إحياء سنة من شعائر صلاة الجمعة

إنَّ حمل العصا أثناء الخطبة يوم الجمعة كان لقرون طويلة جزءًا من شعيرة الجمعة، وهو أمر قديم توارثته الأمة خلفًا عن سلف، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- من بعده يفعلونه؛ حتى إنَّ الإمام القرطبي -رحمه الله- ذكر انعقاد الإجماع على ذلك؛ وذلك عند تفسير قول الله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} [طه: 17، 18].
وإليكم أيها الإخوة جملة من الأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم المعتبرين التي تبيّن أن الاعتماد على العصيَ في حال الخطبة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضي الله عنهم- ومن جاء من بعدهم.
أولًا: الأحاديث:
الحديث:
عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- قالت : سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي، مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُنَادِي: "الصَّلاَةَ جَامِعَةً". فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِى تَلِى ظُهُورَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلاَّهُ». ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟». قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:«إِنِّى وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلاَ لِرَهْبَةٍ؛ وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَمِيماً الدَّارِىَّ كَانَ رَجُلاً نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِى حَدِيثاً وَافَقَ الَّذِى كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ...» ثم قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِى الْمِنْبَرِ-: «هَذِهِ طَيْبَةُ.. هَذِهِ طَيْبَةُ.. هَذِهِ طَيْبَةُ..». يَعْنِى: الْمَدِينَةَ «أَلاَ هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟». فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ... إلى آخر الحديث. [أخرجه مسلم في صحيحه، في باب: قصة الجساسة، وأبو داود في السنن، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الكبير].
والمخصرة: قال عنها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في (الفتح 6/312): بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ ع ليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا للاتكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل إذا أمسك المخصرة.
ثانيًا: عمل الخلفاء الراشدين:
عن أنس -رضي الله عنه-: أن عمر -رضي الله تعالى عنه- قرأ على المنبر: {فأنبتنا فيها حبًا وعنبً} إلى قوله: {وأبا}. فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب. ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وسعيد بن منصور من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا حميد عن أنس به، و ابن سعد].
وروى محمد بن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر وفي يده عصا: يا أيها الناس لا تمنعكم اليمين من حقوقكم، فو الذي نفسي بيده إن في يدي لعصا. [ذكره الشيرازي في المهذب، والمقدسي في المغني].
وعن موسى بن طلحة قال: كان عثمان يوم الجمعة يتوكأ على عصا، وكان أجمل الناس، وعليه ثوبان أصفران إزار ورداء حتى يأتي المنبر، فيجلس عليه. [أخرجه الطبراني في الكبير].
وعن يحيى بن عبد الرحمن بن خاطب عن أبيه قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-. [أخرجه الطبري في تاريخه].
ثالثًا: أقوال أهل العلم في الخطبة مع العصا:
قال الإمام مالك: وذلك ممَّا يستحبّ للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصا، يتوكَّؤون عليها في قيامهم، وهو الذي رأينا وسمعنا. [المدونة].
وفي قول الإمام مالك هذا دليل على جريان العمل على ذلك، وأنه من أمر الناس القديم الذي توارثوه وتواطؤوا عليه.
وقال الإمام مالك في موضع آخر: في خطبة الإمام يوم الجمعة: يمسك بيده عصا قال مال: وهو من أمر الناس القديم. قلت له: أعمود المنبر أم عصا سواه؟ قال: لا بل عصا سواه.
وفي هذا ردٌّ على من يكفي بالاعتماد على أعواد المنبر أو حوافِّه.
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: وبلغنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب اعتمد على عصا وقد قيل خطب معتمدًا على عنزة وعلى قوس وكل ذلك اعتماد.
وعن الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا إبراهيم عن ليث عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادًا.
قال الشافعي: وأحب لكل من خطب أي خطبة كانت أن يعتمد على شيء وإن ترك الاعتماد أحببت له أن يسكن يديه وجميع بدنه ولا يعبث بيديه.
وخلاصة القول أنَّ المالكية والشافعية والحنابلة قالوا بحمل العصا على المنبر واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما رواه أبو دواد عن الحكم بن حزن قال: "وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكِّئًا على سيف أو قوس أو عصا مختصرًا".
وعند الأحناف ذكر العلامة ابن عابدين في "رد المحتار": "وفي الخلاصة: ويكره أن يتكئ على قوس أو عصا. (قوله: وفي الخلاصة... إلخ) استشكله في الحلية بأنه في رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قام -أي في الخطبة- متوكئًا على عصا أو قوس"اهـ. ونقل القهستاني عن المحيط أن أخذ العصا سنة كالقيام.
وقال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: "التوكؤ على العصا".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك.
وعن ابن شهاب الزهري أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر، فإذا سكت المؤذن قام فخطب الخطبة الأولى، ثم جلس شيئًا يسيرًا، ثم قام فخطب الخطبة الثانية حتى إذا قضاها استغفر، ثم نزل فصلى، فكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم. [أخرجه أبو دواد في المراسيل، وإسناده صحيح].
وعن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفر وخطبهم متوكئًا على قوس. [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وسنده صحيح].
وعن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوكأ على عصا وهو يخطب يوم الجمعة، إذ كان يخطب إلى الجذع فلما صنع المنبر قام عليه، وتوكأ على العصا أيضًا. [أخرجه عبد الرزاق في المصنف].
وقال الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره: وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. [فتح القدير].
وخلاصة القول من خلال الأحاديث الصريحة والصحيحة، وعمل الخلفاء الراشدين، وأقوال أهل العلم يتبيّن بكل جلاء ووضوح سنِّيَّة الاتكاء على العصا للخطيب.
فوائد اعتماد الخطيب على العصا
1- الاعتماد على قوس أو عصا يشغل الخطيب عن مس اللحية والعبث باليد.
2- اعتماد الخطيب على القوس أو العصا أعون له، وأمكن لروعه، وأهدأ لجوارحه.
كيف يحمل العصا
يحملها بيمينه عند المالكية، ويستحب عند الشافعية أن يجلها في يده اليسري، ويشغل يده اليمنى بحرف المنبر.
وجاء في كشاف القناع من كتب الحنابلة: أن يجعلها بإحدى يديه؛ إلا أن صاحب الفروع ذكر أنه يتوجه باليسرى ويعتمد بالأخرى على حرف المنبر، فإن لم يجد شيئًا يعتمد عليه، فقد ذكر الشافعية أنه يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يعبث بهما.
---------------------
نشر هذا المقال بمجلة منار الإسلام، عدد يونيو 2008م.
التعليقات