المحسنات البديعية وأثرها في جمال الخطبة
شريف عبدالعزيز
من أكثر الأمور التي تشغل بال الخطباء، وتصنع الفارق بينهم، وتطور في أدائهم، وتفتح لهم قلوب العباد وعقولهم، قدرتهم على تقديم خطبته في ثوب قشيب جذاب. فكلما كان الخطيب متمكنا من لغته الخطابية، ممسكاً بنواصي الألفاظ، قديراً في سبك العبارات، محنكاً في صياغة الأفكار بأعذب الكلمات، كلما كانت خطبته أكثر تأثيراً، وأكبر وقعاً، وأوسع انتشاراً، وأعلى قبولاً. وقد كان من عادة السلف الصالح ألا يتولى أحد منهم أمر الخطابة إذا لم ير من نفسه القدرة عليها، أو أنه أهل لها، كما أن السلف -رحمهم الله- لم يجعلوا الخطابة نوعاً من الأداء الوظيفي العادي، أو التكسب المالي، وما ذاك إلا لإحاطتهم بعظم شأنها وعلو مكانتها، فإن الخطيب ينبغي أن يكون عالماً بما يقول وما يذر، ومعرباً مبيناً جهورياً صادقاً ونحو ذلك. ومما يدل على استيعاب السلف لحقيقة هذه المسألة، ما رواه الإمام أحمد عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه ببراءة فقال: يا نبي الله، إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال: ما بد أن أذهب بها أنا، أو تذهب بها أنت. قال: فإن كان ولابد فسأذهب أنا، قال: "فانطلق فإن الله يثبت لسانك، ويهدي قلبك، قال: ثم وضع يده على فمه". ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن المرء لا ينبغي له أن يعتلي المنبر أو يقوم مقام الخطيب إلا وهو يعلم من نفسه القدرة على ذلك من كافة وجوه القدرة على الخطابة، وأنه ممن يستحق أن يوصف بأنه "لسنٌ وخطيبٌ".
فالخطابة ظاهر وباطن، فظاهرها الصياغة البديعة، وباطنها الإخلاص الخالص، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فلا خطبته بليغة فصيحة جذابة دون إخلاص تجدي، ولا خطبة أخلص صاحبها، ولكنها عقيمة الألفاظ، سيئة العبارات، وجدباء التصورات تجدي. وعلم البيان وسيلة إلى الرقي باللغة الخطابية بأساليب عدة بين تشبيه ومجاز وكناية، ودراسة كيفية الرقي بالمعاني تُعينُ على تأدية الكلام مطابقا لمقتضى الحال، مع وفائه بغرض بلاغي يفهم ضمنا من سياقه وما يُحيط به من قرائن. وقوة الأسلوب لا تكفي وحدها في إيصال الغرض والهدف المقصود من الخطبة، والنفس البشرية مجبولة على الالتفاف إلى الجمال والانتباه إلى البديع في كل شيء، ومن ثم كان على الخطيب أن يعمل على تزيين الألفاظ أو المعاني بألوان بديعة من المحسنات اللفظية أو المعنويّةِ التي تجعل خطبته مكللة بأكاليل الجمال والكمال، بديعة تأسر النفوس وتبهر العقول. وحتى يرقى الخطيب بلغته الخطابية، ويجمع فيها كل أسباب الجمال والرقي لابد له من دراسة أفضل الأساليب العربية واللغوية المستخدمة في ترصيع الكلام، وتنميقه وتحسينه، وهو ما برع فيه العرب قديماً، وتنافسوا فيه، وكتبوا وسطروا فيه عشرات المصنفات في البلاغة والبيان والارتقاء بالألفاظ والأوصاف والمعاني، وذلك في باب التحسين الفظي من بديع بلاغات العرب في المنطق والخطاب.
