أساليب الأمر والنهي وأثارهما في الأداء الخطابي
شريف عبدالعزيز
إن الكلام البليغ هو الذي يصوره المتكلم بصورة تناسب أحوال المخاطبين، من ثقافة وعلم ومستوى اجتماعي وتعليمي، حتى يكون الكلام مثل الصيب النافع، أينما وقع نفع، وإذاً لابد للخطيب أن يدرس هذه الأحوال، ويَعرف ما يجب أن يصور به كلامه في كل حالة، فيجعل لكل مقام مقَالاً. وقد اتفقَ رجال البيان على تسمية العلم الذي تُعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق اقتضاء الحال: باسم (علم المعاني).
تعريف علم المعاني، موضوعه وأهميته:
(1) علم المعاني أصول وقواعد يعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقاً لمقتضى الحال، بحيث يكون وفق الغرض الذي سيق له. وذكاءُ المُخاطَب يقتضي إيجاز القول، فإذا أوجزت في خطابه كان كلامك مطابقاً لمقتضى الحالِ، وغباوته حال تقتضي الإطناب والإطالة، فإذا جاء كلامك في مخاطبته مطنباً: فهو مطابق لمقتضى الحال، ويكون كلامك في الحالين بليغاً، ولو أنكَ عكست لانتفت من كلامك صفة البلاغة.
(2) وموضوعه اللفظ العربي، من حيث إفادته المعاني الثواني التي هي الأغراض المقصودة للمتكلم، من جعل الكلام مشتملاً على تلك اللطائف والخصوصيات، التي بها يطابق مقتضى الحال.
(3) وفائدته:
ا-معرفة إعجاز القرآن الكريم، من جهة ما خصه الله به من جودة السبك، وحسن الوصف، وبراعة التراكيب، ولطف الإيجاز، وما اشتمل عليه من سهولة التركيب، وجزالة كلماته، وعذوبة ألفاظه وسلامتها، إلى غير ذلك من محاسنه التي أقعدت العرب عن مناهضته، وحارت عقولهم أمام فصاحته وبلاغته. وكذلكَ معرفة أسرار كلام النبي، فهو أبلغ البلغاء، وأفضل من نطق بالضاد، وذلك ليصار للعمل بها، ولاقتفاء أثره في ذلكَ.
ب-الوقوف على أسرار البلاغة والفصاحة في منثور كلام العرب ومنظومه-كي تحتذي حذوه، وتنسج على منواله، وتفرق بين جيد الكلام ورديئه.
وأسلوب الأمر والنهي من أكثر الأساليب الكلامية استخداماً في نصوص الشرع من الكتاب والسنة، فالدين مداره على الأمر والنهي، وإذا لم يفهم الداعية والخطيب المراد من أساليب الأمر والنهي، وحملهما على محمل واحد، وهو الوجوب – فعلاً وتركاً –؛ لضاقت سبل فهم الشرع على المسلمين، وتعسرت أمورهم وحياتهم بالكلية، ولنفر الناس منه نفوراً شديداً، والداعية والخطيب إذا لم يفهم الاستعمالات الحقيقية والمجازية لأساليب الأمر والنهي صار معولاً لهدم الدين والشريعة، لذلك فقد توجب عرض الاستخدامات البلاغية لهذين الأسلوبين في الخطابة للارتقاء بهذه الرسالة السامية في خدمة الدين وأهله.
أسلوب الأمر وأثره في الأداء الخطابي:
أسلوب الأمر: هو طلب حصول الفعل من المخاطب على سبيل الاستعلاء، ويأتي على أربعة أوجه:
1-بفعل الأمر نحو قوله تعالى: }أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ{ [الإسراء:78].
2-أو بالمضارع المجزوم بلام الأمر نحو قوله تعالى: }وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ{ [البقرة:282]، ومثله المئلة نحو قولنا لمن ترك ركناً أو شرطاً من شروط صحة الصلاة: (يعيدُ الصلاةَ).
3-أو باسم فعل الأمر نحو قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{ [المائدة:105].
4-أو بالمصدر النائب عن فعل الأمر: نحو قوله تعالى: }فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ{ [محمد:4]، ونحو قولنا: (ذهاباً إلى بيتِ اللهِ).
وقد تخرج صيغة الأمر عن معناها الأصلي الحقيقي فيراد منها أحد المعاني الآتية بالقرينةِ، لكن الظاهر أنها مستعملة في معناها الحقيقي، وإنما تختلف الدواعي، وإن الاستعمالات المجازية لأسلوب الأمر هي التي تضفي على الكلام بلاغة ورونقاً وجمالاً، ولها استخدامات كثيرة من أهمها:
1-الدعاء، نحو قوله تعالى: }رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ{ [النمل:19].
