"ظاهرة البلطجة" .. الأسباب والعلاج
نشر موقع "صوت الأئمة" خطة للدكتور محمد سالم * بعنوان " ظاهرة البلطجة" .. الأسباب والعلاج قال فيها ..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد
ماذا يقصد بالبلطجة؟ ومن هو البلطجي؟
فحديثنا اليوم أيها الأحبة عن ظاهرة انتشرت في مجتمعاتنا…جديدة علينا…. لكنها انتشرت في غفلة منا… حتى وكأنها ظاهرة متأصلة في المجتمع رغم حداثة العهد بانتشارها !!!!…. وهي ظاهرة خطيرة جدا ألا وهي "ظاهرة البلطجة"
واذا ما سمع الواحد منا هذه الكلمة تبادر إلى ذهنه تلك الصورة التي نرى فيها شخصا يسلب الناس أموالهم تحت تهديد السلاح …أو بعض الأفراد يعتدي بعضهم على بعض بالسلاح أو بالعصي ..أو .. أو ولكن الجامع المشترك بين كل هذه المظاهر هو سلب الناس، سواءًا أكان سلب حاجاتهم …. أو سلب أمنهم وراحتهم !
والبلطجة في الحقيقة ليست هذا فقط…. وان كان هذا المظهر أشهر ما يتبادر إلى الذهن، ولكن هناك من أنواع البلطجة ما هو أخطر من هذا بكثير، لأن البلطجي في تلك الصورة يضر الفرد بعد الفرد… لكن هناك أنواع من البلطجة يضر الإنسان بها الكثير من الناس…. بل ويضر المجتمع بأسره !
هذا الموظف الذي يتخذ من وظيفته وسيلة لسلب أموال الناس بلطجي في صورة موظف، هذا الذي ينزع حق غيره ويعتدي عليه فيقف قبل الناس في طابور مثلا ويعتدي على حق غيره….. بلطجي، هذا الذي يستغل نفوذه على الناس فيطغى عليهم…. بلطجي !
هذا الذي يريد أن يسلب حقي في التعبير عن رأيي…. بلطجي. بل وأشد خطرا من كل الأنواع السابقة لأنه يريد أن يكون هو المسموع…. وانه وحده صاحب الحق حتى ولو بإسكات صوت الآخر ولو كان محقا !
ألم تفعل هذا قريش من قبل في مواجهة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى حاكيا قول كفار قريش في محاربتهم للدعوة وبلطجتهم عند سماع القرآن كما جاء في سورة فصلت: (( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)) قال الشنقيطي في أضواء البيان ج2/ص54 قال بعض العلماء: والمقصود التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم!
فهذا نوع من البلطجة الفكرية التي يستحل فيها الخصم وصم خصمه بكل دنيه أو يخلط عليه حقه!
ومن هنا يمكن أن نقول أن حصر البلطجة فيما كنا نظن… هو فهم قاصر. لأن تلك الظاهرة قد تصيب حتى الطبقات التي ينبغي إن تكون مضرب مثل للرحمة! فذاك الطبيب الذي لا يعالج المريض في التأمين الصحي رغم أن العلاج حقه… حتى يذهب إليه في العيادة الخارجية ويدفع له ليقابله في اليوم التالي ليصرف له تذكرة العلاج من التأمين …بلطجي … ويؤسفني أن أقول هذا…
وذاك الموظف الذي يعمل في مكان محدد – كالمواقف والمطارات ونحوها- فيجعل من مكانه سببا لغناه على حساب الدولة بلطجي وأي بلطجي!!!!! لأنه يضيع الملايين على الدولة في مقابل الآلاف التي تدخل بيته سحتا وحراما وغصبا….