المحسنات اللفظية هي من الوسائل التي يستعين بها الخطيب والداعية والأديب لإظهار أفكاره وأهدافه، وللتأثير في النفس، وهذه المحسنات تكون رائعة إذا كانت قليلة ومؤدية المعنى الذي يقصده الخطيب، أما إذا جاءت كثيرة ومتكلفة فقدت جمالها وتأثيرها وأصبحت دليل ضعف الأسلوب وعجز وعي الخطيب، والمحسنات تسمى أيضاً " الزينة اللفظية -الزخرف البديعي- اللون البديعي -التحسين اللفظي"، وهي على عدة أنواع :
أولاً: السجع: هو الكلام المقفى، إذ يتألف أواخر الكلام على نسق كما تأتلف القوافي، وأصل الاسم من السجاعة، وهو الاستواء والاستقامة والاشتباه، لأن كل كلمة تشبه صاحبتها. قال ابن جني: "سمي سجعًا لاشتباه أواخره وتناسب فواصله". وقد كان كهنة العرب قبل الإسلام يسجعون، بدليل الحديث الذي نهى فيه الرسول عن سجعهم، قال رجل للرسول: "كيف ندي (أي ندفع دية) من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، وثعل دمه يطل، قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟!". وفي رواية: "إياكم وسجع الكهان، وفي الحديث كذلك -أنه نهى عن السجع في الدعاء، وأضاف الأزهري: "فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل المسجع فهو مباح في الخطب والرسائل". والسجع لا يحسن إلا إذا كان رصين التركيب خاليًا من التكرار في غير فائدة، يراوح مع المرسل. ولهذا كان جمال القرآن اللغوي الذي راوح بين الفواصل والإرسال، ومن جهة أخرى نفرنا من أسلوب المقامات، وخاصة المتكلف منه، بينما أعجبنا بالأمثال المسجوعة. فالخطيب إذا استعمل السجع بعض المرات يزيد خطبته سبكًا ورونقًا، بينما إذا استمر على السجع فإنه يتركز على الشكل ويفقد الجاذبية.فالسجع اليسير استعمل قديمًا وما زال. والعودة إليه لا تدل على ارتفاع في الأسلوب، فهو جزء من اللغة لم ينفصل عنها في أية فترة زمنية، فالعبرة في قوة السبك وفي التأثير.
أ-سجع قصير، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ*وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ*وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:1-7].
ب-سجع متوسط، كقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ*وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر:1، 2].
ج-سجع طويل، كقوله تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الأنفال/43، 44].
وينقسم السجع كذلكَ إلى ثلاثةِ أقسام:
1-السجع المطرف: وهو ما اختلفت فاصلتاه في الوزن، واتفقنا في الحرف الأخير، نحو قوله تعالى (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [نوح:13، 14]، ونحو قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا*وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ:6، 7].
2-السجع المرصع: وهو ما اتفقت فيه ألفاظ إحدى الفقرتين أو أكثرها في الوزن والتقفية، كقول الحريري: "هو يطبعُ الأسجاعَ بجواهرِ لفظهِ، ويقرعُ الأسماع َبزواجرِ وعظهِ"، وكقول الهمذاني: "إنَّ بعدَ الكدرِ صفْواً، وبعدَ المطرِ صحْواً".
3-السجع المتوازي: وهو ما كان الاتفاق فيه في الكلمتين الأخيرتين فقط، نحو قوله تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ*وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) [الغاشية:13،15]؛ لاختلاف سرر، وأكواب، وزناً وتقفيةً، ونحو قوله تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا*فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) [المرسلات:1، 2]؛ لاختلاف المرسلاتِ، والعاصفاتِ وزناً فقطْ، ونحو: "حُسِدَ الناطقُ والصامتُ، وهلكَ الحاسدُ والشامتُ -؛ لاختلافِ ما عدا الصَّامتِ، والشامتِ: تقفيةً فقط.
وأحسن السجع ما تساوت فقره، نحو قوله تعالى: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ*وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ*وَظِلٍّ مَمْدُودٍ*وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ*وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ*لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ*وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة:28-34]، ثم ما طالت فقرته الثانية، نحو قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:1-4]، ثم ما طالت ثالثته، نحو قوله تعالى: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)[البروج:5-7]. ولا يحسن عكسه؛ لأن السامع ينتظر إلى مقدار الأول، فإذا انقطع دونهن أشبه العثار، ولا يحسن السجع إلا إذا كانت المفردات رشيقة، والألفاظ خدم المعاني، ودلت كل من القرينتين على معنى غير ما دلت عليه الأخرى، وحينئذ يكون حلية ظاهرة في الكلام، ولا يستحسن السجع أيضاً إلا إذا جاءَ عفوا، خاليا من التكلف والتصنع، ومن ثم لا تجد لبليغ كلاما يخلو منه، كما لا تخلو منه سورة وإن قصرت. ولا يقال في القرآن (أسجاع)؛ لأنَّ السجع في الأصل هدير الحمام ونحوها; بل يقال: (فواصل).
