الأسباب المؤدية لمشكلة الانفصال الموضوعي لخطبة الجمعة
تكلمنا في الجزء الأول عن أهم المظاهر لمشكلة الانفصال الموضوعي لخطبة الجمعة، وسوف نكمل في هذا الجزء بقية تلك المظاهر ثم نتبعها بالحديث عن بعض الأسباب المؤدية لهذه الظاهرة الأليمة، وأهم سبل وطرق العلاج.
خامساً: قلة الانتفاع:
قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ) [الحديد: 16] وفي حديث الخوارج: "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم " أي لا يصل إلى قلوبهم، فينتفعون به، وكأن ثمة حاجز دون الوصول والانتفاع القلبي، الذي ينعكس على الجوارح والأعمال. ولهذا إذا انفصل الخطيب عن موضوعه لم يعد لكلامه أثر على قلبه وروحه، وصار كالهاذي الأعجمي، وكالسراج يضئ للناس ويحرق نفسه، ولكنها إضاءة متقطعة فلا يعي ما يقول، ولا يحفظ ما يردد، ولا يفقه ما ينصح به، وإنما بات كشريط التسجيل، يصوت بلا أثر عائد، ولا عاقبة راجحة، لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن من عوامل ترسيخ العلم وتثبيته ووعيه، إلقاؤه على الناس، وترديده من مكان لآخر، فكيف يخطب سنين عدداً، ولا يرى انتفاعه بذلك الكلام ولا ضبطه، ولا استحضاره، مما يعني عدم اتصاله بموضوعه، ومن ثم يضعف الوعي والانتفاع به. فمن البلاء بمكان؛ أن يسرد الخطيب الموضوعات المختلفة أسبوعياً، ولا يجد لذلك أثراً على نفسه روحياً ولا سلوكياً، بل إنَّ هذا من آثار انعدام البركة، وزوال الخير والمنفعة. قال مالك بن دينار-رحمه الله-: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا"؛ لأنه إذا قلَّ الانتفاع؛ هان العمل، وأكثر التنظير أكثر من التطبيق، وعلت الخطب والمواعظ على جوهر العمل والجد والمسارعة.
ومن كلام العرب السائر: "الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان". خرجت من القلب بما يعني الاعتقاد والصدق، ودوام الاقتناع، والممازجة التامة، التي تورث صدق النطق، ولوعة الحرص، وبلاغة الحديث، بحيث تلج قلوب الناس بكل سلاسة وسهولة، وما ذاك إلا لتمتعها بحلاوة ما يقول، واستشعارها فضله وأهميته، ولم تعد معزولة عما ينادي به الخطيب.
سادساً: خفاء الهدف:
قال تعالى: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 62] فهذه أهداف نوح عليه السلام، بلاغ، ونصح، وبرهنة على هاتين المهمتين.
ومن المظاهر المترتبة على الانفصال الفكري والروحي بين الخطيب وموضوعه، خفاء الهدف، إن لم نقل انعدام الهدف! فليس للخطيب هدف معين، ولا رسالة واضحة، ولا دعوة مقصودة، فمن المؤسف أن يمكث المرء داعيةً على منبر ما، مدةً طويلة؛ ثم لا يحدد هدفاً لدعوته، ولا يرسم خطة، ولا يؤسس مشروعاً. وهذا كله ناتج من عدم الاهتمام واستقلال الخطابة، وهوان الاستعداد والانتباه!
لابد للخطيب الواعي أن يمارس الخطابة وهو مستحضر أهدافاً كثيرة منها: العبودية لله، ومن ثم تذكير الناس، وتعبيدهم لله، وتعليمهم شئون دينهم، وإصلاح قلوبهم وتقويم سلوكياتهم، هذا أقل هدف ينبغي التركيز عليه، فضلاً عن الأهداف الأخرى، التي تستلزم رؤية معينة ذات أبعاد إصلاحية وحضارية، وتحتاج إلى المزيد من التعاون والتكامل الدعوي، بين سائر الجهات الدعوية والخيرية، بما فيهم العلماء والخطباء.
الأهداف الأساسية للدعوة والبلاغ، لابد أن تكون حاضرة في ذهن الخطيب ولا بد له أن يشاهد آثارها يوماً من الأيام بقدر جده وإخلاصه وحسن أدائه.
سابعاً: النفور المتبادل:
قال تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران :159] والأصل أن نحرص على تآلف الناس واجتماعهم، وليس شقاقهم وتفرقهم وانصرافهم.
وفي معنى الفظ الغليظ، الجافي المنعزل عن أفكاره، وغير الحامل لها، إذا لم نقل: أن من غلظة القلب بعض الأحيان، عدم انتفاعه بالعلم، وسريان الفقاهة العلمية إلى فؤاده ومشاعره، ومن ثم يحصل التباعد والنفور عن مواعظه ودروسه.
لابد أن يجتهد الخطيب أن يكون سهلاً، طيباً، بارزاً، مألوفاً بعلمه وأدبه، وحسن خلقه وتدينه، وصلته الرقيقة بموضوعه وما يصبو إليه.
