اكتشاف الطاقات
العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، وبدونه تموت في مهدها أي فكرة، وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء فإنما هم بذلك يُصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاؤوا أم أبوا.
وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور يعلنون العزم المبَيّت على تجميد الحركة والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة. إن هذه الظواهر الاجتماعية التي يعرفها الخاص والعام قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنهـا؛ فهـي ثابتـة لا تتغيـر، وكـونيــة لا تتبدل. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» رواه مسلم، كتاب البر
لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية؛ فجعلتهم مشاعل هداية، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية؛ فكان الواحد منهم بأمة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
إن مما يجدر بنـا أن نستحضـره فـي كـل حـين أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في قائمة من هو: (غير قادر على العطاء)، بل الجميع يملكون شيئاً ما ـ إن لم يكن أشياء ـ يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم، وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول.
فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً لتجلّى لنا ذلك في أروع صورة؛ فالصدِّيق أمين السر ورفيق السفر، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد، والصبي ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل وتكامله بحسب القدرة.وعلي ينام على فراش النبي .
وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً: «تصدقَ رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة» رواه مسلم، كتاب الزكاة. بل في قمة أعمال البذل والعطاء ـ في الجهاد في سبيل الله ـ يبرز هذا المَعْلَم الإسلامي في أجلى صوره؛ فالكل يبذل، والجميع يُضحي، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» رواه النسائي، كتاب الجهاد.
إن خطر وأد الذات وتحييدها عن العطاء لا يمكن تجاهله أو تناسيه، خاصة في هذه الحقبة التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب، وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك.
-
ومن صور وأد الذات الذي يمارسه أحياناً بعض من يتولى الريادة والقيادة ما يلي:
1 ـ ألاَّ تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل واحد منهم بحسبه، فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع، وقد خلق الله الناس مختلفين: منهم (القادة) ومنهم (الساقة) { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 3].
2 ـ ألاَّ يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال، بل تتكرر الوجوه نفسها دائماً لكل الأعمال، وهذا يقتل الفئتين؛ فالعاملة تُنهك بالأعمال، حتى تصبح غير قادرة على العطاء المثمر، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم، وأما الكثرة الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة.
3 ـ الحكم بالإخفاق المؤبد علـى من يُسـند له عمل مـا، ثم لا يتقنه، في الوقت الذي قد يحسن غيره، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا يحسنه(1).
-
لماذا نحرص على اكتشاف الطاقات؟
إن القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق، والتميز لدى المرؤوسين بأفضل ما يمكن يعتبر من مسلّمات الإدارة الناجحة. ولكي يتحقق هذا كان لزاماً على الدعاة والمربين معرفة وتمييز هذه المكامن لدى المدعوين والمتربين وهو ما نعنيه باكتشاف الطاقات.
إن توفر الرجال (أولاً)، والقدرة على توظيفهم لخدمة أهداف رسمها لهم القادة (ثانياً) هما طرفا المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة.
كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها وتفوقها: «لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على اجتذاب أفضل الطاقات البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية».
يقول أحد المفكرين: «إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام»(2).
-
ويمكنا هنا أن نقرر ما يلي:(فوائد اكتشاف الأفراد والطاقات):
أولاً: أن توظيف الأفراد في المجالات التي يبدعون فيها يمكنهم من أن يقدموا أفضل ما لديهم لخدمة الأهداف المرسومة.
ثانياً: أن ذلك يعتبر حافزاً لاستمرارية العطاء لدى الأفراد؛ حيث يحققون ذواتهم بتميّزهم وتفوقهم من خلال إمكاناتهم الحقيقية.
ثالثاً: أن في توظيف أصحاب الطاقات في المجالات التي تميزوا فيها تحقيقاً للمزيد من التألق والإبداع في مجالات عملهم.
رابعاً: أن عدم معرفة الطاقات واكتشافها يفضي إلى وضع الأفراد في أعمال لا تتناسب مع قدراتهم، مما يضعف الأعمال ويتسبب في إخفاقها.
خامساً: أن سد الثغرات بالمرؤوسين الأكفاء الذين أحسن القائد انتقاءهم يمكنه من التفرغ والمراقبة عن كثب لمن هم بحاجة إلى توجيه، وبهذا يستطيع من خلال معرفته للرجال سد الثغرات، والارتقاء بالآخرين دون عناء.
سادساً: أن عدم المعرفة المسبقة بالطاقات الموجودة وتوظيفها في وقت السعة والرخاء يجعل العثور عليها في وقت الضرورة شاقاً وعسيراً، كما أنه حتى وإن ـ تم اكتشافهـا ـ آنـذاك ـ قـد لا يكون هناك وقت لتطويرها وصقلها بالشكل المناسب.
-
خصائص المبدعين:
ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع، غير أن من أهمها ما يلي:
1 ـ الخصائص العقلية:
أ ـ الحساسية في تلمُّس المشكلات: يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في المواقف المختلفة أكثر من غيره؛ فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن حل لها، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام)، أو يتلمسون مشكلة دون الأخريات.
ب ـ الطلاقة: وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار في فترة زمنية قصيرة نسبياً، وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع، وتنمو شجرته، وهذه الطلاقة تنتظم:
ـ الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار، (اذكر كل الاستخدامات الممكنة لكوب الشاي).
ـ طلاقة الكلمات: سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها بصورة تدعم التفكير. (اذكر أكبر عدد من الكلمات التي تبدأ بحرف الصاد).
ـ طلاقة التعبير: سهولة التعبير عن الأفكار، وصياغتها في قالب مفهوم.