ثانيا:أسباب انتشار تلك الظاهرة:
1-غياب القدوة المربي
وأقصد بالقدوة الأب في بيته…. والمعلم في مدرسته…. والإمام في مسجده…. والممثل في تمثيله… لأن كل هذه العوامل تؤثر تأثيرا مباشرا في تكوين الفرد…
فان الإنسان يولد كالورقة البيضاء قابله لكل ما يسطر فيها من خير وشر … أخرج البخاري في صحيحه ج1/ص456/1293 بسنده عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما من مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ على الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو ينصرانه أو يُمَجِّسَانِهِ كما تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هل تُحِسُّونَ فيها من جَدْعَاءَ ثُمَّ يقول أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ((فِطْرَةَ اللَّهِ التي فَطَرَ الناس عليها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ))
وفي هذا بيان أثر المربي في رسم مستقبل الأطفال فإذا لم يجد الطفل من يحرص على تنشئته التنشئة القويمة عملت في تربيته كل يد…. فإذا هو مسخ متناقض !
وأنا أشرت إلى القدوة المربي… لانّا في الحقيقة عندنا أزمة في القدوة… فما بالك إن كان قدوة مربي… مرب بقوله…. ومرب بسلوكه…. لكن ما أكثر ما نسفّه رموزنا… حتى أصبح الناس بين لاعن وطاعن… نسأل الله العافية.
كذلك من أسباب انتشار الظاهرة وتوغلها
2- وسائل الإعلام وتناولها لهذه الظاهرة
وإنني لأعجب من صانعي الأفلام والمسلسلات عندنا… وكيف أنهم يصورون الناس في مصر على أنهم كلهم بلطجية وان الفاحشة والرذيلة في كل ركن من ربوع المحروسة!
وإذا أردت أن تعرف…. فيكفيك إن ترجع بالذاكرة إلى 10 أعوام وتنظر كم فيلم… وكم مسلسل ظهر فيه البلطجية …..والأسوأ أن يظهر فيه البلطجي بصورة الموزع العادل لما يسلبه من الناس…. وان البلطجي في منطقته مثال لإنصاف الضعيف…. ومواساة الأرملة والمسكين فإذا هو بدل إن تنفر منه النفوس…. يصبح مثار إعجاب خاصة لضعاف النفوس أو المتحمسين من الشباب الغر !
إن على المسئولين حماية الفضيلة…. لان المسلسل يظل يعرض صورة لبلطجي أو لتاجر مخدرات طوال 29 وعشرين حلقه ثم يقبض عليه في آخر عشر دقائق من المسلسل الذي ظل يعرض على مدار 25 ساعة من الدراما ….لهو من أخطر المعالجات فانه يؤصل لتلك الظواهر ولا يعالجها!، أليس هذا من إشاعة الفاحشة؟
كنت أكلم بعض الناس يوما وقلت له المسلسل يظل طوال شهر كامل لا تخلوا حلقه منه من ظهور للبلطجي والخارج على القانون بل يكاد يكون هو وحده محور الفيلم أو المسلسل ثم يعالج الأمر علاجا هزيلا هزليا …. فقال انه يعلمنا الصواب من الخطأ …فقلت: أإذا أردت أن اعلم ابني أن الكهرباء تقتل، أمن الصواب أن أمسك السلك العاري حتى أموت أمامه حتى يتأكد أنها تقتل؟
على ولاه الأمر أن يتصدوا لمثل هذه الأمور التي تطعن في خُلق المجتمع… لان الضرر الحاصل منها يعود على المجتمع كله….
ألم يعالج القرآن المحظور فقال (( ولا تقربوا )) وقال لسيدنا آدم ((ولا تقربا هذه الشجرة)).
كذلك من أسباب انتشار تلك الظاهرة
3- قلة الحياء… وغياب التربية الوالديه، وإهمال تنشيط الوازع الشخصي (بل والعمل بخلافه)
إن الحياء سياج يحصن المجتمع من كل بلية وهو حصن لأخلاق المجتمع فإذا ضاع الحياء ضاعت معه الأخلاق أخرج مسلم في صحيحه ج1/ص64/ح37 بسنده أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قال كنا عِنْدَ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ في رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بن كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ قال أو قال الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ.