كل تلك من أسباب نفور الناس عنه ومنها الانفصال المباشر، عن موضوع خطبته، وصيرورته كالمبلغ الفارغ، والداعية الخامل، والناصح التائه، وقد جفا منطقه، واخشوشن لفظه، وبات غير معايش وممازج لما يقول ويردد. قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37]. ولذلك إذا قسا القلب لم تُجدِ فيه المواعظ، لاسيما إذا كان مقارفاً لقاذورات ومشتبهات، فإذا تورط في شيءٍ من ذلك؛ زاد نفور الناس عنه، لا سيما إذا بلغ بهم الإيقان بعدم صلاحيته واستقامته. فلا ينفعه حينئذ تحسين الكلام وتنميقه، وجمالية المظهر؛ لأن النفس ساقطة، والروح هالكة-والعياذ بالله.
وفي مقابل نفور الجمهور منه يبدأ الخطيب نفسه في النفور منهم، والتجافي عن مقام المنبر الذي هو من أشرف المقامات، ويزهد فيه زهادة إخوة يوسف-عليه السلام-فيه حين باعوه بثمن بخس!! فصاحب المنبر، إذا تراكم معه وتر الانفصال، واحتواه شقاء الانعزال؛ بات يزهد في المنبر فيبيت يعرضه على كل من هب ودب، ويكثر التخلف عن الخطبة، بحجة الارتياح والتنوع، وما قصده إلا الانفكاك والانعتاق.
إن الانفصال البين؛ سيورث الخطيب الفاضل زهادة قلبية بالتخلي عن المنبر، وتركه لآخرين، أحسنوا أو أساءوا! فلابد حينئذ من التدقيق والمراجعة، وأن يحاول استصلاح قلبه، وإذا وكل شخصاً؛ فليختر الأصلح النافع، الذي تشع كلماته على الناس أنواراً باهية، ومنافع زاهية. قال تعالى:( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ…) [الأنعام: 122].
لا بد أن يصحب الداعية الخطيب نور كلامه ووهج صدقه، ولوعة وعظه، بحيث ينتفع الناس بتكلم الكلمات، وتدب الحياة في القلوب، المقفرة، والنفوس المجدبة، وتحيا بكلام الله لعباده، المتمثل في كتابه الحكيم وبيناته الساطعة، وأحاديثه العامرة.
ثانياً: سبل علاج المشكلة:
بداية حل أي مشكلة دعوية؛ تبدأ في الإحساس بوجودها، ومدى خطورتها وضررها على الدعوة الإسلامية؛ لأن كثيراً من الخطباء لا يكادون يعترفون بوجود تقصير، ويغرهم ثناء البعض على أدائه، أو حسن هندامه، أو فصيح عباراته، وينسى أن الأثر يدل على المسير، كما البعرة تدل على البعير، وليبدأ كل خطيب منا يسأل عن نفسه عن إنجازه الحقيقي؟ وحجم الأثر الذي تركه في نفوس السامعين؟ وما الذي تغير في سلوكيات وأخلاقيات السامعين؟ وهل يسير وفق خطة معدة سلفاً؟ وما تحقق من أهداف هذه الخطة؟ وهل مستواه الإيماني، والأخلاقي، والسلوكي، والعلمي، في ازدياد أم في تراجع؟ عندها يستطيع أن يقف على الحجم الحقيقي للمشكلة، ويبدأ في البحث عن سبل العلاج، والتي من أبرزها ما يلي:
1-تعظيم شأن المنبر في النفس، وفي الحياة الدعوية، والعامة؛ لأنه لو عظم شأنه؛ لعظم الاستعداد له. والبداية بتعظيم يوم الجمعة ومقامه.
2-إصلاح النفس قلبياً وسلوكياً؛ بحيث تتجه لهذه القربة، وهي تستشعر مسئوليتها الدينية، وإمامتها للناس، وأن التأثير أولى خطواته الإخلاص.
3-تدريب النفس على الإيمان بالفكرة، وصدق الاتصال بها، بحيث تعيش أسرارها، وتتدبر معانيها قبل المجيء، وأثناء الخطبة، وبعدها.
4-معايشة القرآن، وحسن تدبره؛ هو الطريق إلى تدبر العلوم، والبحوث، بحيث يتسع الفكر، ويسبح في تأملات عميقة لدى أي جهد دعوي يقوم به، كالخطب، والمحاضرات، والتأليفات.
5-صحوة القلب ونباهته وامتلاؤه بالذكر والمحبة لله وشرعه، وخلوه من الأشغال الدنيوية، وأسقام القلب المعروفة.
6-تعلم فن الإعداد والإلقاء للخطيب، وتدريب النفس على قراءتها وتكرارها قبل المجيء؛ بحيث تبنى علاقة معرفيه حميمية بين المتحدث وموضوعه.
7-التواصل النقدي بين الجماهير والخطيب، القائم على الحب والعدل والإنصاف، للارتقاء بالصورة الدعوية.
8-تحسس آلام الدعوة، وحاجات الناس للهداية والإصلاح، وحل مشكلاتهم؛ فهو مما يجعل الخطيب حاضراً بقلبه وبلسانه.
9-التزود الروحي الذي يقذف في النفس المسئولية، والهمة والاهتمام؛ لكي يحصل النفع، ويبلغ التأثير مداه.
10-مراجعة الأداء ذاتياً، وتقويم النفس ومحاسبتها على كل خلل من فترة إلى أخرى، بحيث يُعرف صلاحيتها للمنبر أو سواه.
وللحديث بقية بإذن الله تعالى.
الموضوع تم اقتباسه واختصاره من رسالة الدكتور الفاضل/ على عبد الحليم محمد " المسجد وأثره في المجتمع".
التعليقات