2-الالتماس، نحو: (اذهب إلى الدار) تقوله لمن يساويكَ.
3-الإرشاد،نحو قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ{ [البقرة/282]، ونحو قوله النبي"إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا". قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ: "الْمَسَاجِدُ ". قُلْتُ وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ " (أخرجه الترمذي).
4-التهديد، نحو قوله تعالى: }اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{ [فصلت:40، 41].
5-التعجيز، نحو قوله تعالى: }فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ{ [البقرة:23].
6-الإباحة، نحو قوله تعالى: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ{ [البقرة/187].
7-التسوية، نحو قوله تعالى }فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا{ [الطور/16].
8-الإكرام، نحو قوله تعالى: }ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ{ [الحجر/46]، وقوله تعالى: }ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ{ [ق:40].
9-الامتنان، نحو قوله تعالى: }فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا{ [النحل:114]
10-الإهانة والتحقير، نحو قوله تعالى: }قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا{ [الإسراء:50]، أو نحو قول جرير يهجو الشاعر النميري:
فغض الطرف إنك من نمير***فلا كعبا بلغت ولا كلابا
11-الدوام، نحو قوله تعالى: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{ [الفاتحة:6].
12-التمنِّي، كقول امرئ القيس:
ألا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِي***بِصُبْحِ وَمَا الإصباحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
13-الاعتبار، نحو قوله تعالى: }انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ{ [الأنعام:99]، ونحو قول رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا مَرَرْتُمْ عَلَى أَرْضٍ قَدْ أُهْلِكَ أَهْلُهَا فَاعْدُوا السَّيْرَ". (أخرجه الطبراني).
14-الإذن، نحو قولك: (ادخل) لمن طرقَ الباب. ونحو قوله تعالى: لأهل الجنة }ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ{ [الحجر:46].
15-الخلق، نحو قوله تعالى} (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ [يس:84].
16-التخيير، نحو قوله تعالى: }فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً{ [النساء:3]، وقوله تعالى: }إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ{ [المائدة: 33].
17-التأديب، نحو قول الرسول لعمر بن أبي سلمة: "يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" (البخاري ومسلم).
18-التعجب، نحو قوله تعالى: }انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً{ [الإسراء:48].
ثانياً: أسلوب النهي وأثره في الأداء الخطابي:
النهي: هو طلب المتكلم من المخاطب الكف عن الفعل، على سبيل الاستعلاء.
أدواتُه وهي إمَّا:
1-بصيغة المضارع المدخولِ عليها بلا الناهية، كقوله تعالى: }وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ{ [البقرة:188].
2-أو بالجملة الدالة على ذلك، كقولكَ (حرامٌ أن تفعلَ كذا) أو بلفظ نهَى. نحو قول علي بن أبى طالب -رضى اللهُ عنه-: "إِنَّ نبي اللَّهِ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِى يَمِينِهِ وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِى شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي" (أخرجه أبو داود). ونحو قول أَبى هريرة -رضي الله عنه-: نهى رسول اللَّه عن صلاتين بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس". (أخرجه البخاري).
وقد يرد بلفظ اللعن نحو قوله: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" (أخرجه البخاري).
وقد يستفاد من النهي معان أخر مجازاً بالقرينة، وهو مضمار البلاغة وحسن الاستخدام الخطابي، وذلك على ما يلي:
1-الدعاء، كقوله تعالى: }رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا{ [البقرة:286].
2-الالتماس، كقولك لأخيكَ: (لا تفعل خلاف رضاي).
3-الإرشاد، كقوله تعالى: }لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ{ [المائدة:101].
4–الدوام، كقوله تعالى: }وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ{ [إبراهيم:42].
5-بيان العاقبة، كقوله تعالى: }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{ [سورة آل عمران:159].
6-التيئيس، كقوله تعالى عن المنافقين: }لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ [التوبة:66].
7-التمني، كقول الشاعر:
طلعنا ندلّي الضحى ذاتَ يومٍ ونهتفُ: يا شمسُ لا تغربي
8-التهديد، كقولك لولدك مهدداً (لا تذهب إلى مجالس البطالين).
9-الكراهة، نحو (لا تشتم الريحان في يوم الصوم).
10-التوبيخ، كقول أبي الأسود الدؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ***عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
11-الإيناس، كقوله تعالى: }إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا{ [التوبة: 40].
12-التحقير، كقول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر
دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها***واقْعُدْ فإنَّك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي
13-الاعتبار، نحو قوله لَما مر بالحجر: "لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ". ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ، وَهْوَ عَلَى الرَّحْلِ" (أخرجه البخاري).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
التعليقات