والسجع في الحديث الشريف قليل نسبيا، لكنه يظهر هنا وهناك.ففي وصية للرسول -صلى الله عليه وسلم-:" أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ". ولا شك هنا أن السجع متعمد، بل إن في بعض الأحاديث تغييرات لغوية أجازها الرسول لنفسه، فقد ورد على لسانه: ارجعن مأزورات غير مأجورات، ولفظة "موزورات" بمعنى آثمات، فأجراها على الاتباع.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة"، واللامة هي الملمة، لكن التسجيع جعله يستعمل هذه الكلمة.
وهو تشابه اللفظين في النطق في أداء المعنى، فقد ورد على مر العصور في كلامنا فصيحة وغير فصيحة. فالقرآن يورد: وأسلمت مع سليمان، وأقم وجهك للدين القيم، تتقلب فيه القلوب والإبصار، أزفت الآزفة، إذا وقعت الواقعة، إني وجهت وجهي. وبالطبع فإن القرآن عمد إلى هذا الجناس المطلق وسيلة من وسائل الجذب والسحر اللغوي. وفي الحديث نجد الرسول يتحدث عن قبائل عصية وغفار وأسلم فيقول: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله، ويقول الظلم ظلمات يوم القيامة، المسلم من سلم الناس من يده ولسانه. وقال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان. فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد، وإن أباك لصفوان وهو حجر. فقال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال: فمثلك يشتم تميمًا في عزها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جُمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها.
أنواع الجناس اللفظي:
أولاً: الجناس التام: هو ما اتفق فيه اللفظان المتجانسان في أربعة أشياء، نوع الحروف، وعددها، وهيئاتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها مع اختلاف المعنى.
وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام، هي المماثل والمستوفي وجناس التركيب:
1-الجناس المماثل: هو ما كان ركناه من نوع واحد من أنواع الكلمة اسمين أو فعلين أو حرفين:
أ-الجناس بين اسمين، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) [سورة الروم:55]، فالمراد بالساعة الأولى يوم القيامة، وبالساعة الثانية المدة من الزمان.
ونحو: رحبة رحبة، فرحبة الأولى: فناء الدار، ورحبة الثانية: بمعنى واسعة.
ب-الجناس بين فعلين: مثل قول الشاعر أبي محمد الخازن:
قومٌ لَوَ أَنَّهمُ ارتاضوا لمَا قرَضوا***أَو أنَّهم شَعروا بالنَّقصِ ما شعرَوا
فشعروا الأولى بمعنى أحسُّوا وشعروا الثانية بمعنى نظموا الشِّعرَ.
ج-الجناس بين حرفين: نحو قولك: فلانٌ يعيشُ بالقلمِ الحرِّ الجريءِ، فتفتحُ لهُ أبوابُ النجاحِ ِبه.
فالباء في بالقلم هي الداخلة على الآلة فتفيد معنى الاستعانة، أي أنه يستعين بالقلم على العيش، والباء في به هي باء السببية، بمعنى أن أبواب النجاح تفتح له بسبب قلمه الحر الجريء، ففي البائين جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى.
2-الجناس المستوفي: هو ما كانَ ركناه ُمن نوعين مختلفينِ من أنواع الكلمةِ بأنْ يكون أحدُهما اسماً والآخرُ فعلاً، أو بأنْ يكونَ أحدُهما حرفاً والآخرُ اسماً أو فعلاً. مثالٌ بين الاسمِ والفعلِ نحو: "ارعَ الجارَ ولو جارَ" فالجارُ الأولُ اسم، والجارُ الثاني فعل ٌ. ومثالٌ بين الفعلِ والاسمِ كقول أبي تمام:
ما ماتَ من كرم الزَّمان فإنَّه***يحيا لدى يحيى بن عبد الله
فيحيا الأولُ فعلٌ مضارعٌ، ويحيى الثاني اسمُ الممدوحِ.