أما إذا ضاع الحياء فقد ضاع خير كثير أخرج البخاري في صحيحه ج5/ص2268/ح5769 بسنده عن أبي مَسْعُودٍ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ الناس من كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذا لم تستح فَاصْنَعْ ما شِئْتَ
كذلك غياب التربية الوالديه وهذه مصيبة المصائب : كثير من الآباء يفهم أن معنى التربية محصور في أن أوفر لأولادي الطعام والشراب والمسكن والمأكل!!! ما أسهل التربية حينئذ بل لو ربا الإنسان شاه لاحتاجت حينئذ أكثر مما يحتاج الإنسان لكن التربية مفهوم آخر….. إنها منهج
منهج يجعل من هذا الولد رجلا إن احتاج الموقف لرجل ….. رحيما إن احتاج الموقف لرحيم … إنسانا إن احتاج الموقف إنسانا ….. الخ.
فالتربية هي بناء الإنسان على المنهج القويم ما استطاع المرء…. فإذا لم يستطع بنفسه وَكَل أمر ولده إلى من يعينه على أداء مهمته.
فإذا ربي الولد هذه التربية نما عنده الوازع الديني فلا يمكن ان يؤذي أحدا أو يظلم أحدا فضلا عن أن يبلطج على أحد أو يسلب حق احد.
ومن أسباب انتشار تلك الظاهرة
4- اهتزاز الثقة في القضاء ..أو في الطرق القانونية التي يمكن أن يلجأ إليها صاحب الحق لاستيفاء حقه.
وهذا من أخطر الأسباب على الإطلاق لان اليأس من استيفاء الحق بالطرق المشروعة تؤدي إلى سعي الإنسان استيفاء حقه بأي وسيلة وبكل وسيله …. وحينئذ وان كان الإنسان ملاما فقد يجد معه متعاطفا. اليأس خيانة…. وإذا أغلقت أبواب الرحمة سارع الإنسان إلى الولوج في غيرها…. فإذا فعل فقد شط. وأريد من سيادتكم أن تقرؤوا معي هذا المشهد في هذا الحديث المشهور
أخرج البخاري في صحيحه ج3/ص1280/ح3283 بسنده عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان في بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فقال له هل من تَوْبَةٍ قال لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فقال له رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فيه مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى الله إلى هذه أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى الله إلى هذه أَنْ تَبَاعَدِي وقال قِيسُوا ما بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلى هذه أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ له
انظر حينما أغلق الراهب عنه باب الرحمة قتله فكمل به المائة ولو ذهب إلى ألف راهب فأفتوه بمثل ما أفتاه به الأول لقتلهم…. لان الذي يدخل النار في تسعه وتسعين يدخل في ألف ولكن العالم فتح أمامه باب الرحمة…. فكانت النتيجة أن عاد إلى المجتمع مرة أخرى صادق التوبة.
لهذا كان أهميه وجود الطرق المشروعة لاستيفاء الحق وإلا أصبح الناس كاليوث الغاب يأكل القوي فيهم الضعيف لذا قال الشاعر محذرا وناعيا خطورة الجور في القضاء وتيئيس الناس من العدل.
قال الابشيهي في المستطرف في كل فن مستظرف ج1/ص220
إذا خان الأمير وكاتباه *** وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل *** لقاضي الأرض من قاضي السماء
إن أسرع شيء في الناس الآن أن يسحب كل واحد عصاه فيعتدي على غيره أو يسحب سلاحه وربما قتل وبعضهم على ثقة بأنه يستطيع بماله أو نفوذه أن يفلت من العقاب ولا يعلم بذلك انه يصنع لنفسه عداوات قد لا تنطفئ ….. بل لا يكادون يسمعون لكلام عاقل وتشتد العداوات وتتعطل المصالح!
ما العلاج اذن؟
لا شك انه كلما اتسعت المشكلة احتجنا في علاجها إلى تضافر الجهود المسجد مع المدرسة …الأب مع المعلم… مع الإمام…. مع القس… كل يعمل ما يستطيع حتى ننتقل بمصرنا إلى الأمن وإلا فإنّا جميعا خاسرون !
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
------------------------------------------------------------------------------------
*كتبه الدكتور/ محمد عبد السلام سالم .. إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية
التعليقات