ج ـ المرونة: وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل والعكس، ومن اليمين إلى اليسار والعكس، ومن الداخل إلى الخارج والعكس، وهكذا) من أجل توليد الأفكار عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة التلقائية)، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التكيّفية) مثال: الإمساك بطير وقع في حفرة عميقة. د ـ الأصالـة: وتعنـي القـدرة على إنتـاج الأفـكـار الجديـدة ـ على منتجها ـ وغير المكررة؛ فهي (أي الأصالة) تقاس بقيمة الأفكار لا بعددها، بشرط كونها مفيدة وعملية.
هذه الخصائص الأربع حددها (جلفورد)، وتشكل هذه الخصائص بمجموعها ما يسمى بالتفكير المنطلق (المتشعب)، وهو استنتاج حلول متعددة قد تكون صحيحة من معلومات معينة، وهذا اللون من التفكير يستخدمه المبدع أكثر من التفكير المحدد (التقاربي)، وهو استنتاج حل واحد صحيح من معلومات معينة.
هـ ـ الذكاء: أثبت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع ليس شرطاً للإبداع، وإنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع.
وزادت بعض الدراسات العربية: الاحتفاظ بالاتجاه، وتعني القدرة على التركيز لفترات طويلة في مجال اهتمامه، برغم المعوقات والمشتتات.
2 ـ الخصائص النفسية:
يمتاز المبدع نفسياً بما يلي:
أ ـ الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها. ب ـ قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب المغامرة. ج ـ القدرة العالية على تحمل المسؤوليات.
د ـ تعدد الميول والاهتمامات. هـ ـ عدم التعصب.
و ـ الميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله، مع خصائص اجتماعية وقدرة عالية على اكتساب الأصدقاء.
ز ـ الاتصاف بالمرح والأريحية.
ح ـ القدرة على نقد الذات والتعرف على عيوبها.
-
خصائص متفرقة:
أ ـ حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل. ب ـ الميل إلى النقاش الهادئ.
ج ـ الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان).
د ـ دائم التغلب على (العائق الوحيد). (العائق الذي يتجدد، ويتلون لصرفك عن الإنتاج والعطاء).
هـ ـ البذل بإخلاص وتفان، وعدم التطلع إلى الوجاهة والنفوذ، بمعنى أن تأثره بالدافع الداخلي (كالرغبة في الإسهام والعطاء، تحقق الذات، لذة الاكتشاف، والانجذاب المعرفي، ونحوها) أكثر من الدافع الخارجي (المال، الشهرة، المنصب، ونحوها).
هل يتوجب توفر هذه السمات جميعها في الإنسان حتى يكون مبدعاً؟
بالنسبة للخصائص العقلية ينبغي توفرها كلها بدرجة معقولة، أما الخصائص الأخرى فيكفي أغلبها.
وهناك بعض الروائز (المقاييس) التي يطبقها بعض من المعاصرين للتعرف على الشخص المبدع، وتقوم تلك الاختبارات على طرح بعض الأسئلة التي تقيس مستوى الثقافة وحسن التصرف، وتحدد الفارق بين المستوى العمري والمستوى العقلي. لكن تلك الاختبارات في الغالب ليست دقيقة النتائج؛ حيث يضعف من مصداقيتها، ودقة نتائجها عوامل متعددة كطبيعة البيئة الأسرية والاجتماعية للفرد، والمستوى الثقافي والحضاري فيهما.
-
كيف يتم اكتشاف الموهوبين والمبدعين؟
يعتمد نجاح البرامج المعدة لرعاية الموهوبين إلى حد بعيد على مدى النجاح في تشخيصهم وحسن اختيارهم؛ ولذلك تعددت وتطورت وسائل طرق التعرف على الموهوبين، والكشف عنهم والتي من أهمها :
1 ـ ملاحظة العمليات الذهنية التي يستخدمها الطالب في تعلم أي موضوع أو خبرة في داخل غرفة الصف أو خارجها.
2 ـ ملاحظة أداء الطالب، أو نتائج تعلمه في أي برنامج من برامج النشاط، أو أي محتوى يعرض له أثناء الممارسة، أو الصور التي يعرضها في سلوك حل المشكلات.
3 ـ تقارير الطلاب عن أنفسهم، أو تقارير الآخرين عنهم، مثل: تقارير المعلمين ومشرفي الأنشطة، والآباء والأمهات، وزملاء الدراسة.
4 ـ استخدام المقاييس النفسية مثل: اختبارات الذكاء، والتحصيل، ومقاييس الإبداع.
إلا أننا يجب أن نتذكر دائماً أنه لا يوجد طريقة واحدة يمكن من خلالها التعرف على جميع مظاهر الموهبة؛ لذلك فإن التعرف يتحقق بشكل أفضل دائماً باستخدام مجموعة من الأساليب المتنوعة التي تعتمد بشكل أفضل دائماً على عمل الفريق.
كما يجب أن نتذكر أيضاً أنه كلما بكّرنا في اكتشاف الطفل المتفوق أو الموهوب، وهو ما زال في مرحلة عمرية
قابلة للتشكيل كان ذلك أفضل كثيراً من الانتظار إلى سن متأخرة، قد يصعب فيها توجيه الموهوب الوجهة المرجوة؛ نظراً لما يكون قد اكتسبه من أساليب وعادات تجعل من الصعب عليه التوافق مع نظام تربوي، أو تعليمي مكثف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنت قادر على العطاء، د. شاكر بن عبد الرحمن السروي، البيان.
(2) سامي سلمان، بعنوان: (معرفة الرجال من سمات القيادة الناجحة)، البيان، بتصرف.
-
مختصراً بتصرف إعداد محمد بن صالح الداود، مدير إدارة الثقافة والمكتبات بإدارة التعليم بمحافظة الطائف ـ السعودية
التعليقات