3-جناس التركيب: هو ما كان أحد ركنيه كلمة واحدة والأخرى مركبة من كلمتين، كقول الشاعر:
يا سيداً حاز رقى بما حباني وأولى***أحسنتَ بِرًّا فقلْ ليْ أحسنتُ في الشكرِ أوْ لا؟
ثانياً-الجناس غير التام: هو ما اختلفَ فيه اللفظانِ في واحدٍ من الأمور الأربعةِ السابقة التي يجبُ توافرها في الجناسِ التامِّ وهي: نوع ُالحروفِ، وعددُها، وهيئاتُها الحاصلةُ من الحركاتِ والسكناتِ، وترتيبُها مع اختلاف المعنَى. فإنِ اختلفَ اللفظانِ في أنواع ِالحروف فيشترَطُ ألا يقعَ الاختلافُ بأكثر َمنْ حرفٍ واحدٍ، وهذا الجناسُ يأتي على ضربينِ:
1-جناس مضارع: وهو ما كان فيه الحرفان اللذان وقع فيهما الاختلاف متقاربين في المخرج، سواء كانا في أولِ اللفظِ، نحو قول الحريري: "بيني وبينَ كنِّي ليلٌ دامسٌ، وطريقٌ طامسٌ"، أو في الوسطِ، نحو قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [سورة الأنعام: 26]، وقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة:22-24]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
2-جناس لاحق: وهو ما كان الحرفان فيه متباعدين في المخرج، سواء أكانا في أولِ اللفظ، نحو قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)، أو في الوسط نحو قوله تعالى: (ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ) [سورة غافر:75]، وكقوله تعالى: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ*وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:7،8]. أو في الآخر، نحو قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) [سورة النساء:83]. وإن اختلف اللفظ في أعداد الحروف سمي الجناس ناقصاً.
وهو التوازن الموسيقى بين الفقرات من غير اتفاق في الحرف الأخير. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا اؤتمن خان". ومن كلام العرب: "لا يتغير ولا يتبدل"، وقولهم: "النبتة الحائلة، والنحلة الطائرة، والفراشة الحائمة"، وقولهم: "حبب الله إليك الثبات، وزيّن في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى". وجمال الازدواج في إحداث تأثير موسيقي هادئ يطرب الآذان.
هو توازن الألفاظ، معَ توافق الأعجاز، أو تقاربِها. مثل قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار:13، 14]. ومثال التقارب: نحو قوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ*وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الصافات:117-119].
ومثل قول المتنبي:
قَدْ حِرْنَ في بَشَرٍ في تاجِهِ قَمَرٌ***في دِرْعِهِ أسَدٌ تَدْمَى أظافِرُهُ
حرنَ تحيرنَ يعني الأبصارُ وأرادَ بالبشر الممدوحُ، وبالقمرِ ِ وجهَه، وجعلهُ أسداً في الدرعِ لشجاعتهِ، والأظافرُ جمع أظفارٍ، وقوله تدمَى أن ْتتلطخَ بالدمِ بافتراسهِ أعداءَه.
هو الانتقال من ضمير إلى ضمير كأن ينتقل من ضمير الغائب إلى المخاطب أو المتكلم والمقصود واحد. كقوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً*وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [الكهف:47،48].
فقد تكلم الله عن المشركين بضمير الغائب في قوله: (وحشرناهم) ثم بضمير المخاطب في قوله: (جئتمونا). وتكلّم جلّ وعلا عن نفسه فقال :(وحشرناهم) بضمير المتكلم ثم قال: (وعرضوا على ربّك).
وقال البارودي:
أنا المرء لا يثنيه عن طلب العلا نعيم ولا تعدو عليه المقافر
فقد انتقل الشاعر من ضمير المتكلم [أنا] إلى ضمير الغائب في [يثنيه]
سر جمال الالتفات: إثارة الذهن وجذب الانتباه ودفع الملل.
هي أن يجعل المتكلم كلامه بحيث يمكنه أن يغير معناه بتحريف، أو تصحيف. أو غيرهما؛ ليسلم من المؤاخذة، كقول أبي نواس:
لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ***كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَهْ.
فلما أُنكرَ عليه ذلك، قال أبو نواسُ ما قلت إلا:
لقد ضَاءَ شِعْري على بابكم***كما ضاء عقدٌ على خالصَه.
فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروري:
فإنْ يكُ منكم كان مروانُ وابنُه***وعمرو ومنكم هاشمٌ وحبيبُ
فمنا حصينٌ والبطينُ وقعنبٌ***ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ
فإنه لما بلغ الشِّعر هشاماً، وظفر بهِ قال له: أنتَ القائلُ: ومنا أميرُ المؤمنينَ شبيبُ، فقال: لم أقل كذا وإنما قلتُ: ومنا أميرَ المؤمنينَ شبيبُ، فتخلص بفتح الراء بعد ضمها، وهذا ألطف مواربة وقعت.
هو كونُ ألفاظ ِالعبارة من وادٍ واحدٍ في الغرابةِ والتأملِ، مثل قوله سبحانه: (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف:85]. لما أتى بالتاء التي هي أغربُ حروف القسَم، أتى بتَفتأ التي هي أغربُ أفعالِ الاستمرارِ. وقد سقطَ عيسى بن عُمَرَ النَّحويُّ عن حمارٍ له فاجتمع عليه النَّاسُ فقال: "ما لكم تكَأْكَأْتم عَلَيَّ تَكَأْكُؤكم على ذي جِنَّةٍ فافْرَنْقِعوا عنِّي" أَي اجتَمَعْتم تنَحُّوا عنِّي، فقد جمعَ بين لفظين غريبين (تكاكأتُم) و(افرنقِعوا).
هي تساوي الفاصلتينِ في الوزنِ دونَ التقفية، نحو قوله تعالى: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ*وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية:15، 16] فإنَّ مصفوفة ًومبثوتةً مُتَّفقتانِ في الوزنِ، دون التّقفيةِ.
وكقول امرئ القيس:
أفادَ، وسادَ، وقادَ، وزادَ***وشادَ، وجادَ، وزادَ، وأفضلَ
وكقول الشاعر:
وهوبٌ، مهيبٌ، رحيبُ الفناءِ***ربيعٌ، مريءٌ، رفيعُ الذُّرا
والفرق بين الموازنة والمماثلة التزام التسجيع في الموازنة، وخلو المماثلة عنه، والفرق بينها أعني الموازنة وبين التجزئة مخالفة تسجيع أجزاء التجزئة، ومشابهة تسجيع أجزاء الموازنة.
هو الجمعُ بين لفظين متقابلينِ في المعنى، وهو نوعانِ: حقيقيٌّ واعتباريُّ:
الأول: التقابل الحقيقيُّ هو أنواعٌ:
أ-تقابلُ تضادٍّ، نحو قوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم:43].
ب-تقابلُ إيجابٍ وسلبٍ، نحو قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].
ج-تقابل عدم وملكة كقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) [فاطر:19].
د-تقابلُ تضايف، كقولك: "أبو الحسنِ صفيُّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وابنُهُ حبيبُه".
الثاني: تقابلاً اعتبارياًّ، كقوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) [النجم: 44].
صور الطباق: يكونُ الطباقُ بين:
1-اسمينِ، نحو قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد:3]، وكقوله تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف: 18].
2-فعلينِ، نحو قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم:43]، وكقوله تعالى: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) [الأعلى: 13].
3-حرفينِ، نحو قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228]، وقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: 286].
4-لفظينِ منْ نوعينِ مختلفينِ، نحو قوله تعالى: (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 36].
5-بين فعل واسم، كقوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) [الأنعام:122].
أقسامُ الطباقِ: ينقسمُ إلى قسمينِ: طباقُ إيجابٍ وطباقُ سلبِ:
1-طباقُ الإيجابِ: هو ما لم يختلفْ فيه الضِّدانِ إيجاباً وسلباً، نحو قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، وكقوله تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف:18]، ففيهما تطابقٌ إيجابيٌّ بين هذه المذكوراتِ.
2-طباقُ السَّلبِ: هو ما اختلف فيه الضدانِ إيجاباً وسلباً، بحيثُ يجمعُ بين فعلينِ من مصدرٍ واحدِ، أحدهُما مثبتٌ مرةً، والآخرُ منفيٌّ تارةً أخرى، في كلامٍ واحدٍ ، نحو قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) [النساء: 108]، ونحو قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7]، وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9]، أو أحدهُما أمرٌ، والآخرُ نهىٌ، نحو قوله تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:3]، ونحو قوله تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة: 44].
التعليقات