطت عليه الأضواء، وتعلقت به العيون؛ فإنه يكون عرضة-دائماً-لتلوث نيته، وهجوم الشيطان على إخلاصه وسلامة قصده، ولا ينجو من هذه الآفة الخطيرة إلا من كان بالله مستعصماً، متجرداً، مراقباً لأحوال قلبه ونفسه ونيته.
5/كثرة الاقتباس، فالخطيب إذا لم يجتهد في إعداد خطبته، ويبحث عن المصادر والمراجع اللازمة؛ لإعدادها، ويتعب نفسه في ذلك؛ فإنه يستسهل مسألة النقولات والاقتباسات من خطب الآخرين، ويصبح هذا دأبه وعادته، فيقتات على موائد الآخرين، ناقلاً، وسارقاً، ومصوراً، بلا أدنى محاسبة ومراجعة وتنقيح، وتصبح الخطبة بنتاً غير شرعية لهذا الخطيب، وعندها ينعدم الاهتمام بموضوع الخطبة، ويقع الانفصال الموضوعي.
6/خصوصية موضوع الخطبة، وارتقاؤها وعلو أمرها عن أمر العامة، بحيث تكون في الدقائق، وارتقاء الموضوع وصعوبته، حتماً ستقود الخطيب إلى أن يردد الكلام ولا يعيه، ولا ينتفع به السامعون، وربما تكون صعوبة موضوع الخطبة بسبب محاكاة الفضلاء والمفكرين بدون وعي وروية، فيقص على الناس ما لا يفهمون ولا يفهم هو! حتى ربما قصَّ ما قد يضرهم ولا ينفعهم، كما قيل من قبل:" طعام الكبار سمّ الصغار"، والله المستعان.
7/غياب الاحتساب، وذلك بحضور القصد الدنيوي المحض، بحيث يكون هدف الخطيب من مهمة الخطابة؛ مجرد الدنيا وحيازة أموالها ومكاسبها، فلو ارتفع أجر الخطابة وزال؛ لتغير وانقبض، وربما فكر في العزلة التامة، وهذا إشكال بحد ذاته؛ لأن المنبر وسيلة دعوية تناط بالأكفاء، وإذا التفت الأكفاء، والتفوا على الدنيا ومحاسنها؛ هانت نفوسهم، وقلَّتْ مؤثراتهم، قال تعالى عن سليمان عليه السلام: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). [النمل: 36].
8/تقصير المستمعين، بحيث لا يمدون الخطيب بالنصائح والتوجيهات التي تحمسه وتشجعه، وتدفعه للتحسين والتطوير، وإنما أدرجنا هذا السبب؛ لعلمنا وإدراكنا بأن المنبر ملك للأمة، وليس للخطيب وحده، ولذ فهم مشاركون في العملية الدعوية، ويجب عليهم-شرعاً-النصح والتوجيه، قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر:3]، وقال جرير-رضى الله عنه-: "بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم"، وصح حديث الثلاثة الذين لا تُرفع صلاتهم، وعدَّ منهم: "ورجل أمّ قوماً وهم له كارهون" فكرههم الشرعي عليه إثمه، لكن كيف لا ينصحونه ولا يذكرونه ؟! مما يدل على اندماجهم-عضوياً-في تلكم الوظيفة المنبرية.
9/التقليدية في الأداء، فالنمط التقليدي الثابت الذي يرفض التجديد، والتفنن في تنويع الموضوعات والأساليب حيث لما تسمع له، كأنك تسمع خطبة عتيقة في زمن المماليك، أو العثمانيين، رغم اختلاف العصور، وتغير الأحوال، وظهور مصطلحات وأفكار جديدة، ولكنه يصر على التقليدية، ويأبى التجديد والإصلاح المنبري.
وتلقى موضوعاته-بتقليده-مكررة، كأن الشريعة لا تحفل بنثار الأزهار، وفنون الأفنان، المبثوثة في الوحيين الكريمين!، وكيف لا يكون ذلك؛ وبين يدي الخطيب ثروة لا تفنى ولا تنتهي من روائع الأفكار، والمواضيع ذات الإبهار في القرآن الكريم، فإنك حين تقرأ القرآن قراءةً متأنية متدبرةً؛ تجد فيه مالذ وطاب، من تنوع موضوعي، يأسر الناظرين، ففيه سطوع التوحيد، وحلاوة الفقه، وبهجة التفاسير، وعبرة التاريخ، وروعة القصص ومحاسن الآداب، ومكارم القيم، في موضوعات طويلة بهيجة لا تكاد تنقضي!
الموضوع تم اقتباسه واختصاره من رسالة الدكتور الفاضل/ على عبد الحليم محمد " المسجد وأثره في المجتمع".
التعليقات